في مثل هذا اليوم (17 دجنبر الجاري) من سنة 2010 كان البوعزيزي بائعا متجولا مجهولا، يعيش في ظلمات لا أنوار لها، ظلمة القهر، وظلمة الفساد وظلمة التسلط وظلمة المستقبل. خرج من بيته الفقير بعربته المتواضعة فأدرم النار في نفسه عساها ترى نور التغيير الحقيقي ولو بإحراق أجزاء من جسده، فالنور لن ينبعث إلا بإزالة ظلمة الخوف والرهبة. أنهى حياته الفاشلة ليبدأ العالم وليس التونسيون فقط حياة الكرامة. بدأت شرارة ثورة الياسمين أو ثورة الكرامة أو ثورة الأحرار يوما واحدا على حرق آخر بذور الخوف لتشتعل نيران الخلاص في عالم لا يعرف مكانا للحق. كان عمره 27 سنة قضاها في صراع مع لقمة عيش لا تصل إلى فيه إلا بعد تعب شديد، ينام على أرق ويستيقظ على قلق، فأراد إراحة نفسه من ذل ضنك العيش. في سنة واحدة تحقق للعالم العربي ما لم يتحقق في قرون من الزمن وكأن القدر خبأ لهذه الأجيال هذه الهدية الكبيرة لتنسى بعضا من مآسيها وآهاتها. لقد رحل الديكتاتور التونسي والفرعون المصري وملك ملوك أفريقيا وتغير تاريخ دول بعدما اعتزل المؤخرون الكتابة لنفاد حبرهم وفناء أفكارهم. أما العرب الآخرون فلا زالت عجلات تغييرهم عاجزة عن السير في الطريق السريع لأنها منتهية الصلاحية ويلزمها عجلات جديدة تبدو في الوقت الراهن غالية التكاليف، لا يقدر على سد فاتورتها إلا "الأغنياء". لقد أيقظ البوعزيزي الهمم وأحيى القلوب الميتة من سباتها العميق وترك لجيل الفايسبوك طريقا معبدة للديمقراطية والحرية تتطلب تضحيات جسام من ذوي النهى والعقول. لقد أقدم البوعزيزي على حرق نفسه في ثورة الياسمين، ووصلت شظاياها إلى الضفة الأخرى من البحر، وبما أننا نشترك مع دول العالم في التاريخ والجغرافيا والقيم الكونية فقد أبى القدر إلا أن نشترك أيضا في ثورة الشباب. لقد قاد بعض شباب أوربا ثورة على حكامهم وخرجوا في ساحات التغيير منددين بتردي أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ووصلت حمى الاعتصامات إلى أمريكا وروسيا والصين. أما في بلدنا الحبيب فقد كان الربيع العربي مناسبة لتغيير "آلهة" السياسة، فقد اختار المغاربة القطار السريع للعدالة والتنمية لتيسير حكومة الخلاص من الفقر والفساد، قطار بحاجة إلى وقود كل الغيورين على هذا البلد الأمين للوصول إلى كل الجهات حتى يعبر الركاب إلى محطات التنمية والعدالة في الوقت المناسب. إن حكومة التناوب الثاني بحاجة إلى مبدأ "الأخلاقية" عوض "العقلانية" كما يقول طه عبد الرحمان لتذويب الخلاف والاختلاف و التوقيع على ميثاق شرف وعهد على جعل المغرب الأمين فوق كل الاعتبارات الأيديولوجية والحزبية. عندما أقدم البوعزيزي على حرق نفسه جراء الإهانات التي عانى منها طوال حياته، أقدم على حرق نصوص وشخصيات "مقدسة" لن تحترق ولو بعد قرون من الزمن. ولو علم زين العابدين ومبارك والقدافي وغيرهم أن هذا الفعل "المقزز" سيهوي بهم في نار السجون وزبالة التاريخ لوضعوا تحت وسادته مفاتيح قارون ولأرسلوها مع جنود سليمان الأقوياء الأمناء. ولكن القدر سبق فكرهم وخيالهم ونالوا جزاءهم الأوفى. إن التاريخ يكتب بماء من ذهب خالص، فمن أراد أن يكتب اسمه بماء من ذهب ويبقى خالدا في الذاكرة فما عليه إلا أن يفني نفسه في خدمة البلد، ويضرم النار في جسد مصالحه الشخصية والحزبية ، وإلا فسيبقى خالدا في زبالة التاريخ مع المنسيين والملعونيين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.