كثير منا له ذكريات راسخة في ذاكرته العميقة يصعب نسيانها، تعلم الكثير من مرارة تجربتها، اكتسب سبل مجابهة مصاعب الحياة، ومن لحظات الفرح والسرور نبعت رغبة الحياة والاستمرار. ولعل من اللحظات التي رسخت في ذاكرتي ولن أستطيع نسيانها ما حييت هي الأيام التي قضيتها داخل أسوار السجن، ليس كسجين ولكن كرئيس مركز للامتحان تارة ومراقب جودة الامتحان تارة أخرى. ترددت كثيرا قبل أن أرفع قلمي لأسرد تجربتي على مسامع جميع الأصدقاء، فلم أكن أعرف ماذا أكتب وكيف أكتبه، من أين أبدأ وما الكلمات المناسبة لوصف شعوري الداخلي. بدأت فصول القصة لما تكلفت بمهمة مراقبة إجراء الامتحان داخل أحد سجون المملكة. تملكني أثناء تسلمي للتكليف الكثير من التخوف والقلق؛ كيف لي أن أذهب إلى داخل أسوار السجن وأنا الذي لم أزر مخفر الشرطة إلا مرتين في حياتي من أجل الحصول على بطاقة التعريف الوطنية؟ ماذا ينتظرني وأنا المشبع بأفكار ونظرة سيئة عن السجن والسجناء، ولم أر سجنا إلا في سلسلات الأفلام الهوليودية، التي ملأت ذاكرتي بأبشع صور السجن وممارساته، حتى أضحى السجن الأخطبوط الأسود في ذاكرتي؟.. تملكني الخوف الشديد والرهبة من واقع سأقتحمه لأول مرة. بدأت دقات قلبي في التسارع وأنا أسير من مقر عملي نحو هذا المكان المظلم في ذاكرتي، قل التنفس وصعبت علي الحركة؛ فبأفكاري السلبية كدت أن أتسبب لنفسي في متاعب صحية أنا في غنى عنها. ولجت جدران السجن من بابه الكبير، وإذا بالأسوار عالية شامخة يكسوها سياج سميك، توقفت عقارب الساعة آنذاك، فاليوم أكتشف أحد العوالم المظلمة في مخيلتي، فمازالت دهشتي مما رأيت عند مدخل السجن حتى بدأت الأبواب تفتح الواحدة تلو الأخرى. عبرت سائر السجن لأصل إلى مركز الامتحان وأتفاجأ بتخصيص جناح بأكمله سمي الجناح البيداغوجي للنزلاء، فيه قاعات مخصصة للتكوين المهني وأخرى لمحاربة الأمية؛ لكن ما زاد دهشتي هو توفر مكتبة مجهزة بكتب من شتى الأنواع والحقول المعرفية. كيف بما ظننته أظلم مكان في أفكاري أن يحوي أجود كتب المعرفة والتحصيل، تباطأت دقات قلبي حتى عادت إلى وضعها الطبيعي، ولما لا تعود وأنا أرى كتبا علمية أدبية وأخرى مدرسية؟.. لم أخش المكان فالكتاب دليلي نحو السكينة والطمأنينة. بعد هنيهة من الشرود والزمن الذي نقصت فيه كيلوغرامات من وزني بسبب التفكير والخوف الزائد، هاهي علامات الراحة تعود لتسري في عروقي. ولج بعدها النزلاء واحدا تلو الآخر إلى قاعات الاختبار؛ وبالرغم من هدوء أعصابي مازالت تلك الأفكار تنخر ذاكرتي، فتمثلاتي عن السجناء أنهم أذنبوا ولا يستحقون العيش بسلام خارج أسوار السجن هي الشيء الوحيد الذي اكتسبته وأنا أرى أشخاصا تشق وجوههم سكاكين، فئة سيئة من البشر. بدأت الحصة الأولى وتمثلاتي بدأت تخط من جديد، كل ما اكتسبته طيلة السنوات بدأ يهدم على مرأى ناظري، وإذا بي أرى أشخاصا أكثر احتراما؛ لا تسمع صوتهم حتى، وبعدم توفر أي وسيلة للغش مازالوا أكثر انضباطا وأخلاقا. وما زادني حيرة تعامل مراقبي السجن بتلك الطيبوبة والأخلاق النبيلة، وتلك