"تنحى الملك.. عاش الملك"، أضحت هي الملازمة بدل العبارة الشهيرة "مات الملك.. عاش الملك" لوصف الموضة، التي سارت على دربها الأنظمة الملكية بالقارة العجوز، عكس ما كان يقع في الماضي حين كان الجالس على العرش لا يفارق كرسيه طواعية إلا بعد الموت. فبعد تنحي ملكة هولندا عن العرش لصالح ابنها، وتخلي العاهل البلجيكي عنه كذلك لصالح نجله، ها هو الملك الإسباني خوان كارلوس، الذي قضى أربعين سنة جالسا على كرسي العرش، يستجيب لرغبة الشعب الإسباني في منح العرش لابنه فيليب، بعد تدني شعبيته وشعبية الأسرة الحاكمة، بعد الفضائح التي ظهرت في عز الأزمة المالية بالجارة الشمالية للمغرب. بعد 40 سنة قضاها على كرسي العرش، قرر ملك إسبانيا التنحي عن العرش، حسب ما أعلن عنه، أول أمس الاثنين، وزير الداخلية بالجارة الإسبانية. وقال ملك إسبانيا خوان كارلوس، أول أمس، إنه سيتنازل عن العرش لصالح ولي عهده الأمير فيليب بهدف إعادة إحياء الملكية التي شابتها فضائح، في وقت تواجه فيه البلاد صعوبات اقتصادية واستياء متزايدا من النخبة السياسية. وقال خوان كارلوس في خطاب تلفزيوني: «هناك جيل جديد يطالب عن حق بتولي القيادة». وجاء خطابه بعد ساعات من إعلان رئيس الوزراء ماريانو راخوي بشكل مفاجئ أن الملك سيتنحى بعد نحو 40 عاما من اعتلائه العرش، والذي جاء فيه أن ولي العهد، الأمير فيليب، البالغ 46 سنة، سيتولى مقاليد الحكم خلفا لوالده. هذا الأخير لم يتحدث عن الدواعي والأسباب وراء تنحي الملك خوان كارلوس عن العرش، لكنه أوضح أن الملك سيصدر بلاغا في وقت لاحق. «أبلغني للتو جلالة الملك خوان كارلوس بقراره التنحي عن العرش»، كما جاء في خطاب راخوي، الذي أوضح أنه «يتمنى أن تقوم المحاكم الإسبانية في وقت عاجل باتخاذ كافة الإجراءات لتعيين الأمير الحالي لأستورياس ملكا للبلاد». ويجعل حدث نقل السلطة الملك خوان كارلوس، أول عاهل بإسبانيا، يتنحى عن العرش لفائدة نجله منذ العام 1885. وقال راخوي إن الملك، الذي يعاني من متاعب صحية بعد العمليات الجراحية المتتالية التي أجراها على فخذه، قرر التنحي لأسباب شخصية، موضحا أن الملك سيوضح الأمر بنفسه. وأبرز رئيس الحكومة أن العاهل الإسباني يرغب في التوجه «شخصيا بخطاب إلى الإسبانيين هذا الصباح». وأضاف أنه دعا، في هذا الصدد، إلى عقد «اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء» الثلاثاء، مشيرا إلى أن مسلسل التنحي يستدعي «بالضرورة المصادقة على قانون تنظيمي». وعبر ماريانو راخوي عن الأمل في أن يتمكن مجلس النواب من المصادقة على تعيين الأمير فيليب ملكا للبلاد في أقرب الآجال، مضيفا أن الملك خوان كارلوس الأول (76 سنة) «يعد أكبر مدافع عن ديمقراطيتنا». وأشار رئيس الحكومة إلى أنه «يمثل» أفضل رمز لعيشنا المشترك بسلام وحرية». لأسباب سياسية بالمقابل، نقلت وكالة «رويترز» للأنباء، أول أمس الاثنين، على لسان مصدر بالقصر الملكي الإسباني، أن خوان كارلوس قرر التنازل عن العرش لأسباب سياسية وليست صحية. وتابع المصدر نفسه في تصريحه «إنه قرار سياسي.. تنازل عن العرش جراء التحديات الجديدة في إسبانيا ولأنه يعتقد أنه من الضروري إفساح الطريق أمام الجيل الجديد». وأضاف أن