نتجت عملية الاستشراق عن صراع طويل بين الحضارتين المسيحية والإسلامية، جراء تباين بين عقيدتين وثقافتين تختلف إحداهما عن الأخرى؛ فكانت عملية الاستشراق في بداياتها ذات طبيعة ثقافية استكشافية، تهتم بالعلاقات الإنسانية والثقافية بين الشرق والغرب وتطور الفكر الإنساني، عن طريق دراسة اللغات الشرقية والفنون والعادات والمعتقدات لإيجاد روابط بين الثقافات الشرقية والغربية. وقد تراوحت مدارس الاستشراق في تقسيمها بين الموضوعي والجغرافي، واعتمد الجغرافي منها أكثر نظرا لسهولته؛ فظهرت المدرسة الفرنسية التي تعدّ من بين أبرز المدارس الاستشراقية وأغناها فكرا وأخصبها إنتاجا وأكثره وضوحا، نظرا للعلاقة الوطيدة التي تربط فرنسا بالعالم العربي والإسلامي قديما وحديثا وفي حالتي السلم والحرب، فكانت من أوائل الدول الأوروبية التي عنيت بالدراسات العربية والإسلامية، وأوفدت طلابها إلى مدارس الأندلس للاستفادة من الفلسفة والحكمة والطب؛ فظهر عدد من المستشرقين الفرنسيين أبرزه بوستل، الذي تعلم اللغات الشرقية وكوّن الطلائع الأولى لجيل المستشرقين، وبعده البارون دي ساسي الذي كان مكلفا بالمخطوطات الشرقية في مكتبة باريس الوطنية، ثم توالى ظهور تلامذتهم كالبارون دي سلان وكترمير.... والعشرات من المستشرقين الفرنسيين الذين كونوا المدرسة الفرنسية، وتابعوا مسيرة الدراسات الاستشراقية. أما فيما يخص المدرسة الاستشراقية الإنجليزية فقد تمتعت بالدقة والعمق والصلة الوثيقة بالشرق الأوسط والشرق الأقصى والهند، فتأثرت باهتمامات الجغرافيات التي تسيطر عليها، ووجهت اهتمامها لفهم إسلام كل منطقة وفكره وتراثه ومكوناته وقضاياه. فاستطاعت المدرسة الإنجليزية أن تحقق أهدافها الاستشراقية بذكاء، نظرا لغموضها وعدم انفعالها وإخفاء مطامحها تحت ستار العقلانية والقبول بالأمر الواقع. وكان من أبرز المستشرقين الإنجليز هملتون جيب، الذي كتب عن التفكير الديني في الإسلام، وعن الديانة المحمدية، وعن الحضارة الإسلامية، فبرزت في كتاباته روح التعصب والانتقاص من أثر العرب في بناء حضارته. ثم بعده رينولد نيكلسون باعتباره من أهم المستشرقين الإنجليز، حيث اهتم بالتصوف الإسلامي ونشر ديوان "ترجمان الأشواق" لابن عربي. ثم المدرسة الألمانية التي كانت لها روابط قوية مع الدولة العثمانية، وتميزت بالجدية والعمق والدقة في مجال البحث والدراسة للقضايا الفكرية المهمة، فتوالى ظهور المستشرقين وأشهرهم بروكلمان بكتابه الشهير '' تاريخ الأدب العربي" الذي ترجم فيه للمؤلفين والعلماء العرب، وقام بدراسة عن المخطوطات العربية في المكتبات الأوروبية، ثم جوزيف شاخت الذي اهتم بدراسة الفقه الإسلامي، فوصفه الدكتور عبد الرحمن بدوي بقوله: "كان شاخت حريصا على الدقة العلمية في عرض المذاهب الفقهية وفي دراسة أمور الفقه عامة، مبتعدا عن النظريات العامة والآراء الافتراضية التي أولع بها أمثال جولد تسيهر وسنتلانا ممن كتبوا في الفقه، ولهذا كانت دراسات ومؤلفات شاخت أبقى