التقدم والاشتراكية: سبب الخوف من مبادرة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق سيظل سؤالاً شعبيًّا يُطاردُ الحكومة ورئيسها    خبراء يدعون إلى تعزيز الابتكار والحكامة لتقليص تأثيرات التغيرات المناخية    المنتخب المغربي للتايكواندو يشارك في كأس رئيس الاتحاد الدولي للتايكوندو بأديس أبابا    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    مطالب الاتحاد المغربي للشغل    من احتلال الأرصفة إلى غزو الشوارع.. فوضى الملك العمومي تتوسع بطنجة    "الإيقاع المتسارع للتاريخ" يشغل أكاديمية المملكة المغربية في الدورة الخمسين    ندوة علمية حول موضوع العرائش والدفاع عن السيادة المغربية عبر التاريخ: نماذج ومحطات    الغربة بين الواقع والوهم: تأملات فلسفية في رحلة الهجرة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات.. المنتخب المغربي يحقق فوزا عريضا على نظيره الناميبي (8-1)    صحيفة ماركا : فينيسيوس قد يتعرض لعقوبة قاسية (إيقاف لمدة عامين    "‪الأحرار" يفوز بالانتخابات الجزئية بتزنيت    الفلاحة المغربية تحظى بإشادة دولية.. ورغبة فرنسية في "تعاون مكثف"    صحيفة دانماركية تروي القصة الكاملة لسفن "ميرسك" المُحملة بالأسلحة لإسرائيل.. كيف مُنعت في إسبانيا واستُقبلت في طنجة    دونالد ترامب يزور الشرق الأوسط ما بين 13 و16 ماي المقبل    انطلاق جولة الحوار الاجتماعي    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم محسن جمال    بنيس: الرواية أبرزت هوية الفلسطيني.. بلقزيز: المشروع الصهيوني همجي    لبؤات الفوتسال يحققن فوزا عريضا على ناميبيا في افتتاح المشوار بكأس أمم إفريقيا    الحسيمة تتربع على عرش قائمة المدن الأكثر غلاء في المعيشة وارتفاع الأسعار    تحلية مياه البحر في المغرب: رهان استراتيجي لمواجهة ندرة المياه وتأمين المستقبل المائي    توقيف تونسي مبحوث عنه دوليًا في قضايا سرقة وقتل وهروب من حكم ب30 سنة سجنا    بتعليمات ملكية سامية.. الفريق أول محمد بريظ يقوم بزيارة عمل لدولة قطر    الفاتيكان يكشف تفاصيل جنازة البابا فرنسيس    جمعية سمايل تعزز التماسك الأسري عبر دورة تكوينية نوعية بفضاء جسر الأسرة بالناظور    جامعة عبد المالك السعدي تشارك في الملتقى الإقليمي للتوجيه بالحسيمة    المغرب تطلق صفقة لتشييد محطة للغاز الطبيعي المسال بالناظور    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    أخبار الساحة    من تداعيات شد الحبل بينها وبين الوزارة الوصية .. جامعة كرة السلة توقف البطولة الوطنية بكل فئاتها بسبب العوز المالي    الجولة 27 من الدوري الاحترافي الأول .. الوداد ينتظر هدية من السوالم وأندية الأسفل تمر إلى السرعة القصوى    تكريم الدراسات الأمازيغية في شخص عبد الله بونفور    تأييد الحكم الابتدائي وتغليظ التهم رغم التنازلات في حق الرابور «طوطو»    اعمارة يحث على "الإبقاء على حق الأفراد والمجتمع المدني في التبليغ عن الجرائم الماسة بالمال العام"    الكرملين: بوتين لا يخطط لحضور جنازة البابا فرنسيس    الدولار يتراجع لأدنى مستوى في سنوات مقابل اليورو والفرنك السويسري    بسبب تكريم باسم والدته.. نجل نعيمة سميح يهدد باللجوء إلى القضاء    من السماء إلى العالم .. المغرب يحلق بأحلامه نحو 2030 بمطار ثوري في قلب الدار البيضاء    فوزي برهوم الناطق باسم حركة حماس ضيفا في المؤتمر 9 لحزب العدالة والتنمية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    "أفريكوم" تؤكد مشاركة الجيش الإسرائيلي في مناورات الأسد الإفريقي    طلبة الطب وطب الأسنان والصيدلة يطالبون وزير الصحة بالوفاء بالتزاماته ويستغربون تأخر تنفيذ الاتفاق    إسرائيل تمنع تطعيمات شلل الأطفال عن غزة.. 600 ألف طفل في خطر    "البيجيدي": نخشى أن يتحول مشروع الغاز بالناظور لفرصة "استفادة