الملك اتخذ قراره في يناير وأبلغ به رئيس الوزراء ماريانو راخوي وزعيم الحزب الاشتراكي المعارض ألفريدو بيريث روبالكابا في أبريل. وقال المصدر إنه تأخر إعلان القرار إلى ما بعد الانتخابات الأوروبية لتفادي التأثير على الأصوات. وبعد تنحي الملك خوان كارلوس، يصبح ولي العهد السابق، الأمير فيليب، الذي تختلف شخصيته إلى درجة كبيرة عن شخصية والده، الملك فيليب السادس. هذا الأخير استطاع نيل رضا الإسبان رغم الفضائح التي تخبطت فيها العائلة الملكية، إذ استطاع الحفاظ على دعم وتقدير ثلثي الإسبان، وفق نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي انخفضت فيه شعبية الملك والنظام الملكي إلى ما دون الخمسين في المائة. ويمثل الأمير فيليب، الهادئ والأكثر تحفظا من والده، الأمل في إعادة إحياء دور النظام الملكي، لاسيما أنه لم يتورط في أي قضايا فساد، ونظرا للصورة الجيدة التي يحظى بها لدى الإسبان، إذ يمثل بالنسبة للعديدين البساطة والحداثة رفقة أسرته. وبعد الإنجاز الكبير الذي حققه خوان كارلوس في الانتقال بالبلاد إلى مصاف الدول الديمقراطية وصد محاولات العودة إلى النظام الدكتاتوري، يتعين على الملك فيليب السادس ضمان استمرارية عمل المؤسسات واستعادة ثقة الإسبان في النظام الملكي. وهذا ما أجمع عليه أغلب المحللين السياسيين، الذين قالوا إن الحزب الشعبي الحاكم المحافظ يتوق إلى جعل الأمير فيليب الأكثر شعبية يعتلي العرش ليسعى إلى مكافحة المشاعر المتزايدة المعادية للملكية. وكانت أحزاب صغيرة يسارية وأخرى معادية للنظام القائم حققت نتائج جيدة على نحو مدهش في الانتخابات. غير أن ذلك لا يعني أن الملك خوان كارلوس، البالغ 76 سنة، فقد مكانته الخاصة لدى أغلب الإسبان. فرغم المشاكل التي واجهتها العائلة الحاكمة في السنوات الأخيرة، مازال الجميع يعتبرونه ضامن الانتقال الديمقراطي، نظرا للخدمات الكبيرة التي قدمها للبلاد وقراره الوقوف في صف الدفاع عن الديمقراطية بعد وفاة الدكتاتور فرانكو في العام 1975. ضربات موجعة لكن شعبية العاهل الإسباني تلقت ضربة موجعة، بعد الأزمة التي ضربت إسبانيا في الثلاث سنوات الأخيرة، والمشاكل الصحية التي يعاني منها خوان كارلوس، وفضيحة ذهابه إلى الصيد بالبراري الإفريقية في عز الأزمة المالية، فضلا عن اعترافات أميرة ألمانية سابقة تزعم أنها كانت عشيقته، وقضية الفساد التي تورط فيها صهره ومتابعة ابنته الصغرى، الأميرة كريستينا أمام القضاء بسبب ذلك. ويجمع أغلب المحللين السياسيين على أن السياسة التي نهجها خوان كارلوس في سنوات حكمه، تمثلت في خلق جو من التصالح بين الإسبان بمختلف القناعات السياسية، وبمختلف الانتماءات الدينية. كما يعتبر العديد من الأشخاص أن أكبر إنجاز حققه العاهل الإسباني يتمثل في الموقف الصارم الذي اتخذه لوقف الانقلاب العسكري الذي شنه الجناح اليميني بالجيش سنة 1981، حينما أعلن قي خطاب تلفزيوني أن النظام الملكي لن يسمح بأي محاولة للوقوف في وجه مسلسل التحول الديمقراطي عبر الاستعانة بالقوة. رأى خوان كارلوس النور بروما سنة 1938، ولم تطأ قدماه الأراضي الإسبانية حتى بلوغه سن العاشرة. وفي فترة حكم الجنرال فرانكو لإسبانيا، تلقى تدريبه