مهما كان الخلاف، وسواء على مستوى المقدمات أو النتائج، بخصوص الحركات الإسلامية، في العالم العربي، فإن هذه الحركات، وفي منظور "القراءة المقرَّبة"، ظلَّت، وعلى مدار العقود الثلاثة الأخيرة، الأكثر "سيطرة" على الوعي والأكثر تنظيما والأكثر ثقلا في الشارع؛ هذا وإن كانت لم تبلغ حد "الهيمنة السياسة" على الشارع. ونفكر، هنا، في الحالة المصرية بصفة خاصة. وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة، وفي سياق الحديث عن ثورات العالم العربي، إلى الحالة الليبية التي بدا فيها ذوي "الحس الديني الإسلامي" في الخط الأمامي من مواجهة كتائب الطاغية معمر القذافي وبما يؤكد على مكانتهم في البلاد مستقبلا ما لم تعكّْر الصراعات القبلية على ذلك. ومؤكد ألا يتبدى، في أثناء الثورة، أي نوع من التنظيم لدى هؤلاء بالنظر ل"المجتمع السياسي" الذي استأصله القذافي مثلما استأصل ليبيا برمتها بعد أن اختار لها تسمية "الجماهيرية العظمى". والحرص على التنظيم، وموازاة مع إصابة الهدف، هو الذي يبرر، في نظرنا، تسمية "تنظيم القاعدة" الذي صار، وتحت تأثير المعجم الأمريكي الإمبريالي ، مرادفا ل"الإرهاب"، ودونما أي تفكير، ولو أوَّلي، في جذور هذا الإرهاب التي ربطها عرَّاب "الاستشراق السياسي" المستشرق المتصهين برنارد لويس في ب"جذور السُّعار الإسلامي". وهو عنوان مقال له (بمجلة "الأطلانتيك"، صيف 1990) كان في أساس ظهور مقال صامويل هنتغتون "صدام الحضارات" (مجلة "فورن أفير"، صيف 1993) الذي تحول إلى الكتاب الأشهر "صدام الحضارات" (1996). فجذور "الإرهاب" ليست كامنة في "تجدد الإمبريالية في نهاية القرن" فقط (كما تصور إدوارد سعيد)، بل وكامنة في الحرص على هذا التجدد تبعا للمستجدات كذلك، وكامنة في "الحكام" الذين تمَّ تنصيبهم بانتخابات شكلية مثلما تمَّ الحرص على استمرارهم في الحكم وبدعم مالي واستخباراتي سخي من قبل هذه الإمبريالية. وهؤلاء الحكام، الذين أساؤوا إلى شعوبهم وسواء في الداخل أو الخارج، هم الذين منحوا "تنظيم القاعدة" فرصة التبلور والامتداد. وكما أن التنظيم نفسه، ومن خلال زعيمه أسامة بن لادن (1957 2011)، كان في أساس "التصعيد السياسي الإجرائي" الذي أبلغ "الظاهرة الإسلامية السياسية" "شاشة العالم" وإلى ذلك الحد الذي جعل "الكوبرا أمريكيا" تدرج، ومن باب الاستراتيجيا لا التكتيك، تنظيم القاعدة ضمن أولوياتها وأجندتها السياسية. وكما هو مقرّر في السياسة الأمريكية الخارجية فإن التحديات الأمنية التي تواجه الولاياتالمتحدةالأمريكية، تمتد، ولنلاحظ، من محاربة تنظيم القاعدة إلي زيادة نفوذ الصين في المحيط الهادي. وما ضاعف من الخوف من القاعدة أن التنظيم فيها يكتسي طابعا "شبحيا عابرا للقارات"، وهو طابع مغاير ل"لتنظيم العنقودي" الذي ميَّز الحركات الإسلامية من قبل. وتفيد "الدراسة التشخيصية" لظاهرة الإسلام السياسي أن هذا الأخير ظل يتأقلم مع المتغيرات السياسية، مما جعلها تمرّ بمراحل عديدة. ويهمنا، هنا، أن نحيل على دراسة "الإسلاميون" للدكتور بشير موسى نافع (2010)، لأنها تركز كما في استخلاص أحد