أثرا وأقرب إلى التحقيق العلمي وأوثق وأجدى"، فتميزت المدرسة الألمانية بالجدية والصرامة والدقة في البحث، وأسهم المستشرقون الألمان بجهد كبير في خدمة التراث العربي الإسلامي، ذلك بسبب التزامهم بمنهجية علمية. علاوة على ذلك، فهناك عدد من المستشرقين الذين نهجوا في دراستهم للإسلام منهجا منطقيا يتسم بالموضوعية ومنهجا علميا في معالجة المسائل التاريخية، كما لم تكن لهم أحكام مسبقة عن الدين الإسلامي والحضارة الشرقية؛ وهو مكن ذلك من إنتاج محاولات جادة لفهم الإسلام والتعرف عليه، أولاها على يد هدريان ريلاند الذي أصدر كتابا بعنوان "الديانة المحمدية" عرض في جزئه الأول عن العقيدة الإسلامية، وصحح في جزئه الثاني الآراء الغربية السائدة عن تعاليم الإسلام. وقد كان هدفه بذلك البحث عن الحقيقة حيثما وجدت، حتى اهتدى البعض منهم إلى الإسلام وأمن برسالته. بيد أن البعض الآخر عمل عكس ذلك وكانت له نوايا مضمرة خبيثة مليئة بالضلالات يسربها من خلال عملية الاستشراق وتحت لوائه؛ فاعتمدوا الدس والتحريف وكانت دوافعهم في ذلك تتراوح فيما هو ديني للطعن في الإسلام وتشويه محاسنه وتزييف حقائقه ليظهروا أن المسلمين قوم همج وسفاكو دماء، يرمون بذلك لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية في نفوس رواد الثقافة الإسلامية. كما استغل الغرب عملية الاستشراق في الدافع الاستعماري، حيث اتجهوا إلى دراسة البلاد العربية والإسلامية في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها ثم يغتنموها، والتجئوا لإضعاف المقاومة الروحية والتشكيك في التراث والعقيدة والقيم الإنسانية، فيصبح الخضوع لهم خضوعا لا تقوم بعده قائمة. بالإضافة لما سبق، لم يغفل المستشرقون الحضارة الإسلامية في الأندلس، حتى أصبحت الدراسات الأندلسية موضوعا مهما للمباحث الاستشراقية، إذ كثر عدد المستشرقين بالأندلس وتراوحت اتجاهات مدارسهم الفكرية بين العصبية المطلقة الفارغة من وقار العلم، وبين القصد في الأحكام والاعتدال والموازين. ونذكر في الاتجاه الأول رينهارت دوزي، الذي كانت كراهيته للإسلام نابعة من إلحاده وكرهه لرجال الكنيسة، إذ عرف بفساد الرأي والتعصب لملوك الطوائف، وسرى على نهجه فرانسسكو جافير سيمونيت. وبالمقابل، مثل الاتجاه الثاني المستشرق كوديرا، الذي علا صوته بمدح المسلمين وإعلان فضلهم عن الحضارة الإنسانية وحفاظهم على التراث القديم، كما دعا إلى تعريب الحضارة الأوروبية، ويعد أكبر منصف للحضارة والفكر الأندلسي في الأندلس، حيث أسست مدرسة كوديرا الاستشراقية وأطلق على جماعتهم اسم بني كوديرا نستحضر منهم: خليان ريبيرا، فانَخل جنثالث بالنثيا ثم جارسيا جومس. ونستكشف أن التيار الاستشراقي ذو حدين: فتارة تكون إيجابيته في إعطاء صورة حقيقية عن الشرق، وتارة تتمثل سلبيته في النظرة العدائية المسبقة عن الإسلام والعرب من خلال أفكار اتسم معظمها بالتعصب، فيتوجب هنا اتخاذ الحيطة والحذر مع المستشرفين ودراساتهم للحضارة العربية الإسلامية.