السياق والآفاق رغم أن التيار التحرري الذي يجتاح العالم العربي واحدٌ فقد اختلفت مساراته قوةً وضَعفاً سلاسة وارتجاجا باختلاف البيئات التي يجتاحها وينتشر فوقها كأي سيل عارم يكنُس كل ما يجده في طريقه، لا يرده شيءٌ عن الوصول إلى مصبه وتحقيق مداه. فأين تتجلى وحدة الحِراك عامة وما هي خصوصيات المسار المغربي وآفاقه؟ من الأكيد أن قراءتنا لما يحدث مهما كانت علميةً فإنها تحمل طابع اختيارنا الفكري، وطموحاتنا المستقبلية. المهم في هذا المجال أن يسير الاختيارُ العالمُ أو المثقف في الاتجاه التاريخي العام لتحرر الإنسان وتحضر البشرية، وان يراعي المعطيات الواقعية...الخ. وعلى هذا الأساس ذكرْتُ في مقال سابق أن ما يقع الآن في العالم العربي يتعلق بلحظة تاريخية ثالثة عابرة لحدود الأقطار، هي لحظة حقوق الإنسان، التي انطلقت في العالم بقوة بعد انحسار الصراع بين المعسكرين الرأسمالي الإمبريالي والاشتراكي الشيوعي. انطلق هذا المسلسل في جهات مختلفة من العالمين الثاني والثالث منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أي منذ ثلاثة عقود... يبدو هذا التاريخ قريبا جدا بالنسبة إلى جيلنا، ولكنه عصرٌ آخرُ بالنسبة لجيل أبنائنا الذين يرفعون اليوم شعار "ارحل" في المشرق و "ديكاج" في المغرب العربي (ديكاج أقوى دلالة لأنها تُستعمل عادة في زجر الكلاب)، يَرفع هذا الشعار في وجه رُموز الفساد القادمين من زمن الرصاص، أو الذين يحاولون إعادة تشغيل برامج ذلك الزمن. بهذا التحليل تبدو اللحظة الحالية قابلةً للفهم، غيرَ أن تخلُّف الوطن العربي عن موعدها بثلاثة عقود أخفى سياقَها، فأصبح من المتعذِّر التنبؤ بها أو فهمُ منطقها، فقد اعتقد الجميع أن داءَ العالم العربي مُزْمِنٌ عُضالٌ لا دواء له، وبدأ البعض يستكشف الأسباب الذاتية لقابلية العرب والمسلمين عامة للاستعباد مستحضرا قول المتنبي منذ ألف عام: أغايَةُ المَجد أن تَحْفُوا شَواربَكم يا أمةً ضَحكتْ من جَهْلها الأممُ قَلبتِ الثورةُ الحديثةُ هذا المزاج فأعادت الاعتبار لقول أبي القاسم الشابي: إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة فلا بُد أن يستجيبَ القدر المسألة مسألة إرادة، والإرادة مربوطة بسياق، والسياق الحالي هو سياق استخلاص ديْن متأخر. حين نُدخل في الاعتبار امتدادَ الحِراك فوق الرقعة العربية، وعدمَ خروجه عنها إلا استثناء وبطبيعة تختلف عن طبيعته فيها، نستنتج كثيرا من الاستنتاجات: أولها أن الأمر يتعلق كما سبقتِ الإشارة بثالث لحظة تاريخية تمتد أمواجها من المحيط إلى الخليج: كانت اللحظة الأولى مع الدعوة الإسلامية، واللحظة الثانية مع الثورة ضد الاستعمار يحذوها حافزان: القومية والاشتراكية. تتميز هذه اللحظات التاريخية الحضارية الثالثة، كما ذكرتُ في مقال سابق، بتوالي الموجات بدون كلل. كما تتميز بوضع الحياة والقضية في كفة واحدة. القضية هي الحرية والانعتاق من الاستعباد والاستغلال، سميت "استقلالا" في مواجهة الاستعمار الخارجي، وتسمى الآن "كرامة" في مواجهة الاستعمار