مراجعيها على قراءة التيارات الرئيسة داخل الظاهرة، وليس الخارطة التنظيمية الإسلامية لكل بلد مسلم على حدة. وقد استمرت المرحلة الأولى من تاريخ الظاهرة حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، وشهدت ولادة التنظيمات الإسلامية الرئيسية كما شهدت تبلور هوية هذه التنظيمات وتوجهاتها الفكرية والسياسية في خطوطها العامة والعريضة. أما المرحلة التالية فبدأت منذ السبعينيات من القرن الماضي، وما زالت تلقي بتداعياتها حتى الآن. وقد حافظت الظاهرة على انتشارها منذ مرحلة التشكُّل حتى الآن مع فارق على مستوى "الترسيم الخرائطي" لخطابها تبعا لتدافع العقود ومتغيرات الدول الإسلامية المعنية بالظاهرة. وفي هذا السياق، وفي منظور الكتاب، برزت الظاهرة في مصر وباكستان وإيران في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وفي سوريا والعراق في السبعينيات والثمانينيات، وفي مصر (ومن جديد) والجزائر والسعودية في التسعينيات، وصولا إلى إندونيسيا والمغرب في مطلع القرن الحادي والعشرين. وقد خاضت الدول (المعنية بالظاهرة)، وعلى مدار هذه العقود، وبدعم خارجي، صراعا لا هوادة فيه مع الظاهرة. غير أن التنظيم، الذي سيفاجئ تنظيمات إسلامية أيضا، وليس المسلمين والعالم فقط، هو "تنظيم القاعدة". التنظيم الذي سيبرهن على "حضوره" من خلال سلسلة من هجمات مدمِّرة شملت أهدافا مدنية في بلاد العام سام وخارجه. وفي هذا المدى سيتأكد ما سيسميه الدارسون للظاهرة "العنف الإسلامي العابر للقارات". وضمن هذا العنف كان نصيب العالم الإسلامي لا يستهان به... وذلك، وكما يلخص البعض، من خلال الإلحاح على أهداف الخروج على الحكام، وقلب الأنظمة العربية، وتحرير المقدسات الإسلامية...إلخ. وذلك بواسطة النشرات والمطبوعات، وعن طريق التخطيط والتدريب، وعن طريق الأموال والصفقات. والمؤكد أن تنظيم القاعدة وجد ل"خطابه" آذانا صاغية، ولا سيما من الشباب اليائسين والساخطين، شبه المثقفين والمتخرجين في معاهد وجامعات، ومن الذين ضاقت بهم سبل الحياة في مجتمعاتهم الصغيرة، وخصوصا بعد أن راحوا يطلعون على ما يجري في العالم ككل نتيجة الانفجار الإعلامي الهائل الذي جلبته العولمة في منحاها التواصلي. وفي هذا الصدد تبدى بن لادن "نجما" لكثير من الشباب الذين نذروا أنفسهم ل"الجهاد" بعد أن صاروا مفعولا ل"خطاب متعين". وكان ل"تنظيم القاعدة"، هنا، ما شاء، طالما أنهم وجدوا فيه "اللاعب الأهم"، في العالم العربي. اللاعب الذي يضحِّي بالواقع من أجل التأكيد على "أولوية الخطاب" نفسه. ومن ثم كان الإصرار على الذهاب إلى أبعد نقطة في القتال وعلى إيقاع من "تفجير الذات" و"مشروع شهيد". وهو ما كان يطمح إليه بن لادن نفسه لولا آلة القتل الغادرة التي حصدته في باكستان، الاثنين: 02 مايو 2011، كما قدمَّت "الرواية الأمريكية الرسمية". وكان من المفهوم أن يكون له كل هذا التأثير نظرا لخطابه الذي لم يكن فيه مجال للإنشاء الوعظي والزائد الخطابي أو حتى "التجييش" أو "التشحين الإيديولوجي التقليدي". لقد كان يحدد هدفه بشكل مباشر حيث الكلمة تذهب إلى الشيء/ الهدف