لم تستأثر شخصية هندية باهتمام شعبي عارم منذ استقلال الهند كالذي حظيت به هذه السنة شخصية آنا هازاري ، الناشط الاجتماعي الذي قاد أضخم احتجاجات شعبية في تاريخ الهند المستقلة سعيا لسن تشريع صارم مناهض للفساد المستشري في بلاده. ويبدو أن صورة المهاتما غاندي لازالت عالقة في أذهان المجتمع الهندي بعد أن انتفضت شرائح عريضة لمناصرة أحد أفرادها الذي أعلن إضرابا عن الطعام لتذمره العلني مما اعتبره تفشيا للفساد المالي في أجهزة الدولة. فحملة هذا العجوز الذي تجاوز السبعين ربيعا، كادت أن تهدد تماسك الحكومة الهندية التي كانت تتوقع أنها ستكون، في ظل غياب معارضة وازنة من الأحزاب السياسية، قادرة على تكريس مكانتها والتطلع بثقة كبيرة نحو ولاية ثالثة في عام 2014 . انطلق نضال هازاري ضد الفساد في غشت الماضي عندما قرر الدخول في إضراب عن الطعام لحمل حكومة مانموهان سينغ، على سن قانون يمنع الفساد ويحاسب مرتكبيه، ويستجيب لنبض الشارع الهندي، الذي تصاعدت وتيرة احتجاجاته ضد استفحال هذه الظاهرة في البلاد. وركزت حملته على إحداث منصب وسيط للجمهورية، مهمته مراقبة كبار الساسة والقضاة والموظفين العموميين وإعادة صياغة الدستور باعتماد قانون صارم لايستثني رئيس الوزراء وكبار المسؤولين من الملاحقة القضائية بشبهة الفساد. وأذعنت الحكومة الهندية لمطالب هازاري الذي لاقت حملته صدى كبيرا لدى الملايين من الهنود، وخاصة بين أبناء الطبقة الوسطى وسكان الارياف الذين سئموا من سلسلة فضائح الفساد التي تورط فيها ساسة ورجال أعمال في ثالث أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية. وسرعان ما تحول هذا الناشط الاجتماعي، الذي كان مجرد مصدر إزعاج للسلطات الهندية، إلى رمز وطني قض مضجع الإئتلاف الحاكم، لأنه قاد أكبر احتجاجات في شبه القارة منذ عقود، واستطاع تأجيج الشارع الهندي الممتعض من ثقافة الرشوة المستشرية على نطاق واسع. والواقع أن الحكومة الهندية كانت، منذ فوزها في الانتخابات العامة بولاية ثانية متتالية، تتخبط في مستنقع آسن من الفضائح، أحرجت حزب "المؤتمر" الحاكم، وتسببت في تعطل جلسات البرلمان، وأطاحت بمسؤولين بارزين في التحالف الحاكم، ووصل الأمر إلى حد استدعاء المحكمة العليا لرئيس الوزراء للمساءلة. وأدى إضراب هازاري العلني لنحو أسبوعين إلى إحداث ضجة عارمة في الأوساط السياسية وبين عامة الشعب، بل إن مشاهد وصور إضرابه أضحت مادة يومية دسمة لوسائل الاعلام الهندية المكتوبة والمرئية التي خصصت نشرات على مدار الساعة لرصد التطورات الخاصة بهذا الموضوع . وكان الحدث أشبه بمشهد درامي وطني تجسدت وقائعه على شاشة التلفزيون، والذي بدأ باعتقال آنا هازاري، وتصاعدت وتيرته باحتفالات الحشود من مناصريه في أعقاب إذعان الحكومة لمطلبه بعد 13 يوما من إضرابه عن الطعام. وساهمت هذه الحركة الاحتجاجية في ارتفاع نسب تتبع القنوات الإخبارية المحلية لمدة أسبوعين حيث هيمنت أخبار هازاري على نحو 5ر88 في المئة من محتوى فترات ذروة المشاهدة على المحطات الاخبارية، وفق بيانات قسم مراقبة الأخبار التلفزيونية "سي إم ميديا لاب" ، التابع للمركز الهندي للدراسات الاعلامية. وهكذا بات الناشط الاجتماعي الهندي ظاهرة إعلامية في بلاده حيث حظي إضرابه العلني الأول عن الطعام الذي خاضه في أبريل الماضي ب655 ساعة من التغطية الاعلامية ، فيما أدرت الشبكات التلفزيونية عائدات إعلانية بلغت 38 مليون دولار ، حسب مؤسسة "إيجا نيوز سرفيس" المهتمة بمراقبة وتحليل البث التلفزي. غير أن إصرار هازاري على أن تطرح الحكومة الهندية مشروع قانون مكافحة الفساد وتعتمده في الدورة البرلمانية الشتوية الحالية أثار انتقادات جمعيات حقوقية التي ترى أنه وفريقه يسعيان لفرض إملاءات وسياسات على البرلمان المنتخب، ويقوض، بالتالي، استقرار المؤسسات والقيم الديمقراطية في البلاد. لقد اكتسحت موجة فضائح الفساد قطاعات واسعة من الاقتصاد الهندي، وأصابت بشظاياها شخصيات سياسية واقتصادية بارزة، من بينها رئيس الوزراء مانموهان سينغ، الذي يوصف في الهند عادة ب"الرجل النظيف". وسعيا إلى إنقاذ سمعته والحفاظ على سجله السياسي نظيفا، تعهد سينغ ب"تطهير" الحقل السياسي في الهند من بؤر الفساد، مؤكدا أن "تطوير آليات لمحاربة الفساد أضحى ضرورة ملحة وفي صلب أولويات حكومته". ويأمل الهنود في أن تساهم هذه الاليات على الخصوص في اقتفاء أثر الودائع السرية للرعايا الهنود في المصارف الأجنبية، والتي قدرها "بنك سويسرا " ب 1500 مليار دولار مكدسة في مصارف سويسرية. وقال خبير اقتصادي هندي إن هذه الودائع التي تمثل 40 في المائة من الناتج القومي الاجمالي للبلاد، ستمكن الهند من أن تصبح خامس أكبر اقتصاد على الصعيد العالمي، وهي التي يعيش فيها نحو 450 مليون نسمة تحت عتبة الفقر. يتطلع الهنود إلى أن تكون نهاية عام 2011 بداية للتغيير المنشود والتطهير وإعادة البناء، لكن بالنظر إلى بطء الحكومة في سن قانون صارم لمكافحة الفساد، فإنها قد تكون أيضا سنة الفرص الضائعة.