شخصية" لأخنوش    عبد الكريم جويطي يكتب: أحمد اليبوري.. آخر العظماء الذين أنجزوا ما كان عليهم أن ينجزوه بحس أخلاقي رفيع    باحثون: الحليب بدون دسم أفضل لمرضى الصداع النصفي    فان دايك: جماهير ليفربول ستتذكر أرنولد في حال قرر الرحيل    الصين وأندونيسيا يعقدان حوارهما المشترك الأول حول الدفاع والخارجية    معهد الدراسات الإستراتيجية يغوص في العلاقات المتينة بين المغرب والإمارات    مندوبية الصحة بتنغير تطمئن المواطنين بخصوص انتشار داء السل    المغرب يخلد الأسبوع العالمي للتلقيح    نحو سدس الأراضي الزراعية في العالم ملوثة بمعادن سامة (دراسة)    دراسة: تقنيات الاسترخاء تسمح بخفض ضغط الدم المرتفع    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أغبالو" .. الينابيع التي خذلت الحواس والذاكرة
نشر في هسبريس يوم 04 - 06 - 2019

بعد تسجيل سيل هائل من الأعطاب البنيوية التي تعتري مسلسل أغبالو، الذي قدم على القناة المغربية تمازيغت خلال شهر رمضان 1440، وهي أعطاب رصدها المشاهد غير المتخصص أيضا، وتتضافر لتجعل من المسلسل نتاجا ضعيفا، وتبوئه مكانة المرجع الذي يجب أن يدرس في معاهد التكوين في السينما والتلفزيون، بما هو دليل متكامل لما يجب تعلم تجنبه، سواء في السيناريو، الروبيراج، الكاستينغ، إدارة الممثل، الموسيقى التصويرية، التصوير، الديكور، الإخراج والمونتاج.
إذا كان الأمر كذلك فمن غير المجدي الوقوف عند كل هذه التفاصيل في مقال حدد لنفسه غاية الانخراط في المواكبة النقدية التقويمية للإنتاجات الدرامية، في أفق الإسهام في إنجاز شروط أفضل للتجويد، والدفع بالدراما الأمازيغية قدما لتجاوز عثرات بداية استمرت طويلا. ولذلك فإنني سأكتفي بما اعتبرته، من خلال التشخيص، المشكل الجوهري الأول أو الخطيئة الأولى التي تولدت عنها باقي الخطايا، ما دامت النتائج وليدة المقدمات وامتدادا لها، وما دام العمل في النهاية تنمية لنواة السيناريو.
وقبل الشروع في بسط هذه الملاحظات النقدية، ومن أجل تمكين الذين لم يشاهدوا المسلسل من متابعتها، ارتأيت تقديم ملخص له لبناء معرفة مشتركة قادرة على بسط المعطيات النقدية وتحقيق رهاناتها. ومدار المسلسل كالآتي:
في قرية نائية بعمق سوس يقطنها أقل من عشرين شخصا، تسود حالة ترقب وانتظار لوصول بعض أبناء القرية قصد إحياء رأس السنة الأمازيغية. نتعرف من بين المنتظرين على البطل بلعيد، يجلس إلى جانب امرأة تصغره سنا، نفاجأ من خلال الحوار أنها أمه.. يزداد القلق بتقدم الوقت، وتكشف المعلومات المتواترة عن تعذر الوصول وإمكان إصابتهم بمكروه. يصل القادمون ونخبر بأن المانع هو تشديد الطوق على الطرقات من قبل المستعمر بعد قتل المجاهدين لجنديين استعماريين (هذه هي المعلومة الوحيدة عن الاستعمار طيلة المسلسل)، تنخرط الأهالي في الاحتفال الذي استمر طويلا بترديد الأدعية وقراءة القرآن بالطريقة السوسية، في فصل تام بين الرجال والنساء. تنصرف القرية إلى رتابتها وينصرف بلعيد وبعض رفاقه إلى تأليف أغنية، ويقتحم المشهد وصول مبعوث عن الباشا بحثا عن بلعيد. في قصر الباشا أدت فرقة بلعيد سهرة غنائية راقت الباشا وحاشيته، وعلى هامشها قدم له صحافيا فرنسيا يسعى إلى إعداد عمل عنه. بدأ بلعيد يحكي مستعيدا ما قبل ولادته التي استمر مخاضها طويلا!، تعرفنا في تلك المرحلة بالذات على أبيه الذي كان راعي أغنام القرية، ولمدة طويلة ظل رعيه النشاط الوحيد المتكرر، وفي المقابل ينتظره في المساء رجال من القرية قصد تسلم مواشيهم بأزياء أنيقة وكأنهم في احتفال دائم بالعيد، يتبادلون حوارات نفهم منها ألا شغل لهم ولا هموم غير انتظار هذه المواشي القليلة جدا مقارنة مع عددهم. في غضون ذلك ينهي أخ بلعيد حفظ القرآن، يتوج بطقوس احتفالية طويلة لم تنهها غير آلام مخاض أمه الطويل أيضا، إلى درجة أن القرية توقفت تعد أنفاسها في انتظار ولادة بلعيد.
