بعد خمس سنوات من تنازله على العرش لصالح ولي عهده الأمير فيليب، أعلن الملك الأب خوان كارلوس الأول، قبل أيام انسحابه من كل مهامه التي احتفظ بها بصفته ملكا فخريا أو شرفيا يمثل المملكة في مناسبات وطنية ودولية بتكليف من الملك الفعلي فيلب السادس، وكانت هذه الصيغة التي توافق عليها البرلمان الإسباني بأغلبية مطلقة بين الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي في يونيو 2014، صيغة حافظت للملك خوان كارلوس على حصانته ومكانته كملك، وكذلك تعويضاته التي حصرتها ميزانية القصر الأخيرة في 200.000 يورو سنويا. وأثار حينها قرار الملك بتنازله عن العرش لصالح ولي عهده الكثير من الشكوك حول أسبابها الحقيقية، ومنها تورط ابنته الصغرى الأميرة كريستينا وزوجها أوندانغرين في ملفات فساد أدت إلى محاكمتهما وصدور حكم بالسجن في حق زوجها صهر الملك خوان كارلوس، كما تزامنت الاستقالة من المهام الفخرية مع تناسل الأخبار عن تورط أو علم الملك بنشاطات صهره غير المشروعة، وكذلك تورطه شخصيا في وساطات تجارية مع دول الخليج مقابل عمولات تمر مباشرة لحسابات سرية في باناما وسويسرا. قرار الملك الفخري خوان كارلوس الأول القاضي بالاستقالة من كل مهامه في رسالة مقتضبة إلى الملك فيليب السادس، أعاد الحديث عن الشكوك التي رافقت تنازله عن العرش وعن الأسباب الحقيقة لمثل هذا القرار. قرارات التنازل عن العرش لم تعد طابوها في الملكيات الأوروبية، وسبق لملك بلجيكا أن تنازل عن العرش لصالح ابنه، وكذلك ملكة هولندا لصالح ولي عهدها، وأخيرا إمبراطور اليابان لصالح ابنه، دون أن تثير الجدل الذي أثاره تنازل الملك خوان كارلوس عن العرش، والآن باستقالته من كل مهامه كملك فخري. لماذا الجدل؟ وما هي الأسباب الحقيقية لهذه الاستقالة؟ عادت الملكية في إسبانيا، على خلاف أغلب الملكيات الأوروبية، باتفاق وتنسيق وترتيب من نظام فرانكو، والملك خوان كارلوس كان له دور استثنائي في التوافق مع القوى الديمقراطية والجناح المعتدل من نظام فرانكو على انتقال ديمقراطي سلس انتهى بالمصادقة على دستور 1978 وانطلاق المسلسل الديمقراطي الذي احتفلت إسبانيا السنة الماضية بذكراه الأربعين. بمعنى أن الملك خوان كارلوس، الذي تخلى عن سلطاته التنفيذية لصالح حكومة ديمقراطية منتخبة من الشعب، ليس ملكا عاديا؛ فقد كان له دور محوري في التوافق على ملكية برلمانية وإقامة التوازنات في مرحلة دقيقة من تاريخ إسبانيا، وبالخصوص بين المعارضة اليسارية القوية آنذاك والجناح المعتدل من نظام الجنرال فرانكو والجيش الذي كان إلى ذلك الوقت حجر الزاوية في النظام. وبالتالي، كان من الطبيعي أن تثير تنازلاته المتتالية عن العرش أولا، وعن مهامه كملك فخري الآن، جدلا لا يبدو أنه سينطفئ بسرعة. أسباب الاستقالة يشرحها بيان القصر الملكي بالوضع الصحي للملك الفخري، وبرغبته في الخلود للراحة بعد ما يزيد عن 50 سنة من خدمة إسبانيا بدون انقطاع وبكل تفان وإخلاص. لكن بعض المصادر المقربة من الملك الفخري ومن ابنته الكبرى الأميرة إيلينا أكدت أن أسباب الاستقالة المفاجئة وعبر رسالة مقتضبة للملك فيليب، تعود لغضب الملك الأب على تهميشه المستمر وإقصائه من حضور استعراض اليوم الوطني للقوات المسلحة في 1 يونيو الفارط، ومن نشاطات أخرى تحمل رمزية هو جزء منها، ومنها الذكرى الأربعينية للمصادقة على دستور 1978 وعدم استدعائه للمشاركة فيها إلى جانب زعماء الانتقال الديمقراطي الذين ما يزالون على قيد الحياة، واعتبر خوان كارلوس تهميشه إذلالا في حق ملك يعترف له العالم بدوره في عودة الديمقراطية إلى إسبانيا. خايمي بنيالفيل، صحافي متخصص في القصر الملكي الإسباني، اعتبر أنّ استقالة الملك الأب كانت بضغط من الملك فيليبي والملكة ليتيسيا، وأنها مؤامرة مدبرة لإزالته من المشهد السياسي، وأن وجوده أصبح مزعجا للملك الجديد ويسبب كسوفا لصورته. وأشار الصحافي ذاته إلى علاقات التوتر التي تجمع الملك الفخري والملكة الأم بالملكة الجديدة، وبعضها نقلته وسائل الإعلام بالمباشر في إحدى المناسبات الدينية. بيلار أوربانو، صحافية قريبة من الملكة صوفيا متتبعة لشؤون العائلة المالكة في إسبانيا، اعتبرت أن أسباب الاستقالة تكمن في قضايا الفساد التي تحاصر الملك الأب وبعض أفراد أسرته، وكذلك مغامرات الملك خوان كارلوس الغرامية، وسفرياته للصيد في إفريقيا، والتسجيلات التي سربها العميد المُعتقل فيجاريخو عن اتهامات إحدى عشيقاته، الألمانية كورينا، بخصوص أملاك وتحويلات تمت في اسمها في دول مجاورة. وأشارت الصحافية نفسها إلى أن هذه الملفات أصبحت تُزعج الملك فيليبي في ظرفية حرجة من تاريخ المملكة، وبالخصوص ملف الانفصال في كاطالونيا، وأن مستشاري الملك فيليب ينصحون بالقطع مع مرحلة الملك خوان كارلوس وبضرورة انسحابه التام من الواجهة السياسية. لا شك أن الأسباب التي قدمها القصر الملكي في بيان مقتضب، وتصريحات الحكومة، لم تقنع الرأي العام الإسباني، ولا شك أن قضايا الفساد التي كان بطلها صهر الملك الفخري، ومغامرات هذا الأخير الغرامية والتجارية كان لها دور سواء في التخلي عن العرش أو في الاستقالة الآن، لكن الأكيد الذي تتداوله سراديب الدولة الإسبانية العميقة أن مستجدات جديدة وخطيرة ستعرف النور قريبا، بعضها له علاقة بملف الفساد الذي حُكِم بسببه صهره أوندانغرين، وأخرى ربما أكثر خطورة تهدد المؤسسة الملكية في هذه الظرفية الدقيقة من تاريخ إسبانيا الديمقراطية، أسباب كافية للضغط على الملك الأب بالانسحاب نهائيا من الحياة السياسية الإسبانية.