مباشرة دون زيادة أو نقصان. وكما سجَّل إدوارد سعيد "كان يتكلم بصوت خافت دون تلعثم أو ارتكابه لأقل زلة، مما خدم حتما تأثيره". وعندما لاح، وبشكل مفاجئ، اسم المواطن التونسي محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في جسده، يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010، ومع ما ترتَّب عن ذلك من "ثورة سياسية" بتونس، أرغمت زين العابدين على الهروب والتخلي بالتالي عن الرئاسة، سرعان ما تمَّ التفكير في نموذج جديد حوَّل الأنظار إليه دفعة واحدة وسواء في الميادين والشوارع والبيوت... أو في دوائر التحليل. ولم يبد غريبا، في هذا السياق، أن يتم، ومن ناحية موازية، التفكير، ومن منطلق مغاير، في الشيخ أسامة بن لادن الذي كان لا يزال على قيد الحياة يوم أقدم البوعزيزي على فعلته التي تحدَّثتْ عنها قنوات العالم مثلما تحدَّثَ عنها رؤساء العالم الكبار وفي مقدَّمهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وجميع هؤلاء كانوا لا يخفون تعاطفهم مع المواطن التونسي. ومن الجلي أن لا يقبل كثيرون بمثل ربطنا هذا بين شخص منتظم في شبكة دولية وبين شخص آخر اقترن بعربة خضار كان انتزاعها منه سببا مباشرا لإشعال فتيل "الحريق العربي" الذي لا يزال متواصلا حتى الآن. وكما سيكون من الصعب الكتابة عن هذا الشخص الذي كتبتْ عنه، حتى الآن، آلاف المقالات وفي الجهات الأربع من العالم. وذلك بعد أن أقدم على "اختيار" لم يكن يدري مخلفاته على خريطة العالم العربي ككل. ولا ينبغي أن نتغافل عن أن أشخاصا من قبل كانوا قد أضرموا النار في أجسادهم بعد أن لوََّى بهم اليأس القاتل. وحصل ذلك في الجزائر وغير الجزائر، ويمكن أن نطلع على أسماء هؤلاء، وكاملة، في شبكة الاتصال الدولي. لكن دون أن يكون لعملهم هذا، الجريء والخلافي، تأثيرا بلغ حد "الثورة السياسية" كما حصل في تونس. ويوضَّح جيل كيبيل الفكرة ذاتها، عن البوعزيزي، قائلا: "هذا رمز يصلح لمجمل العالم العربي حيث نستطيع العثور على حالات مشابهة في كل أرجائه. لكن خصوصية الحالة التونسية تكمن في واقع أن الحركة تلك أدت إلى الأثر المعلوم". وكما أشرنا في مقالنا السابق "من القابلية للاستعمار لإلى القابلية للثورة"، فالفقر لا يفضي بالضرورة إلى الثورة، ف"الأثر المعلوم" لا تضطلع به، وعلى النحو الأرجح، سوى الطبقة المتوسطة. وهو ما يوضِّحه كيبيل حين يقول مواصلا: " لقد كانت الطبقة الوسطى قادرة على النزول إلى الشارع وإرغام بن علي على الرحيل. مفهوم أن النصر هذا ما كان له ليتحقق، أو على الأقل بالسرعة التي حصل فيها، لو لم يقف الجيش ضد الديكتاتور الذي كان يحتقر الجيش ويعتمد على الشرطة قبل كل شيء آخر". وفيما يخص "الربيع العربي" فقد كانت "المرحلة"، وككل، والتي راح يعيشها العالم العربي على مدار العقود الأخيرة، الظالمة، "سبب الثورة". غير أن ذلك لا يحول دون التذكير بأن العديد من الحروب، الكبيرة، عادة ما، كان سببها تفاصيل صغيرة. فقد كان البوعزيزي شرارة الثورات العربية التي انطلقت من تونس وانتقلت إلى مصر واليمن ليبيا وسوريا، موازاة مع الحراك في