لا يختلف اثنان على الخلفية الكيدية للاستشراق الغربي، ولا على أنه كان المطية التي امتطاها من أجل إسقاط التفوق الحضاري للأمة الإسلامية، بل والجرأة على استعمار جل دولها. وإن خالف بعضهم هذا التصور فلأنه صادف بعض المستشرقين الذين جذبهم حس البحث العلمي في الحضارة الإسلامية، أو كما قال الدكتور مصطفى السباعي –رحمه الله تعالى – (وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين).. وعلى الرغم من انكشاف الخدعة الاستشراقية، فإن جماعة من المفكرين (من ذوي الثقافة الغربية غالبا) وقعوا ضحية فخوخ ومصائد الفكر الاستشراقي الماكر. وهكذا أنتجت هذه الهجمة المعرفية الشرسة على الإسلام أجيالا من المستشرقين الذين عرفوا بعدائهم للإسلام، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: غولد تسيهر مجري الجنسية، يكن للإسلام عداء دفينا، ويرى ذلك في كتاباته، ومنها "تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي". عزيز عطية سوريال: مدرس بإحدى الجامعات الأمريكية، عدو لدود للإسلام والمسلمين، واشتهر بكثرة تحريفه للتعاليم الإسلامية وله كتب حول الحروب الصليبية. هنري لامنس اليسوعي: مستشرق فرنسي بالغ في عدائه للإسلام، وعرف بكثرة افتراءاته؛ حتى أصبحت موضع قلق بعض المستشرقين أنفسهم. وهكذا نفذ آباء المستشرقين التمهيد لاحتلال العالم الإسلامي، وكان لهم ذلك وفرخوا جيلا آخر لتكريس ذلك الاستعمار وتقويته، وإضعاف المقومات الذاتية، وإفشال المناعة العقدية لدى مجتمعات المسلمين. وبعد نهاية الاستعمار وحصول الدول الإسلامية على استقلالها، بدا لنا أن الاستشراق أفل، وكم أحببنا أفوله وتمنينا عدم رجوعه وأسررنا في قرارة أنفسنا: "ليذهب الاستشراق إلى الجحيم ! ". ومرد ذلك هو انطباعنا الواهي: أن تهافت الغربيين على دراسة ثقافة العرب والشرق باتت تضمحل شيئا فشيئا ورويدا رويدا أو فسرنا ذلك الانطباع بأن الضفة الأخرى من المتوسط أصبحت تنظر إلينا بعين هاوية، وما أدراك ما هي: سياحة فكرية أو وقت ثالث يرفه العقل الأوروبي بإطلالة استطلاعية اتجاه المشرق العربي والإسلامي بعد انسداد أبواب الشرق الأقصى حيث استيقظ المارد الصيني من نومه الحضاري. والحق أنه فعلا خرج من الباب -لا شك في ذلك- إنما عاد بقوة من النوافذ. ومما جعل العديد من أهل الفكر ينخدعون بهذا الوهم تغيير المستشرقين تسمية دراساتهم الاستشراقية بالدراسات الإنسانية والعالمية والحوار مع الآخر مراكز بحثية ... هي أسماء أخرى، لتغيير التكتيكات وتطوير الإستراتجيات حسب المتطلبات والمتغيرات. وهكذا، فإن الاستشراق في تقديري غيّر الأقنعة فقط، تماشيا مع طبيعة المراحل والظروف، وأصبح يفرخ مراكز دراسات وبحوث في غاية الدقة والتركيز، ولن يتعب نفسه في البحث والكد من أجل رصد الواقع وجرد الوقائع التي تمر هنا وهناك في الوطنيين العربي والإسلامي؛ بل سخر وخرج جيل من الباحثين من بني الجلدة والملة للبحث بالوكالة، لضرب عصفوريين بحجرة واحدة: إبعاد الشبهات التي أصبحت تثار حولهم، ثم تقديم عمل بحثي ودراسي من طرف أهل البلد المتقنين للغاتهم ولغات قومهم، البارعين في فقه ثقافتهم وثقافة شعوبهم، وهم أفضل من سيجمع المواد العلمية للبحوث المطلوبة وبهذا سيكون عملا في غاية الدقة والجودة والتركيز، ومن ثم يمكن استثماره في بحوث استخباراتية متنوعة. ولعل ما قاله أحمد عبد الحميد غراب، أبلغ مثال وأفصح مقال "أن بعض البحوث التي يوجه الطلاب العرب للقيام بها ذات طبيعة استخباراتية". وهكذا لن نستغرب كرم الغرب السخي على تمويل الجمعيات غير النظامية والثقافية، وجمعيات حقوق الإنسان ذات الهوى الغربي، والتي تتبني تصور الغرب لهذه الحقوق التي قد تخرج عن المناخ القيمي العام للمسلمين. وهكذا توظف النتائج والدراسات لخدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الغربية، حيت يتم توظيفها كلما دعت الضرورة لذلك، واستخدامها تارة للتهديد وأخرى للعقاب وثالثة للمناورة ورابعة قد تأتي بعد حين... وهلم جرا... وقد تأسست شراكات بحثية تستشرف الجغرافيا والتاريخ والثقافات والعادات، وكل صغيرة وكبيرة، تحت غطاء ثقافي وإنساني وخدماتي، لجمع أكثر عدد ممكن من المعلومات الحساسة ولطرق أبواب الملفات الغامضة وإكمال الملفات السابقة، ثم تجميع الكل في أبناك المعلومات لاستثماره في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد. وختاما، أزعم أن الاستشراق لم يمت ولم ينقرض ولم يأفل – كما توهم المتوهمون وغفل عن ذلك الغافلون – وإنما غيّر الأقنعة وبدّل الخطط والألبسة، وطوّر المساحيق وأبدع في فن التستر والخداع والمكر والتنكر. ولا خلاص للمسلمين سوى توحيد سياساتهم الثقافية والحضارية وابتكار أمصال مقاومة لهذه الاختراقات الاستشراقية الجديدة والخطيرة، وسن قوانين تحظر على الدراسات الحساسة والماسة بسلامة الأوطان والإنسان أن تكون عابرات للقارات. فهل تُرى من أذن تصغي وعقل يعيى قبل ضياع الإنسان وفوات الأوان؟ !