وتمر الحلقات، يكبر بلعيد ويلج كتاب المسيد، وبعد مدة قصيرة من دراسته يغدو يتيم الأب، ما اضطره إلى الرعي لإعالة أسرته؛ يتعلم العزف على الناي في المراعي، في وقت انشغلت القرية بالزيجات وبتجاذب أطراف الحديث عن أخبار النساء وتبادل الزيارات... وبين الحين والحين يتذكر أحدهم أن بلعيد ضاع مستقبله، والحدث الوحيد الذي سيكسر هذه الرتابة هو حضور فرقة لأولاد سيدي أحمد أموسى، ثم اصطحابه لبراعته في العزف.. يقضي معهم فترة، يشب، يتجول في القرى والمداشر المجاورة. لا تتقدم الأحداث، لا شيء يحصل بين حلقة وأخرى. ولتأمين الفترة الزمنية لكل حلقة تظهر قصص جانبية لا رابط ولا صلة بينها وبين المسار الحياتي للشخصية. وأحيانا نعيش مع شخصيات أخرى أكثر من بلعيد، كصديقه مبارك وقصة حبه..نتابع تقلبات مزاج زوجة أخيه طيلة هذه السنين، ويحاول جارهم (أب صديقه مبارك) ملء الفراغ ببعض القفشات أحيانا وببعض المقالب أحيانا؛ أما عمه وزوجته فيواسيان الجميع بطيبوبتهما ويحثانهم على الصبر، درءا للضجر، لا يحدث في حياتهم شيء غير تقدم العم في العمر، أما زوجته فظلت على حالها بمنأى عن أثر الزمن على الإنسان، وبمنأى عن تأثيره على الجسد وصورته !!.
1 – سيناريو مفكك أتعب الجميع
من نافل القول إن غياب نص مبني بشكل جيد وفق مقومات الكتابة الدرامية يؤثر بشكل جلي على العمل مهما كانت القدرات الإبداعية لباقي طاقم الفريق؛ فلا أحد مثلا ينكر المجهود السيزيفي للممثلة الزهرة المهبول، في دور أم الرايس بلعيد، وهي تصرخ لمدة ست دقائق متواصلة من آلام المخاض، مجهود ذهب سدى وبلا أثر في بناء القصة؛ فلا شيء حدث بعد كل ذلك، فالوليد لم يمت أو يشوه، ولم يحدث أي مكروه للأم وغيرها من الاحتمالات التي كان يفترضها وبشكل ضمني تقديم مشهد المخاض على تلك الشاكلة.. إنها معلومة معروفة سلفا، سواء من التاريخ أو من المسلسل نفسه، أما إذا استحضرنا المرحلة التاريخية والجغرافية (سوس في نهاية القرن التاسع عشر) فستبقى معلومة في غاية العبث، لأن النساء الحوامل يتوجهن إلى الحقول صباحا ويحملن وليدهن مع المحصول في المساء !!.
كما نتعاطف مع باقي الممثلين وهم يحاولون جهدهم عبثا في تقمص شخصيات هلامية، شخصيات من ورق تعبث بها الرياح يمينا وشمالا، أجساد بلا روح، تعلن بعبارتها السحرية "تغزانت" انتقالها من النقيض إلى النقيض في المشهد نفسه.
"تغزانت" أي: أنت صائب فيما قلته، تتكرر تقريبا في كل مشهد، وهنا ينتفي أساس الدراما وجوهره الذي هو الصراع.