بالجيش وأصبح أول ضابط إسباني يحصل على رتبة نقيب في الأقسام الثلاثة من الجيش. وفي العام 1969، تم تنصيبه وليا للعهد وعين خلفا للجنرال فرانكو. وفي ال 22 من نونبر 1975، يومين بعد وفاة فرانكو، تم تنصيب خوان كارلوس ملكا على العرش الإسباني، ليعيد النظام الملكي إلى إسبانيا بعد فترة انقطاع دامت 44 سنة. وفي العام 1977، أقر خوان كارلوس مجموعة من الإصلاحات السياسية التي توجت بتنظيم إسبانيا لأول استحقاق انتخابي ديمقراطي في تاريخ البلاد منذ العام 1936. وخلال سنوات حكمه، تمكنت إسبانيا من التحول إلى بلد صناعي داخل القارة العجوز وإلى وجهة لقضاء العطلة بالنسبة للأوربيين. لدى الملك والملكة صوفيا ثلاثة أولاد وعدد كبير من الأحفاد، وتمكنا خلال السنوات التي قضتها العائلة في الحكم من جعل النظام الملكي أكثر انفتاحا على عموم الشعب، مع الالتزام نسبيا بقدر من التقشف. هذا الالتزام النسبي بالتقشف لم يشفع لخطيئة فرانكو لدى معظم الإسبان، لحظة علمهم أن ملكهم ذهب في رحلة باهظة التكاليف لصيد الفيلة بالفيافي الإفريقية ببوتسوانا. حدث ذلك في عز الأزمة المالية التي ضربت إسبانيا، وتأدت بسببها المكانة التي كان يحظى بها خوان كارلوس، لاسيما أن رحلة الصيد جاءت أسابيع فقط بعد إدلاء الملك بتصريح صحفي قال فيه إنه منزعج جدا من تزايد عدد العاطلين عن العمل بالأراضي الإسبانية، لدرجة أنه أصبح يجد صعوبات في الخلود للنوم. كريمة خوان كارلوس كما أن صورة النظام الملكي الإسباني تأدت أكثر بعد فضائح الفساد التي تورطت فيها الابنة الصغرى للملك، الأميرة كريستينا، وزوجها. وجاء الكشف عن تلك الفضائح مباشرة بعد احتفال الملك خوان كارلوس بعيد ميلاده ال 76، بعدما قالت تقارير إعلامية إن ابنته الصغرى، الأميرة كريستينا، ستتابع أمام القضاء بتهمة التهرب الضريبي وتبييض الأموال، من أجل الاستماع إلى أقوالها. شكل ذلك الحدث المرة الأولى التي تتم فيها متابعة أحد أفراد العائلة الملكية الإسبانية بشكل مباشر، في إطار التحقيق من أجل التورط في الفساد، الذي يستهدف إنياكي أوردانغارين، زوج الأميرة كريستينا، البالغ 45 سنة، والمتهم بجريمة الاختلاس المالي. ونقلت حينها صحيفة «إلباييس» عن خوسي كاسترو، قاضي التحقيقات بمحكمة بالما دي مايوركا، الذي يحقق في هذه القضية منذ 2010، قوله إن هناك أدلة تشير إلى أن كريستينا، البالغة 48 سنة، ارتكبت جرائم متعلقة بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال، ووجه لها استدعاء للمثول أمام المحكمة للإدلاء بأقوالها. وسعى القضاء الإسباني إلى معرفة إن كانت لابنة الملك أي علاقة بأنشطة الفساد التي يتم التحقيق فيها مع زوجها. هذا الأخير، الذي كان بطلا أولمبيا سابقا في رياضة كرة اليد قبل أن يصبح رجل أعمال، متهم باختلاس 6.1 ملايين أورو من الأموال العمومية رفقة شريكه، دييغو توريس، حينما كان يرأس، بين العام 2004 و2006، شركة ليست لها أهداف ربحية. وتخضع حاليا الأميرة كريستينا وزوجها إيناكي أوردانغارين للتحقيق، ومن المقرر أن يصدر القضاء قرارا في وقت قريب بشأن ما إذا كانا سيمثلان للمحاكمة بتهم اختلاس أموال عمومية. وقبل متابعة كريمة الملك أمام القضاء الإسباني، نشرت صحيفة «إلباييس» استطلاعا للرأي، تزامنا مع الذكرى ال76 لميلاد الملك، خلصت نتائجه إلى تدني شعبية العاهل الإسباني خوان كارلوس إلى مستويات غير مسبوقة، مع تصاعد مطالب أغلبية الإسبان (62 في المائة) بضرورة تنازل خوان كارلوس عن العرش لفائدة نجله، الأمير فيليب. «في البداية كان الأمر أحد الطابوهات، ثم تحول إلى إشاعة تجري على الألسن، قبل أن يتحول إلى موضوع للنقاش». بهذه العبارة وصفت حينها صحيفة «لوفيغارو» الحدث، والتي توقفت كذلك عند تراجع أعداد مؤيدي النظام الملكي إلى أقل من 50 في المائة. موضة التنحي بأوروبا ليس خوان كارلوس العاهل الأوربي الوحيد الذي تنحى عن العرش مؤخرا. ففي أقل من أربعة عشر شهرا، شهدت القارة العجوز تنحي ثلاثة ملوك عن العرش، بعدما سبقت خوان كارلوس في ذلك ملكة هولندا بياتريكس، والعاهل البلجيكي ألبير الثاني، خلال السنة الماضية. بيد أن إليزابيث ملكة إنجلترا، قد تكون آخر من يفكر في التنحي عن العرش؛ لاسيما أنها تحتفظ داخل أوروبا بالرقم القياسي من حيث عدد السنوات التي قضتها في الحكم، فهي تجلس على العرش البريطاني منذ أكثر من 62 سنة. ويرى المتتبعون للشؤون السياسية ببريطانيا أنه في حال استمرار الملكة إليزابيث في الجلوس على العرش حتى يوم 11 شتنبر 2015، ستكون بذلك الحاكمة التي عمرت لأطول وقت في تاريخ العرش البريطاني. كما أن الملكة تحظى بدعم شعبي استثنائي، قد يجعل ابنها ينتظر لسنوات أخرى قبل الجلوس على العرش، في حال بقاء الملكة على قيد الحياة. من جهة أخرى، منح الزواج الأخير للأمير وليام من كيت ميدلتون، وولادة ابنهما، الأمير جورج، شهر يوليوز الماضي، حسا شبابيا للنظام الملكي البريطاني، إلى درجة أن «الرضيع الملكي» تصدر صفحات صحف العالم في اليوم الذي تلا ولادته. وهذا ما عكسه استطلاع رأي تم إجراؤه مؤخرا، أوضح أن 77 في المائة من البريطانيين يؤيدون الحفاظ على النظام الملكي، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد الراغبين في تحول المملكة المتحدة إلى جمهورية نسبة 17 في المائة. لكن هذه الحسابات المتعلقة بتحطيم الأرقام القياسية لم تشمل العاهل البلجيكي، ألبير الثاني، الذي فضل ترك العرش لنجله، فيليب، شهر يوليوز 2013. ومثل خوان كارلوس، أوضح ملك بلجيكا السابق أن المشاكل الصحية كانت السبب الذي دفعه للتنحي؛ لكن ذلك لم يقنع فئات عريضة من الشعب البلجيكي، ربطت بين تنحي الملك عن العرش، والدعوة المرفوعة ضد ملك بلجيكا من قبل ابنته غير الشرعية، دلفين بويل، التي تطالب من خلال القضاء بإجراء فحوصات الحمض النووي من أجل إثبات نسبها، والتمكن من خلال ذلك من الحصول على الامتيازات التي يخولها لها القانون البلجيكي. بهولندا، تنحت الملكة بياتريكس عن العرش دون وجود أي فضائح، وتولى الملك الجديد وليام ألكسندر مقاليد الحكم في أبريل 2013 محل والدته. ومرت عملية نقل السلطة في أجواء هادئة، ولم يكن من مبرر آخر وراءها سوى سن الملكة المتنحية. ففي سن ال75 اعتبرت هذه الأخيرة أن الوقت قد حان من أجل وضع التاج على رأس نجلها، في بلد يعتبر فيه النظام الملكي أحد ركائز الهوية الوطنية، دون أن يعني ذلك أن للملك تأثيرا سياسيا في القرارات التي تتخذ بالبلاد.