بلدان عربية أخرى كثيرة، موازاة مع دول أخرى في آسيا وأوروبا. وكل ذلك في دلالة على "الحاجة للثورة" التي كانت قائمة منذ فترة، كل ما هناك أنها كانت، في حال العرب، في حاجة إلى "شرارة" في حجم "شرارة البوعزيزي". ولم يكن غريبا أن تسارع بعض الأقلام، التي تتربَّص بالأبرياء الذين يدفعون حياتهم ثمنا، نحو البوعزيزي من أجل "رسم الصورة" ذاتها التي لا تخلو من "توابل إثنوغرافية"، وكل ذلك في إطار من سياق "الخلط المقصود" ما بين النضال (الكتابي) والماركتينك السياسي (اللاأخلاقي). وحتى إن كان البوعزيزي كسائر البشر، وعلى النحو الذي دفعه إلى الاحتفاظ بهامش الحب، وعلى التواصل قدر الإمكان بهاتف جوَّال، فإنه، في النظر الأخير، كان نموذج "الكادح الهامشي" كما وصفه، وعن حق، الكاتب فيصل دراج. ولذلك لم يترك، بعد فعلته، سوى عربته وهاتفه الحمراوين معا اللذين لا يليق بهما مكان من غير متحف من المتاحف المحروسة من اللصوص والمتربصين بقيم الثورة والإنسانية بصفة عامة. لا ندَّعي أننا سبَّاقون إلى الربط ما بين بن لادن البوعزيزي، وفي السياق ذاته الذي هو سياق الثورات العربية، ذلك أن عناوين كثيرة أكدت الربط نفسه. وفي هذا المنظور قرأنا عن "تراجع شعبية بن لادن بين الشباب العربي"... وهو عنوان يخلو من النبرة الحدية التي نجدها في عناوين مثل "هذا عصر محمد البوعزيزي وليس عصر أسامة بن لادن!"، و"زمن بن لادن انتهى.. إنه زمن البوعزيزي"، و"كاريزمية البوعزيزي حلت محل كاريزمية بن لادن"، و"ذهب بن لادن وجاء بوعزيزي"، و"تغيرت اللعبة... اسحبوا بن لادن"... إلخ. وقرأنا، في سياق المقارنة، عن "البوعزيزي" الذي "سيتقدم على بن لادن بمراحل"، وعن "لماذا نجحت ثورة البوعزيزي وفشلت دعوة بن لادن"، بل وقرأنا لمن ذهب إلى ما هو أبعد حين وصف ما حصل في العالم العربي ب"ثورة البوعزيزي"... إلخ. وقرأنا، وهذه المرة في منظور "الميزان المعكوس"، عن "البوعزيزي الذي لم يطلق لحيته" و"لم يرسل تسجيلا صوتيا لقناة تلفزيونية قبل أن ينسف حزامه"، و"الذي لم يرفع يوما شعارا إسلاميا"... وقرأنا عن "الشهيد العلماني البوعزيزي"، وعن "هل البوعزيزي شهيد؟"، وعن "علي الظفيري" الذي "يهاجم من توعدوا محمد البوعزيزي بنار جهنم وينعتهم بالكفار"... وهذا في مقابل قراءات عكست الآية ب"دليل" أن البوعزيزي هو "المخلص"، وهو "مفجِّر الإيمان في القلوب"، وهو "مسيح بلا توراة" (أخذا بعنوان الرواية التي خصَّصها الكاتب والمخرج المصري أسامة حبشي، وفي إطار من التخييل، للبوعزيزي)، وقرأنا عن "البوعزيزي الذي جلب تعاطف العالم مع العرب والمسلمين بعد أن كانوا يرون فيهم [وبسبب من أسامة بن لادن، تعيينا] إرهابيين"، وعن "فرنسا التي سمَّت ساحة باسمه رمزا له وللحرية". وقرأنا عن "الصحف الأوروبية" التي أخذت "تكتب صفحات كاملة باللغة العربية عن الثورة المصرية والتونسية، تلك الصحف التي لم تكتب سطر واحدا عن قممنا العربية حتى ولو كان ذلك باللغة المسمارية". وفي السياق ذاته، الذي هو سياق "البوعزيزي والإرهاب"، فقد "أحرق [البوعزيزي] براديغم القاعدة، وقدم خدمة جليلة لأمريكا