إن بناء الشخصية وفق تفاعلها مع الأحداث يجب أن يتم بمنطق شبيه بمنطق الحياة نفسه، يحترم تفرد الشخصية وحيازة هويتها الخاصة كأساس لبناء مواقفها، هذا البناء سابق على تقمص الممثل لها وتقمص الدور بشكل يقنعه أولا كأساس لإقناع المتفرج. لا بأس أن نستحضر في هذا المقام الممثل عبد الله التاجر في دور مبارك البالغ، المنفصل كليا عن مبارك الطفل الذي عاش طفولة الاضطهاد من قبل والده.. فظهر مبارك البالغ يتحدى أباه وكأنه شخصية أخرى نزلت من السماء.
حوار الباشا المغرق في السكولائية حول منافع الماء وضرورة تعاون الإخوة في ما بينهم في حب ووئام جعل جبروت الباشا يتوارى خلف شخصية أقرب إلى مجذوب يتدخل لصلح ذات البين. أما القصر ومقيموه فلا يضيف للمشهد إلا مزيدا من تشويش المتفرج الذي يتطلب منه الأمر كله إعادة صياغته من أجل فهم سليم حتى يسلم من الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بوجود انتحال صفة الباشا، وينتظر ظهور الباشا الحقيقي؛ ذلك أن المشهد لا يقدم أكثر من تلك الصورة: صورة الباشا التي تقدم مفارقة لما سجلته الذاكرة التاريخية عن الباشوات.
الحوار ليس مجرد مصفوفة من الكلمات يستعملها هذا القائل أو ذاك، بل، بما هو لغة، تعبير عن الكائن ومأواه، وإذا لم يكن منسجما مع الحدث وجرى تلقائيا على لسان الشخصية، وكان على العكس من ذلك مصطنعا، سيجعل ممثلا كبيرا كعبد اللطيف عاطيف (في دور أب الرايس بلعيد) ينخرط في لعبة بروتوكولية وصورية مع إحدى الجارات حول اعتذار أحدهما من الآخر ومن منهما سيسمح للآخر على الإزعاج، لحظة صراخ وأنين وآهات زوجته من المخاض وطلبها نجدة جارتها. وهكذا نضطر للرهان بمصير المرأة لحظة الوضع من أجل استقامة الألفاظ المنتقاة، والتضحية بالمعنى والدلالة من أجل دوال فارغة؛ وهذا أمر يعكس تصورا شكلانيا للعالم. على أن القصدية الموجهة لذلك أبعد من هذا الرهان، رهان تقديم تصور شكلاني عن العالم، والذي يتطلب بالضرورة مكابدات جمالية ومخيلة وقادة.
إنه الحوار نفسه الذي يجعل من عطيف، الذي تقمص دور الراعي، رجلا حكيما منفصلا عن معاشه، يتحدث وكأنه في ندوة فكرية، يتكلف لانتقاء المفردات التي تمكنه من التعبير عن حزنه على زوجته الحامل وقلقه على وضعها، وهو غائب في رحلة رعي فأنتج بدل الحديث بشكل عفوي، خطابا حجاجيا أصيلا ومتماسكا عن ثنائية الروح والجسد.
يؤدي الحوار في المسلسل وظيفة أخرى غير وظيفته الاعتيادية في نقل المعلومة بين الشخصيات، فإذا كانت الشخصيات ملزمة بأن تتحدث إلى بعضها البعض فإنها في كثير من المقامات باتت توجه خطابها بشكل مباشر إلى مشاهد مفترض.. الانزياح إلى وظيفة مغايرة ينفي عنه كونه اختيارا دلاليا وجماليا. انزياح عن الوظيفة العادية للحوار ربما أراد من خلاله السيناريست أن تكون وظيفة تكاد تكون تعليمية وتلقينية للمتفرج؛ ولذلك لا يخلو أي مشهد من المشاهد من الشرح والتفسير. وقد أثر هذا النوع من الحوار على تموضع الممثلين، حيث يقفون أو يجلسون جنبا إلى جنب في مواجهة الكاميرا وليس في مواجهة بعضهم بعضا، فيفرطون في الشرح، ودون رفع التكلفة بينهم، ويلقون عبارات لا يقولها أشخاص لأشخاص يعرفون بعضهم. فنجد أن الأم تتحدث عن ابنها لابنها الآخر باسمه مرفوقا بصفته، والزوجة تحدث زوجها عن أخيها بالذات والصفات.