القيم المؤثرة التي تتغنى بها ألسنتهم وهم المسجونون اختياريا.. تلاعبت كلماتهم بعقلي الواعي وغير الواعي، لمست الرغبة فيهم لتغيير أفكار النزلاء وجعلهم مواطنين صالحين بعد أن أفسدهم المجتمع بنفسه بتزكية من الفرقاء السياسيين الذين يرسمون سياسات غير مجتمعية، فكرت ثم فكرت وإذا بلهفتي لسماع الجواب تقودني لطرح السؤال الأعمق: كيف جعلتم أناسا منبوذين من المجتمع هادئين فرحين رغم تواجدهم داخل مقبرة الحياة، وإذا بالجواب أعمق وأكثر تأثيرا من السؤال، قالوا نحن نتعامل بالعدل وهم أحسوا بنا واحترمونا.. وحتى عائلاتهم التي تناستهم خارج أسوار السجن تزورهم كل أسبوع داخل السجن، يقلقون على أحبائهم داخل السجن ولا يهتمون لحالهم خارجه، فتكون النتيجة كما ترون شبابا يافعين بسبب الإهمال وقلة التأطير والتربية يفقدون حريتهم بعدما خلفوا أثرا سيئا في نفوس أشخاص آذوهم قبل ولوجهم السجن. انتهت المادة الأولى المقررة في الاختبار وخرج السجناء إلى رقعة صغيرة من الإسمنت هي مرآتهم على العالم الخارجي ونور الشمس، وإذا بي أكاد أجن وأنا أراهم يسيرون في مكان ضيق لا يتجاوز العشرين مترا ذهابا وإيابا وكأنهم حمقى، حيرتي وصلت إلى قمة أوجها وأنا أحكي في نفسي قصصا أعجز عن تفسيرها، لماذا اختاروا المكان الضيق وكانت الدنيا رحبة عليهم جميلة خلابة بمناظرها وبهائها؟. انتهى اليوم الأول وأنا في حيرة من أمري، ما تعلمته في يوم عجزت عن تعلمه طيلة سنوات حياتي، فالتجربة كانت خارقة للعادة، مرة إلى درجة الألم وحلوة لتغدو كالأمل بغد أفضل. في اليوم الثاني وبعد فك دهشة ورهبة السجن المنقوشة في ذاكرتي قررت التقرب أكثر من النزلاء وسماع حكاياتهم لم قرروا اجتياز الامتحان وهم في الأساس مسلوبو الحرية، ولكن في قرارة ذاتي أردت أن أغوص في أعماقهم لأبحث عن سبب يقنعني كيف لهاته الفئة أن تقضي على أحلامها بغد أفضل بقيامها بأخطاء قد تصل إلى كره المجتمع؟ تمكنت بعد تردد كبير أن أستجمع قواي لأسأل أحد السجناء: لم تجتاز الامتحان ومدتك السجنية مازالت طويلة؟ وإذا بي أصعق مرة أخرى من الجواب؛ لكن التردد هاته المرة أقوى، وصل إلى درجة زعزعة كياني وبعثرة أفكاري. كان الجواب ببساطة اللغة: "بغيت نفرح ميمتي ونقول ليها بغيت نولي راجل صالح وأنا ندمان على لي درت". لكن بلاغة التعبير يعجز العقل عن فهمها؛ كيف يريد أن يفرح تلك العائلة وهي التي لم تأخذ بيده حين كان حرا طليقا، كان همها والحال مع جميع الأسر أن تجري وراء لقمة العيش وتنسى تربية وتنشئة أطفالها على قيم النبل والأخلاق، وبعدما تقع الفأس في الرأس كما نقول ويقترف النزيل جرما ليزج به إلى السجن يتهافت أفراد عائلته إلى توفير المبالغ المالية اللازمة لإنقاذه من غيابات السجن، ولو صرفت ثمن المبلغ عليه وقليل من الحب والاحتضان لما آل به المآل إلى ما هو عليه. تجربتي طويلة وما استخلصته منها لو بقيت أكتب لسنة كاملة ما استطعت سردها عليكم. لكن كان لا بد لي أن أحكي ولو بالمختصر المفيد عن تجربتي داخل أسوار السجن. *مستشار في التخطيط التربوي