الداخلي الذي حل محله في غفلة من الزمن. لا يتعلق الأمر إذن بانتفاضة عابرة يُمكن كَبْتُها أو الالتفاف عليها، كما وقع في مناسبات سابقة. هذا استحقاق تاريخي لا بد من الوفاء به مهما وقع من تعثرات، لن يُستثني منه أحدٌ. ومَنْ تأخر أو ماطل سيؤدي الدين والفوائد المترتبة عنه، لن يسقط هذا الاستحقاق بالتقادم، ولن يتأخر طويلا مهما حشدوا ضده من بلطجية ومرتزقة وشبيحة. لقد بَيَّنَت الأحداثُ أن السياق العالمي الحالي لم يعد يسمح للطغاة بالتعنت إلى ما لانهاية، ولو كانت الحماية الخاريجية تفيد لأفادَ التعاطفُ الفرنسيُّ المكشوف مع زين العابدين بنعلي، ولأفاد التعاطف الأمريكي الصهيوني حسني مبارك، ولَما كان القذافي محصورا في جحر المهانة جوا وبحرا وبرا، [ثم كان ما كان من أمره]، ولأفادتْ عمليةُ الإنعاش السياسي والوساطات الغربية والعربية في حفظ ماء وجه علي عبد الله صالح [سمي المحروق فيما بعد]، ولما ظل الشعب السوري يتحدى مَفْرَمة الأسد. ونحن المغاربة لسنا من طينة أخرى، فلو كان زمننا هذا هو ذلك الزمن الذي كان الولاء للغرب الأمبريالي يباع غاليا لَما تردد الجهاز القمعي في المغرب في مباشرة إهلاك الثلثين من أجل الثلث، فالفتوى على موجودة من زمان. من حِكم التاريخ الخفية أن أمور الحِراك العربي (على وزن عِراك) سارت في تَدرُّج من اليسير إلى العسير، وكأننا بصدد درس بيداغوجي يُنير السابقُ فيه طريقَ اللاحق، ويُقنع السائر فيه بأن الطريقَ سالكٌ موصل مَهما اعترضه من عقبات. فالأمور سارت في تونس بيُسر أذهل المراقبين. صارت تجربة تونس موسومة بصوت ذلك المحامي الذي خرج يصيح وكأنه يُخبر بشيء لا يقبل التصديق: "بن علي هرب.."!! فمهما كانت قسوة ما وقع في ميدان التحرير بالقاهرة في يوم 24 يناير فإن الشباب صمدوا، وأخذت الأمور مسارها نحو الانفراج.. ومن هاتين السابقتين تستمد الوِلادات العسيرة اللاحقة في ليبيا واليمن وسوريا قوتها، وهي بالغة غاياتها... إن في ذلك كله لعبرة لمن يريد أن يجنب نفسه ووطنه الاندفاع نحو المجهول. فأين نحن من هذا السياق؟ من الأوهام المكرورة التي كسحتها التجارب الحالية القول بالخصوصية التي تُعفي من أداء الأنظمة ما عليها من متأخرات، فقد قالوا: مصر ليست ليبيا، ومبارك ليس هو بنعلي، وليبيا ليست هي مصر أو تونس، والقذافي غيرُ الرؤساء العرب جميعا، (ولو كان رئيسا لرمى بالاستقالة في وجوههم )، وعبد الله صالح ليس القذافي، وسوريا ليست اليمن.. إلى آخر هذه الأوهام التي تترجم الخوف من "القياس" الذي يُعتبر سيدَ الحُجج في المجال السياسي، وفي غمرة هذا الخوف ممزوجا بالنفاق يضَعُ بعضهم المغرب خارج السياق! هذه أوهام. الأنظمة العربيةُ متناسخة، ولا يخطو نظام منها خطوة إلى الأمام إلا أحس بالغربة فيعود إلى الحظيرة مسرعا، هم متنافسون في الخوف من الحداثة. هذا هو الفخ الذي وقع فيه المغرب بعد مخاض التسعينيات (تجربة التناوب)، إذ لم ندخل القرن الواحد والعشرين حتى بدأت الردة، وصار نموذج الحكم في تونس ومصر مغريا، وبدأ المخزن في الانتقال من منطق "أحزاب الدولة" (الفديك والحركات الشعبية والأحرار والاتحاد الدستوري...