ارتهان السيناريست والمخرج إلى الهدف التعليمي يتضح أيضا في الشرح المستفيض لإحدى الأمهات بخصوص طريقة الاحتفال برأس السنة الأمازيغية وتناول وجبة العصيدة وكيفية الفوز بعظم الثمر ودلالات هذا الفوز... تشرح الأمر لأطفال يفترض أنهم يحتفلون بهذه العادة سنويا مستدمجين إياها في ممارساتهم الثقافية بشكل تلقائي، لكن طريقة الشرح توحي وكأن المعني به ليس أطفال القبيلة التي تشربوا قيمها، بل بعثة سياح هالتهم غرابة الاحتفالية وبدت لهم عجائبية منزاحة أيما انزياح عن المألوف. الأمر نفسه ينطبق على نقل تفاصيل الصلاة والدعاء، وقراءة القرآن وتكرار تلك الشعائر الدينية في مناسبات أخرى، وهذا بالطبع ما لا يقبله المتفرج لأن فيه إيحاء صريحا بقصور قدراته الإدراكية.
من بين أعطاب الكتابة أيضا في المسلسل تقديم المعلومة نفسها بأكثر من طريقة في أكثر من مشهد، بل أحيانا تتم إعادة عرض المشاهد كاملة باستعمال بدائي لتقنية الفلاش باك، ما يؤثر بشكل واضح على إيقاع تقدم الأحداث ويطبع المسلسل بالرتابة.
ضعف النص أدى بمجموعة من الممثلين الى الاجتهاد واعتماد رصيدهم الشخصي لترميم الثغرات وإنقاذ الموقف، ما يطبع محاولاتهم بالنشاز، فقفشات أحمد نتاما (في دور الفقيه) ومحمد واعراب، تدخل في هذا السياق، إذ شكل حضورهما في المسلسل امتدادا لأعمالهما الفكاهية السابقة.
2- في الإمكان أفضل مما كان
قبل الحديث عن إمكانات تحقيق هذا المشروع بشكل أفضل، لا بد من التنويه ببعض عناصر القوة المتحققة فيه فعليا من باب: "لا تبخسوا الناس أشياءهم"، وهي عناصر قد توجد أخرى غيرها على كل حال، نجملها بداية في الاشتغال على سيرة فنان مرموق أسس مدرسة فنية قائمة الذات كنوع من الاحتفاء بهذا الهرم ومن خلاله بذاكرتنا الوطنية المشتركة.
كما أن أغنية شارة البداية كانت موفقة بشكل كبير، سواء ما تعلق بمستوى الكلمات التي وضعا الرايس أعراب أتيكي، وبنفس شعري يضاهي أشعار الرايس الحاج بلعيد، وبنفس أسلوبه في رمزية الكلمات والتغني بالطبيعة وجمالها، أو في مستوى الأداء الجميل للرايس حسن أرسموك، وبألحان الرايس الحاج بلعيد نفسه. هذه اللوحة متناسقة الألوان، إضافة إلى الدلالة المزدوجة للعنوان: "أغبالو"، من شأنها خلق الشروط القبلية واستثارة بنيات الاستقبال الذهنية والعاطفية لتلق أفضل للمسلسل من قبل المتلقي.
" السيناريو وصف تفصيلي لأحداث واقعية أو خيالية وقعت لشخصيات في زمان ومكان معين، أحداث تتطور نحو ذروة وتعقيد فحل"
يتضمن هذا التعريف المقومات الأساسية للسيناريو، فلنحاول تطبيقه على حالة اشتغالنا في شكل خطوط عريضة دون تفاصيل...
1- الشخصية:
يتعلق الأمر بالرايس الحاج بلعيد. ليس كل شخص شخصية يمكن الكتابة عنها، فما الذي يميز الحاج بلعيد؟ إنها تجربته الشعرية والغنائية المتفردة، وقدراته الإبداعية في إطار تشكلها ونموها تفاعلا مع مختلف الأحداث الجارية، وليس ولادته أو رعيه للغنم أو وفاة أبيه، فكل الناس يولدون، وأغلب من في وضعه يرعى الأغنام، والكثيرون فقدوا آباءهم؛ فلنركز على تفرده كعنصر حاسم في إدهاش المتلقي وضمان أصالة الشخصية، مستندين إلى الوضع الاعتباري للرايس في المجتمع السوسي في تلك الفترة، فهو صنو الفقيه في السلطة الرمزية ولا تراتبية بينهما.
