التسلي بالألغاز ونظم الشعر وسماع الحكايات الغريبة والنادرة من الرواة من العادات الأصيلة لأهل الصحراء خلال رمضان. اليوم بات الاستغراق في شاشات الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي ينأى بجيل ناشئ عن هذا التراث، مهددا تلك "العادات والطقوس الابتكارية التي تخلق الفرجة وتمتحن الذكاء"، كما يرى الباحث في التراث الأدبي والجمالي الصحراوي إبراهيم الحيسن. الأستاذ الحيسن، الخبير بأسرار هذا التراث، قارب في تصريح صحافي ملامح تقلب هذه العادات بين جيلين، واحد كانت جلسات المسامرة وسيلته "للتواصل الاجتماعي"، وجيل تمنحه التكنولوجيات اليوم بدائل "مخيفة". تلك الجلسات والمسامرات في ليالي رمضان، يقول الأستاذ الحيسن، "ظلت تعج بالقصص والإبداعات الشعرية وأشكال التسلي بالألغاز أو ما يعرف ب"اتحاجي" والحكايات الطريفة، فضلا عن تبادل الآراء ومناقشة المواضيع والقضايا ذات العلاقة بالحياة اليومية في بادية الصحراء". غير أن الكثير من هذه الطقوس والممارسات الثقافية المألوفة خلال هذا الشهر "أضحت لدى المجتمع الحساني في الصحراء عرضة للنسيان والاندثار، لاسيما لدى فئة الشباب، إناثا وذكورا"، يضيف الباحث؛ فقد "تقلص مثلا التعاطي لممارسة ألعاب شعبية متجذرة في الذاكرة الثقافية المحلية، بعد أن شكلت لردح من الزمن ممارسات ابتكارية واختبارية تتجه نحو خلق أجواء المتعة والبهجة والترفيه وقضاء أوقات الفراغ واستغلالها بالشكل الأمثل". من ضمن هذه الألعاب التقليدية في الصحراء لعبة "السيك"، التي يشترك في ممارستها النساء والرجال على حد سواء، إلى جانب لعبة "كرور" الخاصة بالنساء، و"ظامة" و"ضومينو" و"مرياس" التي يزاولها الرجال. السيك، مثلا، لعبة جماعية يمارسها الصحراويون على نطاق شعبي واسع بعد الإفطار؛ تلعب باستعمال ثمانية أعواد خشبية (Batonnets) يتم تحريكها في ميدان خاص يرسم على الأرض وحسب مقتضيات خاصة. لم تختف هذه العادات لكنها مهددة بالخفوت أو حتى الاندثار، بعدما حلت محلها، وفقا للباحث التراثي، "برامج الإنترنت والألعاب الإلكترونية الجاهزة التي يساهم الكثير منها في فرض واقع مغاير موسوم بالنزعة الفردية والانزواء والانعزال على حساب الحس التشاركي وصلة الرحم التي تقتضيها طقوس شهر رمضان". يضرب الأستاذ الحيسن هنا مثل "التهاني والتبريكات الخاصة بشهر رمضان، التي باتت تتم عبر الرسائل القصيرة وعبر إرسال صور وفيديوهات مركبة عبر خدمة الواتساب وغيرها". "فقد صار أغلب الناس"، يواصل الحيسن، "يوظفون التكنولوجيات الجديدة بشكل مغاير، ضد ذواتنا، ضد حاضرنا ومستقبلنا، وبشكل يفتت العلاقات الاجتماعية ويمزق الحميمية داخل الأسر والبيوت، مخلفا واقعا اجتماعيا مأزوما ومضحكا يكشف هشاشة المقاومة الثقافية أو بالأحرى انعدامها لدى الكثيرين منا". ويعزو الحيسن هذا الوضع- والذي يتعدى الفئات الشابة بالمجتمع الحساني إلى مثيلاتها بباقي أرجاء المملكة - إلى "ذلك الانخراط التلقائي والمكثف في عوالم الإنترنت وبرامجه المتنوعة دون اختيارات واعية ولا قدرة على تحصين الذات الفردية والجماعية ضد كل استلاب محتمل". هذه الوقائع المستقاة من صميم الملاحظة والاهتمام العلمي والبحثي بتطور هذا الموروث في الصحراء لدى الأستاذ الحيسن لا تعني أن المعركة حسمت، وأن الخفوت المسجل في إحياء طقوس أصيلة غير قابل للاستدراك. لاستدراك ذلك بما يعنيه من استعادة الفئات الشابة من استغراقها في منصات التواصل، يدعو الحيسن إلى إقامة لقاءات وأنشطة ثقافية داخل الوسط التعليمي، عبر النوادي التربوية، وجعلها حوامل تربوية محفزة على فعل التعلم ومساعدة على التحصيل الدراسي. كما يقترح الباحث خلق المزيد من المساحات الكافية ضمن خريطة برامج الإعلام الجهوي في الصحراء (مكتوب، مرئي ومسموع) لموضوع الممارسات الثقافية الرمضانية، وإنجاز برامج وحوارات مصورة مع الرواة والإخباريين خاصة بالعادات والتقاليد الصحراوية المتداولة خلال شهر رمضان. إحياء هذه العادات يمر أيضا، وفقا للباحث في التراث الجمالي الصحراوي، بدعم الجمعيات والهيئات الأهلية المهتمة بالتراث ومدها بالموارد المالية واللوجيستية لترجمة برامجها، وتنفيذ أنشطتها الثقافية الرامية إلى استعادة الأنماط الثقافية الرمضانية المندثرة وإحيائها ضمن برامج تراثية هادفة. *و.م.ع