الخ) إلى" دولة الحزب" الذي سيقوم بالثورة وحده جامعا بين الأصالة والمعاصرة. نحن لا نختلف عن البلاد العربية في الاستحقاقات الدِّيموقراطية: في ما ينبغي عمله، بل وضعيتُنا في بعض الجوانب الاجتماعية أكثرُ حساسيةً: الأمية والهشاشة الاجتماعية الناتجة عن النهب وسوء التدبير: لوبيات الفساد تتناسل عندنا بدون حدود. ولكن هناك خصوصيتان كفيلتان بتجنيبنا الخوض في بِرَك الدماء التي يسبح فيها الآخرون، إذا فهم المخزن نفسَه وكَفَّ عن المراوغة ومحاولة شراء الولاءات، وتسخير المرتزقة: أولى الخصوصيات أننا، وإن لم نقطع مسافة كبيرة في طريق الديموقراطية، فقد خَبَرْنا الطريق واقتحمناه مرات عديدة، وعرفنا جُحور قُطاع الطرق وأساليبَ عملهم، وقد عرفوا هم بدورهم مدى إصرارنا وعنادنا واستعدادنا للمقارعة. لقد بقينا في حالة مخاض مأزوم منذ أكثر من نصف قرن، وظل أعداء الحداثة مكشوفين بل زادوا انكشافا. هذا بخلاف حال دول عربية أساسية تعرضت لإجهاضاتٍ خَدَّرتْ حسها عقودا (انقلابات عسكرية بأقنعة ثورية في مصر والعراق وسوريا والجزائر وليبيا...الخ)، ودول أخرى لم تقتحم العقبة بعد، سيأتي حسابها حسب ما ستختارهُ لنفسها بعد نفاذ المسكنات الرشاوى. ولا أدل على ما أقوله من أن المسألة الدستورية التي نصارع من أجلها اليوم هي منطلق الصراع الذي نشب بين المخزن (وأنتم تعلمون ما هو) وبين المعارضة المتفرعة عن مقاومة الاستعمار وجيش التحرير... والآمال كلها معلقة اليوم على إصلاحٍ دستوري حقيقي للخروج من الحلقة المفرغة التي ظل المغرب يدور فيها منذ أكثر من نصف قرن. وبين ظهرانينا اليوم رموز وشواهد بارزة على هذا التاريخ المرير؛ فالسي محمد بن سعيد آيت إيدر أطال الله عمره الذي كان من قادة جيش التحرير ورموزه، ثم تحول إلى زعيم اشتراكي لحزب ذي مرجعية ماركسية ثورية، هو اليوم أحد الرموز الداعمة لحركة الشباب الذي يرفع شعار التحرر من الفساد، هذا تاريخنا بكل تعرجاته، ومنذ سنوات قليلة انتقل إلى ثواب الله مناضل صلب بقي شوكة في خصر المخزن أكثر من أربعة عقود، محمد الفقيه البصري. لقد عرف المغرب كل مستويات معارضة النظام المخزني من انتفاضات شعبية عارمة (1965، 1980، 1984، 1990)، كما جرب العنف الانقلابي (1971، 1972)، وجرب العمل المسلح العلني (1973) والسري (طوال السبعينيات)، هذا فضلا عن العمل النقابي والثقافي الذي كان موجها سياسيا توجيها ظاهرا. يمكن أن تقول لي بأن المعركة بين الحركة الوطنية والمخزن انتهتْ بصفر! وسأقول لك: بل انتهت على أقل تقدير بإصابة في كل شبكة انتهتْ فعلا بإرهاقنا وتشتيت صفوفنا، هذا قائم وثابت، ولكنها انتهت أيضا بإرهاق المخزن وكشف سَوْأتِه أمام أنظار عالمٍ تحول من الصراع الثنائي (رأسمالي شيوعي) إلى التركيز على حقوق الإنسان، عالم الخُضْرِ والمرأة، عالم تَبَهْذل فيه كل بلاطجة العالم الثالث المسخرين من سوموزا إلى شاه إيران، ودخل الخوف والوهن قلوبَ مَن بقي منهم متمسكا بخشب كرسي