عامة ولأوباما خاصة"، ولذلك "ماذا عسى أوباما يقول إلا: شكرا البوعزيزي... معك انتهت اللعبة القديمة... يمكنني أن اسحب بن لادن من الخدمة". وقرأنا أيضا عن الذين سعوا إلى محاكمة بن لادن انطلاقا من البوعزيزي الذي لم يكن يرغب في غير متر مربع صغير يبيع فيه خضاره وليس إلى قصر فيه نساء وإنجاب... إلخ. وقرأنا لمن ذهب إلى ما أبعد من كل ما سبق، وسواء في سياق الوصل أو الفصل ما بين الطرفين، ذلك أن البوعزيزي هو من "قتل بن لادن" حين "قتل الفكر الذي يؤمن بأن الإرهاب والقتل والتفجيرات هي التي ستغير النظام الظالم، ورفع من شأن النضال السلمي من أجل التغيير والمطالبة بالحقوق المسلوبة"، وحجة صاحب الرأي أن "العنف هو لغة الأنظمة المستبدة وهي اللغة التي يجيدها المستبدين أكثر من غيرهم عشرات المرات". وبكلام جازم: "إن بن لادن قد مات يوم أشعل البوعزيزي النار في نظام الطاغية بتونس". وفي السياق نفسه إذا كان "مئات الشباب اعتنقوا دعوة بن لادن ولفوا أجسادهم بقنابل ومواد متفجرة"، و"قتلوا أحياناً المئات وأحياناً أخرى لم يقتلوا إلا أنفسهم في تلك العمليات... ليحصدوا اللعنات وينشروا الحسرات في قلوب الآباء والأمهات" فإن "البوعزيزي رحمه الله خرج وحيداً وبعود كبريت فقط أشعل نفسه ليشعل من ورائه الملايين في أنحاء المعمورة... ويسجل نقطة تحول تاريخية في حياة الديكتاتوريات العربية". والأكثر من ذلك فقد "ثار البوعزيزي على كل الأنظمة العربيّة وعلى كل النظام العالمي وعلى جور نمط العلاقات الرأسماليّة، بعلمه أو بدون علمه". ومن ثم فإن سؤالا في حجم "متى تكرم مصر البوعزيزي؟" وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة المتناسلة، التي يضيق المقام عن ذكرها، هو ما لم يظفر به الشيخ أسامة بن لادن ولو من باب الغمز واللمز. إجمالا "جاء البوعزيزي وقال العكس" كما قالت بدرية بشر في مختتم مقال في الموضوع نفسه "ربما ذهب بن لادن وجاء "بوعزيزي" (جريدة "الحياة"، الأربعاء 11 مايو 2011). والحدث الذي دشَّنه البوعزيزي، وهو ما تومئ إليه أغلب النصوص السابقة كذلك، هو تحويل الأنظار من "الخارج" إلى "الداخل". فبعد أن كان الشباب يرحلون للجهاد في "الخارج"، وحتى في "الداخل" بمعناه المجازي، حيث يوجد "العدو" الذي هو مصدر "المظالم"، فإن البوعزيزي جاء ليكرِّس ضرورة الارتباط ب"الداخل" بمعناه الحرفي. وعلى الرغم من أنه كان "في حالة ثورة وغليان نفسي، ولا يملك فيها نفسه وحرية إرادته"، وأنه "خالف فيها الشرع الذي ينهى عن قتل النفس" ، و"الصبر مفتاح الفرج"، فإنه أقدم على "فعل" سيظل من الأفعال التي تتحول إلى "نصوص كبيرة" تنطوي على "دلالات رمزية عدة". ولذلك عندما ردَّ البوعزيزي على الظلم الذي لحقه من الشرطية التونسية ، التي أمعنت في إهانته وفي دوْس كرامته، فإنه كان يرد، في النظر الأخير، وبطريقته، على نظام بأكمله أصرَّ على أن يجرده من "وطنه البديل" المتمثل بعربته لا غير. وفي ظل غياب الحد الأدنى من الدولة التي تضمن له، وعلى الأقل أن يُسمع شكواه، فإنه لم يملك إلا أن يتكلم لغة النار غير آسف على الدنيا التي فارقها