أهم ما أنجزه الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) أنه جعل للمدرسة المغربية هوية ووضع أسس بناء وإرساء وتصريف هذه الهوية؛ فكان هذا الميثاق، الجواب الممكن، القابل للتطور، في سياق تاريخي وطني مفعم بالحياة، أنعشته مستجدات المطلب الدستوري والسياسي والاجتماعي لمرحلة تسعينات القرن الماضي. وأن أهم ما قدمته رؤية المجلس الأعلى للتربية والتكوين الاستراتيجية 2015-2030، لإصلاح المدرسة المغربية، هو تحيين الجواب عن سؤال الإصلاح الممكن، فسعت إلى ربط هوية المدرسة المغربية بهوية المشروع المجتمعي واختياراته الاستراتيجية ومقومات النموذج التنموي البديل عبر رافعات النموذج البيداغوجي الممكن، القائم على ستة مداخل وهي: المدخل المدني والمدخل اللغوي والمدخل العلمي والمدخل المهني والمدخل الجمالي ومدخل الحكامة؛ فكانت هذه الرؤية بمثابة الفرصة الأخيرة لتفادي جلطة دماغ المدرسة، وإنعاش قدراتها على القيام بمهامها الدستورية المتمثلة في العصرنة والجودة وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والإنصاف والارتقاء بالفرد والمجتمع. لكن، إذا استحضرنا السياق الحالي وما يجري في خضمه من تصريفات، نجد أنفسنا، من جديد، أمام سؤال العلاقة بين الرؤية وتجلياتها في الواقع. أمام سؤال العلاقة بين الاختيارات الاستراتيجية الموجِّهة وبين آليات تفعيلها وأجرأتها. أمام سؤال العلاقة بين المخرجات الموصوفة للمنظومة وبين السيرورات المعتمدة. لذا فإن أهم ما نخشاه هو أن تفقد المدرسة المغربية هويتها وفرصتها الأخيرة وتعود إلى سابق عهدها، إلى مرحلة ما قبل الميثاق، إلى مجرد حلبة صراع سياسوي تراجيدي بين تيار المدرسة من أجل مجتمع الحداثة والعدالة الاجتماعية والتنمية الفردية والمجتمعية وتيار المدرسة من أجل إعادة إنتاج مقومات التخلف والهشاشة، فنسير على عكس ما نتطلع إليه، نحو مرحلة ما قبل المدرسة الحديثة، في الوقت الذي يسير فيه العالم في اتجاه مرحلة ما بعد المدرسة. من بين أهم الأسباب التي دفعتنا إلى التعبير عن هذه الخشية نذكر ما يلي: - طبيعة النقاش الدائر حول القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، في غياب حوار وطني علمي حقيقي حول مقتضياته الأكثر إثارة للجدل من طرف الفاعلين السياسيين؛ - طبيعة المقاربة المنهاجية التقليدية المعتمدة وما تفرزه من تناقضات على مختلف مستويات تصريفها بدءا بإنتاج وثائق المناهج الدراسية إلى غاية التخطيط اليومي للممارسات والأنشطة المدرسية؛ - طبيعة الهندسة التكوينية وهيئات التكوين ومخرجات المراكز الجهوية للتربية والتكوين وعلاقتها بمتطلبات تجديد المدرسة المغربية؛ - ضعف النخب الجهوية والغياب شبه تام للإرادة من أجل العمل على إرساء آليات لبلورتها وإفراز القيادات وترصيد الخبرات وتشجيع الطاقات؛ - طبيعة ما تفرزه آليات انتقاء النخب المسؤولة عن تدبير منظومة التربية والتكوين على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والجهوية والمركزية؛ - هشاشة المستويات التدبيرية (المديريات المركزية – الأكاديميات الجهوية -المديريات الإقليمية) وتأثرها بما يعرفه براديجم السلطة من تحولات عميقة، وكذا ضعف القدرة على التعاطي مع مقومات الإصلاح بالاستيعاب السليم وبالفعالية التدبيرية وبالنجاعة المطلوبة نتيجة غياب محفزات حقيقية ومناخ ملائم للتجديد وحروب المواقع؛ - التعثر في مأسسة مقومات الحكامة التربوية والتدبيرية على مختلف المستويات كمدخل لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وأخيرا، وجب القول، كفاعلين ومتتبعين، بأن مستقبل المدرسة المغربية لا يُبنى بالهروب إلى الأمام وبالعبارات والجمل الفضفاضة والشعارات البراقة وبالمقاربات الأمنية التقليدية وعبر عدسات كاميرات الهواتف الذكية فائقة القدرة وعبر تسويق الذات بالجمل الإخبارية عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وإنما مستقبل المدرسة المغربية يُبنى بالإرساء الحقيقي لمقومات التجديد وعلى رأسها المنهاج التربوي وآليات تصريفه وتحسين بيئة التعلم وشروط العمل في حدها الأدنى؛ وبمناهضة كل أشكال التيئيس والريع الإداري واستغلال المواقع والاستثمار السياسوي للمدرسة لتحقيق مكاسب ذاتية أو حزبية ؛ وبتغليب مصلحة المجتمع الفضلى ومصلحة المنظومة بدل البحث عن توازنات هشة في جوهرها وعن أعداء وهميين؛ وبإرساء مقاربة أمنية استراتيجية تقوم على حماية المدرسة وتحصين هويتها كمرفق عمومي مهمته تصريف الاختيارات الوطنية الاستراتيجية في قطاع التربوية والتكوين.