2 - الأحداث:
لا نتحدث عن الأحداث العادية التي تقع للجميع، بل ننتقي منها ما يسهم في تقدم مسار الشخصية وإنضاج تجربتها، تلك الأكثر تأثيرا، تلك التي لا تقع لغيره، وهي الأحداث الواقعية- باعتباره شخصية تاريخية- كإجادة العزف على الناي وتجواله الموسيقي بين القبائل، لقائه بمجموعة من الروايس والرمان سيدي أحماد اموسى، احتضانه من قبل القواد والباشوات والأعيان، رحلته إلى القاهرة، الشام، الحجاز...أو أحداث خيالية- بحكم أن العمل تخييلي وليس تسجيلي- مثل الصداقات- العداوات، مؤامرات ودسائس، قصص حب، تهديد وأسر...سواء في الأوساط الفنية أو في القصور والرياضات أو الطرقات والقفار، على أرضية العلاقة الجدلية بين ذات الشخصية والعالم من حولها، العنصر الذاتي بما هو حافز لتقدم الأحداث، وإمكان تجاوز الوضعيات. وعنصر العالم كمجال للفعل والمقاومة يتيح وجود قوى مساعدة للذات وأخرى مناهضة أساسية لتأجيج الصراع كوقود لتقدم الأحداث (الشرعية/ اللاشرعية الدينية للغناء، الموالاة/ العداء للقواد والباشوات- المخزن- الاستعمار، عشق الفن والغناء، الطموح الذاتي، الموقف من مظاهر التحديث، الاصطفاف/ الحياد تجاه الحروب القبلية...).
3- الزمان
1873-1945 المرحلة القيدية، المرحلة الاستعمارية، الحرب العالمية الثانية مرحلة الأزمات، المطالبة بالاستقلال، مرحلة الباشا الكلاوي، مرحلة القايد عياد الجراري، توقيع معاهدة الحماية، حملة أحمد الهيبة خلال إقدامها الظافر وإدبارها المنكسر والعودة إلى تيزنيت، فترة تحصن مربيه ربه والشيخ النعمة بوجان على بعد كيلومترات من دوار الحاج بلعيد ومحاصرته من قبل قوات القايد حيدا ميس، مرحلة هزيمة حيدا ميس ومقتله.
4- المكان
أنو نعدو، وجان، تيزنيت، تازروالت، أيت جرار، تارودانت، مراكش، القاهرة، الشام، الحجاز...
انطلاقا من هذه العناصر يمكن بناء سيناريو جميل عن سيرة الحاج بلعيد، بخلفية تاريخية واضحة المعالم، فالرايس عاصر وشاهد أهم أحداث هذه الفترة، نختار منها الأهم أو ما نود التركيز عليه وفق رؤية معينة حسبالإمكانات الآتية:
مجاهدا ضد الاستعمار بالكلمة واللحن، ولن نعدم من سيرته أغاني وأحداثا نستثمرها وفق هذه الرؤية.
شاعرا فوق الطبقات والصراعات محبا للسلم ساخرا من الحروب والاصطفافات يأخذ المسافة النقدية نفسها من الجميع ويحظى بالحب والتوقير من الجميع وسنستثمر الأحداث والقطع الموسيقية المناسبة.
رجلا واقعيا يدافع عن مصالحه، وعلاقاته مع كبار الأعيان، ويقدم في الوقت نفسه خدمات جليلة لأبناء بلدته مسخرا هذه العلاقات.
مناضلا حداثيا يقف في وجه القوى المحافظة الداعية لتحريم الرقص والغناء، سخر حياته الطويلة دفاعا عن هذه الدعوى.
وطنيا- بالمفهوم التقليدي للوطنية- مدافعا عن المخزن ومقدساته، مناضلا ضد المتمردين غير الموالين للمخزن المركزي ولالتزاماته مع سلطة الحماية.
شاعرا محبا ولهانا بحب حبيبة حالت بينهما مسافات حاول عبورها، مستندين إلى قصائده الكثيرة في الغزل.
وقد تكون هناك إمكانات أخرى جديدة أو تستثمر السابقة في دمج أصيل لبناء شخصية حقيقية، ليس بالمعنى التاريخي بالضرورة، ففعل التخييل ضروري في العمل الدرامي، بل شخصية نابضة بالحياة. والضامن الأساسي لهذه الحيوية حضور المقومات الذاتية للشاعر وموقفه من الأحداث الجارية وقدرته على التعبير عنها شعريا أو من خلال الوضعيات الحياتية المختلفة.
لا أدعي بالطبع سهولة كتابة هذا العمل، فالبحث التاريخي والفني الموسيقى يقتضي الثلاث سنوات التي تحدث عنها الأستاذ أحمد عصيد، ولكن أقصد أن منهجية الاشتغال يجب أن تسترشد بهذه الأفكار والملاحظات سعيا إلى الأفضل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.