كما يفارقها المئات من أمثاله لكن بالتقسيط وليس دفعة واحدة. ومن ثم فإن شعارا من مثل الشعار الذي رفع في اليمن "يا بوعزيزي يا مغوار .. احنا معاك على خط النار .. ضد الحكام الأشرار"، والذي تكرَّر، وتحت صيغ أخرى في العالم العربي ككل، جاء ليؤكد على "الشر الراديكالي" الذي يقع في صميم "تشكُّل الأنظمة العربية المفترسة". ومن "حسنات" الشرطية التونسية، فادية حمدي للمناسبة، وإذا كان لها من حسنات أخرى من غير ما ألحقته بالبوعزيزي، أنها كانت تقوم بدور أخطر هو دور "الحافز" فيما كان البوعزيزي يقوم بدور "المستجيب" الذي لم يكن يملك من غير "سلاح النار" الذي غطّى به على دور الحافز بل ودمَّر ما يسميه الرطان البنيوي "النموذج العاملي للتواصل". كلاهما كان يتحرك من داخل "الحكاية الإطار"، مع فارق في أداء الدور. ومن ثَمَّ تكشف "المرتكز الهش"، أو "الكارطوني" إذا صحَّ التشبيه، للنظام. أجل "لا تدمير بدون نظرية" أو "لا ثورة بدون نظرية" كما في أبجديات "علوم الثورة"؛ غير أن "تدمير"، أو "حريق البوعزيزي"، كان بدون نظرية؛ مما دفع "أهل النظرية" إلى أن يعيدوا النظر في نظرياتهم. فالبوعزيزي نموذج لجيل بأكمله، من الشباب العربي العاطل والساخط، الذي وجد ذاته في شرنقة من "دفاتر الخسران" كما في عنوان الشاعر المغربي أحمد بركات الذي فارق، من شدة المرض، وسرطان المرحلة أيضا، الحياة، ودون أن يطلع على عنوان ديوانه الثاني "أبدا لن أساعد الزلزال"، الذي شغل عالمنا العربي، شأنه في ذلك شأن شاعر آخر، اختصر الطريق بفعل إرادي، وذلك حين وضع حدا لحياته، وفي مقتبل العمر، وقبل أن يطلع على عنوان ديوانه "تقاسيم على آلة الجنون". مرحلة تحرم الإنسان حتى من ممارسة جنونه لفائدة جنون من نوع آخر هو "الجنون الرئاسي" و"الجنون الاستخباراتي" و"جنون الاستبداد" و"الاستبلاد" و"الاستحواذ". إن الكتابة عن البوعزيزي، في تصوري، لا يمكنها أن تحافظ على "تاج التحليل" الذي لا يملك إلا أن ينحني ل"فضيلة البورتريه"؛ ذلك أننا، وبمعنى من المعاني، معنيون بالبوعزيزي. ومن ثم كم من بوعزيزي بيننا؟ وكم من "سيدي بوزيد" مع وقف التنفيذ نقيم فيها أو تقيم فينا؟ وهل سنحيد عن جادة الصواب إذا ما قلنا "كلنا بوعزيزي" وسواء من ناحية ذواتنا أو من ناحية من يحيطون بنا على امتداد العالم العربي الذي تحول إلى سجن بدون سقف. البوعزيزي لم يكن يعبر عن "محنة شخصية"، وإنما كان يعبر عن الغالبية العظمى في العالم العربي أو عن هذا العالم الأخير في مجموعه. إجمالا سيكون من باب القراءة المبتسرة لو أننا لم نضع "الرايس البوعزيزي" على رأس العوامل التي ألهبت العالم العربي، وجعلته بالتالي يدفعنا إلى صياغة هوية مشتركة قوامها "الثورة" على "الأنظمة" الغارقة في "العته" و"اللامبالاة" و"الإمعان في الإذلال". وكما تأكد فإن هذه الثورات هي الأذكى مقارنة مع الأنظمة، وأن الإرادة هي الأصلب أمام نيران القمع اللاهبة. إنه "شبح" البوعزيزي الذي سيظل يطارد الطغاة، من الأشرار، الذين اطمئنوا إلى أن بلدان العالم العربي "محمية شخصية" لهم حيث لا فرق بين البشر والشجر والحجر.