ظهرت الطبعة الأولى لكتاب »رؤية إسلامية للاستشراق« في صورة موجزة، ورغم إيجازها فقد اشتملت والحمد لله على حقائق بالغة الأهمية، نشر أكثرها لأول مرة، عن الاستشراق والمستشرقين، وكلها موثقة بالنصوص من المصادر الأصلية، أي كتابات المستشرقين أنفسهم، ولاسيما باللغة الإنجليزية، اعتمادا على الدليل والبرهان، وإيثارا للحق والعدل، وعملا بقول الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولايجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8). وقد اتبع مؤلف هذا الكتاب د. أحمد غراب في هذه الطبعة الثانية الصادرة عن المنتدى الإسلامي نفس الأسلوب ونهج نفس المنهج. وفي الفترة القصيرة بين صدور الطبعة الأولى وصدور هذه الطبعة ظهرت اتجاهات، وثارت تساؤلات حول قضايا الاستشراق والمستشرقين ولاسيما قضية العلاقة بين الإستشراق والتنصير، ومدى صحة الرأي القائل بموضوعية المستشرقين وإنصافهم للإسلام، وموقفهم من الصحوة الإسلامية. وكان لابد من أخذ هذه القضايا المهمة بعين الاعتبار، ولذلك أضاف المؤلف في هذه الطبعة أصولا جديدة، عرض فيها حقائق كثيرة، وأدلة مفصلة، وبخاصة عن الإستشراق والتنصير، والمستشرقين والموضوعية، وموقف المستشرقين من الصحوة الإسلامية. لماذا يدّعون «دراسة»الإسلام؟ يطرح الباحث هذا السؤال: هل يتصف هؤلاء المستشرقون بالموضوعية أو الإنصاف؟ ولنقدم لمحة عن منهجية إجابته على هذا السؤال وطبيعة الحجج التي يستدل بها على ما يراه فيهم، نجتزئ بشيء من حديثه عن رأس هؤلاء المستشرقين وهو فنسنك الذي أحيط اسمه من قبل بعض المسلمين بالمبالغات بسبب إشرافه على إخراج المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. فغنسنك مستشرق هولندي كان يعمل أستاذا للغة العربية بجامعة ليدن (توفي 1939 م). ينسب إليه أنه صاحب المبادرة إلى مشروع وضع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ويرجع تاريخ الفكرة الى سنة 1916 م، وقد خرج المعجم في ثمانية أجزاء، ظهر الجزء الأول منها سنة 1936 م والأجزاء الأخرى بعد وفاة فنسنك. وظهر الجزء الثامن والأخير سنة 1969 م وأشرف على إخراج المعجم بعد وفاته عدد من المستشرقين. يقول المؤلف: (وقد كثر التهويل بهذا المعجم حتى خرج عن قيمته الحقيقية الى الاستدلال به على موضوعية المستشرقين، وإنصافهم، وخدمتهم للعلم والإسلام! ومن ثم وجب التنبيه الى عدة حقائق حول هذا المعجم، وحول صاحب الفكرة وإخراجها، وهو المستشرق فنسنك، وآرائه في الحديث النبوي وفي العقيدة الإسلامية« 0ص 85)، ويرى ذ. أحمد غراب أن هذا المعجم وسيلة وليس غاية، حيث اعتبره مرجعاً هاما أما أنه مرجع نافع أو ضار فهذا يتحدد بالهدف من استعماله. فالمسلم يستعمله للرجوع إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة، للاهتداء بها، وللعمل بمقتضاها، والدعوة إلى إتباعها. وبهذا يكون مرجعا نافعاً. أما المستشرق فيستعمله كأداة قريبة المنال للوصول بسرعة وسهولة إلى الأحاديث، واستخدامها للطعن في القرآن والسنة، والعقيدة والشريعة وفي الإسلام كله. والمؤلف لا يشك في أن فكرة وضع المعجم من قبل فنسنك كانت لتحقيق هذا الهدف، كما يتضح من ظروف وضعه، وتمويله، واستخدامه. وكما يتضح بوجه خاص من الكتاب الذي ألفه فنسنك إبان اشتغاله بإخراج المعجم، وهو كتاب: »العقيدة الإسلامية«. فقد اشتركت في تمويل هذا المعجم مؤسسات حكومية رسمية معروفة بنشاطاتها في خدمة الاستعمار الغربي، وفي حرب الإسلام والمسلمين. ويقول المؤلف: من أبرز المستشرقين الذين كان لهم تأثير قوي على فنسنك لوضع هذا المعجم وإخراجه مستشرق هولندي آخر لا يقل عداوة للإسلام من فسنك، وهو كريستيان سنوك هرجرونيه، فقد كانت نصائح هذا المستشرق من المؤثرات التي مارست فعلها على فنسنك في تطوير هذا المشروع (ص 87). وكان هرجرونيه يعمل مستشارا للحكومة الهولندية في تخطيط سياستها الاستعمارية التنصيرية ضد أندونيسيا المسلمة، وقد أدت هذه السياسة إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمسلمين هناك، وإلى فرض القوانين العلمانية عليهم، وتشجيع النشاطات التنصيرية بينهم. ومن التهويلات حول هذا المعجم كما أشار المؤلف أن يقال بأن منهج المستشرقين في ترتيب مواده حسب ألفاظ الحديث هو منهج ابتدعوه ولم يسبقوا إليه. والحقيقة أنه قد سبقهم علماؤنا المسلمون إلى هذا المنهج، وتكفي الاشارة إلي »جامع الأصول« لابن الأثير و »تحفة الأشراف« للحافظ المزي وغيرهما من جوامع الحديث النبوي. ومن الحقائق المعروفة ما قام به العلامة المسلم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله من إسهام عظيم في إعداد هذا المعجم وترتيبه، وهو الإسهام الذي مكنته منه معرفته الواسعة بالسنة النبوية، وتحقيقه لعدد من أهم كتبها. وهنا يتساءل المؤلف: أكان من الممكن أن ينجز هذا المعجم بدون إسهام هذا العالم المسلم؟ وقال معلقا على تقصير المسلمين في هذا المجال: »لا شك أن الهيئات العلمية والجامعات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي مقصرة أشد التقصير، إذ تركت هذا المعجم يخرج وينسب الفضل في إخراجه للمستشرقين وحدهم ولكن المسؤولية الكبرى في هذا التقصير تقع على عاتق الحكومات العربية والإسلامية. فلاشك أن العالم الإسلامي لديه الإمكانيات الهائلة من العلماء المتخصصين، والمؤسسات العلمية، والأموال، للقيام بمثل هذا المشروع، وبصورة أفضل تتلافى ما فيه من أوجه النقص. ولكن للأسف نرى بعض الحكومات العربية والإسلامية تنفق الأموال الطائلة على عدد من المراكز الاستشراقية في أوروبا وأمريكا، وتضن بالقليل على علماء المسلمين. لأن هؤلاء العلماء ليسوا من الخواجات المستشرقين!« (ص 88 89). هذا بالنسبة لمعجم فنسنك أما بالنسبة لكتابه عن »العقيدة الإسلامية نشأتها وتطورها التاريخي«، فإن هذا المستشرق يشبه هذه العقيدة في الفصل الأول من كتابه بالعقيدة المسيحية في تعرض كل منهما »للتطور« التاريخي على أيدي الأجيال التالية لعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذاكلام باطل من أساسه. فمن المعروف أن العقيدة المسيحية في أصلها الموحى به إلى عيسى عليه السلام كانت عقيدة توحيد، ثم دخل عليها التحريف والإنحراف بعده، حتى أصبحت في القرن الرابع الميلادي عقيدة شرك وتثليث وذلك بسبب ما أدخله بولس على المسيحية في القرن الأول من عقائد وثنية، ثم ماتلا هذه الانحرافات من مجمع نيقية سنة 325. وكل هذا »التطور« أي الانحراف الوثني في العقيدة المسيحية، لم يحدث مثله قط في الإسلام، وذلك لسبب واضح، وهو أن القرآن الكريم وهو مصدر العقيدة الاسلامية لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظه الله من كل تحريف وتبديل، كما قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9). أما كتاب المسيحية وهو كتاب العهد الجديد المعروف عند المسيحيين بالإنجيل المقدس فقد ثبت تحريفه، كما ثبت تحريف العقيدة المسيحية الأساسية عن ألوهية المسيح، بالأدلة العلمية والتاريخية القاطعة التي بينها علماء مسلمون وغير مسلمين. والقرآن في زعم المستشرق فنسنك لايحتوي على العقيدة الإسلامية بصورة واضحة! وهنا يتساءل المؤلف مرة أخرى: إذا كنا لا نجد العقيدة الإسلامية الواضحة في القرآن فأين نجدها إذن؟ ويجيب المستشرق فنسنك: نجدها في الحديث! لكن هذا المستشرق كغيره من المستشرقين يزعم أن الحديث أو أكثره ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل من كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين! وطبقا لهذه الافتراءات يصبح الإسلام كله من وضع البشر، وليس دينا أنزله رب العالمين، على خاتم الأنبياء والمرسلين! وهذه الافتراءات وأمثالها هي التي يسميها المستشرقون وعملاؤهم: »دراسات موضوعية«. يتحدث فنسنك عن العلاقة بين العقيدة الإسلامية والحديث النبوي فيقول: »بوجه عام، فإن أقدم نموذج للشهادة (كلمة التوحيد) نجده في الحديث (النبوي)، أي في الكتابات التي تأخذ شكل أقوال تنسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها (أي الأحاديث النبوية) في الحقيقة مرآة لتاريخ الأفكار الإسلامية خلال القرن الأول الهجري (أي أنها أحاديث موضوعية). ففي الحديث نجد أقدم المناقشات والتعريفات للإيمان والإسلام، والإيمان وعلاقته بالعمل، وأركان الإسلام، وعقيدة اليوم الآخر. وكان لابد أن تمر عدة عقود من الزمان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لنجد علماء المسلمين يعبرون عن العناصر الجوهرية في الإسلام، ويوضحون العقيدة الإسلامية، ويصوغون كلمة الشهادة، ويعددون الأركان الخمسة للإسلام، ويضعون ذلك كله في أحاديث ينسبونها (كذبا) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! ويصرح المستشرق بهدفه الحقيقي من »دراسة« الحديث فيقول: »إن كتب الحديث وهي مصدرنا الرئيسي (لجمع) المعلومات عن التطور المبكر لعلم العقيدة الإسلامية قد حفظت (لنا) سلسلة من أقوال محمد صلى الله عليه وسلم التي يجب أن تعتبر حصيلة لجهد (علمي) في العقيدة، قام به جيل الصحابة«. أي أن هذه »الأقوال« (الأحاديث النبوية) ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل من وضع الصحابة، وهذه الأحاديث الموضوعة هي التي وضحت العقيدة الاسلامية، ومهدت لصياغة كلمة الشهادة وتحديد أركان الإسلام! وإذن فلأجل أن نفهم »التطور« الذي حدث في العقيدة الإسلامية ينبغي أن نركز على »دراسة« الحديث النبوي! ولتسهيل هذه »الدراسة« كان لابد من وضع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي للوصول بسهولة إلى هذه الأحاديث، واستخدامها في هدم الإسلام من قواعده! وهكذا يتضح لنا »منهج« المستشرق إنه الطعن في العقيدة عن طريق الحديث. والنتيجة الحتمية هي الطعن في كليهما! ولبيان هذا »المنهج« بصورة أدق أورد المؤلف بعض الأمثلة. ثم انتقل إلى تقويم أقوال باقي المستشرقين ووزنها بميزان العقل والنقل. وأما موضوع المستشرقين والصحوة الإسلامية، فقد مهد له بتقديم نبذة عن تاريخها وبدايتها ومراحلها وغاياتها ووسائلها. ليعرج بعد ذلك على عداوة المستشرقين للصحوة معتبرا إياها أخطر العداوات. وهي عداوة تتسلح بسلاح »العلم« وهو أفتك الأسلحة جميعا، لأنه يستعمل لغزو المسلمين في عقولهم وقلوبهم، وفتنتهم عن دينهم. وهي عداوة تمثل كذلك خوف الغرب (معقل التحالف الصليبي اليهودي على الإسلام من صحوة إسلامية تقف في وجه أطماعه، وتعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، وتحمي حقوقهم التي انتهكها تحالف اليهود والصليبيين عليهم. المستشرقون والصحوة الإسلامية ومنذ ظهرت الصحوة الإسلامية والدراسات الاستشراقية عنها تتوالى في صورة بحوث ومقالات وكتب وندوات ومؤتمرات، تنظمها مئات المراكز والمعاهد المنتشرة في الغرب والتي يتبع معظمها الجامعات والمؤسسات الأكاديمية التي تزعم أنها تقوم بالبحث العلمي النزيه، وهي في الحقيقة تقوم باستغلال البحث العلمي لجمع المعلومات، ووضع الخطط، للكيد للإسلام والمسلمين. ونرى معظم هذه المؤسسات ذات صلة وثيقة كذلك بوزارات الخارجية والدفاع، وأجهزة الأمن القومي، والاستخبارات الغربية والإسرائيلية، والمنظمات الصهيونية، وهيئات التنصير العالمي، والشركات الاحتكارية الكبرى، ووسائل الإعلام والغزو الفكري، وغيرها من الأدوات الشيطانية التي تخصصت في الكيد للإسلام والمسلمين. وقد توسع المؤلف في تشريح هذا الموضوع من خلال بيان علاقة الدراسات الاستشراقية بالاستخبارات ومتابعة المستشرقين للصحوة الإسلامية ونقد كتاب »الأصولية في العالم العربي« للمستشرق الأمريكي ريتشارد دكمجيان، وما تضمنه من تحريض على الصحوة الإسلامية، واستعمال لمصطلحات غير إسلامية لتقديم الإسلام. ومقترحات وتوصيات نجد مثيلاتها عند المستشرق الدبلوماسي هرمان آيلتس والمستشرق السياسي دانيل بايبس وخبير المخابرات الأمريكية ريتشارد ميتشيل. وقبل أن يختم المؤلف هذا الكتاب بين واجب علماء المسلمين وهو دعوة أهل الكتاب جميعا (ومنهم المستشرقون) إلى الإسلام، كما قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران) أما التعاون معهم في تلك المؤسسات الاستشراقية فقد حرمه الله تعالى على المسلمين تحريما قاطعا، لأنه نوع واضح من موالاة اليهود والنصارى. والموالاة هي التناصر بأي صورة من صور التناصر المعنوي أو المادي. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51). وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (الممتحنة: 1). وقال: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا. وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذن مثلهم) (النساء: 140-138). وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق) (البقرة 109). وقال: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (النساء: 89).