مهتز. من الأكيد أن المعارضة التي كانت موزعة بين السجون والمنافي قد تعبت بدورها، ومال جناحٌ منها إلى المهادنة والقَبول بما تيسَّر مراعاةً للوضع الاستثنائي الذي عاشه المغرب وما زال يعيشه (قضية الوحدة الوطنية خاصة)، ولكنها لم تستطع، مع الأسف، دخول المعركة متراصة الصفوف. ولَكَ أن تتأمل الانقسامات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي (العمود الفقري للمعارضة) ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي والتقدم والاشتراكية في تلك الظرفية، وكيف استطاع المخزن أن يُحوِّل الكثير من المناضلين إلى طلاب وظائف وامتيازات، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك إلى فاسدين مفسدين(حكاية الذئب الخراز)، كما دعَّمَ تَحَوُّل عدد من الشباب الموهوب الطامح إلى صحافيين واهمين جعلوا الإجهاز على الأحزاب والحزبية مصدرَ بُطولة زائفة، فزيفوا وعي الشعب، ونفروه من كل ما هو سياسي. دخل المغرب بسبب هذه الفوضى في مأزق آخر أفضي إلى عودة المخزن إلى منهجيته القديمة في إنتاج الفاعلين السياسيين. مات إدريس البصري قبلَ أن يَفتح صندوقَ أسراره المتعلق بإفساد النخبة، من كان يُلقي إليهم بالحب، حسب تعبيرهٍ. والصورة تستحضر الدجاج، وصاحب الدجاج. الخصوصية الثانية، هي الشروع في تنفيس الأزمة بشكل إيجابي قبل الحِراك العربي بعقد من الزمن. فمع كل ما ذُكِر من سلبيات المسار المُنهِك الذي عرضنا بعض ملامحه فإن دخولَ المغرب في تجربة التناوب التوافقي وما تقدم هذه التجربة ورافقها من انفراج نسبي بعودة المغتربين وإطلاق سراح المعتقلين وتضميد بعض الجراح، ثم ما يَسَّرهُ القَدَر من تغيير على رأس الهرم،..وهذا مهم جدا..الخ، ساهمت، بل ساهم كل ذلك في تنفيس الاحتقان التاريخي (برغم بقاء أجنحة كبيرة من اليسار في موقع الارتياب أو الرفض). ولو أدرَكَنا الحِراك الحديث ونحن في الأجواء السابقة لما اختلف حالنا عن حال ليبيا وسوريا. من الظواهر الدالة التي يجب تأملها أن حركة الشباب لا تُصفي حساباتها اليوم مع رموز المخزن الذين سمموا حياة جيلنا، نحن جيل الاستقلال، بل تُصفي حساباتها مع من تعتبرُهم مسؤولين عن إجهاض التجربة الحديثة، تجربة التناوب. أي من قادوا الردة ابتداء من 2002: الهمة والماجدي والعماري والصفريوي...الخ حتى إدريس البصري غائب في هذه الحملة. الحركة الشبابية الحديثة تعترف ضمنيا بأن القطار انطلقَ خلال التسعينيات ثم اعترضه قطاع الطرق في أوائل التسعينيات. وهذا شيء طبيعي فقد ورث جيلنا معركة الحركة الوطنية مع الجبهة التي أسسها كديرة أوائل الستينيات، أما الشباب الحالي من أبنائنا فمعركته مع الجبهة الجديدة الدائرة حول "صديق الملك"، كما يسمونه. ولمن لم يفهم "التنفيس الإيجابي" أن يقارن بالتنفيس السلبي الذي وقع بجوارنا. نحن ننسى اليوم أن الانفراج المُتحكَّم فيه الذي عرفهُ المغرب خلالَ التسعينيات كان مُحَفَّزًا ومدفوعا بالوضع المأساوي المُرْعِب الذي عرفه أشقاؤنا "الألذاء" في القطر الجزائري، (محفِّز بالمعنى الفزيائي: تحفيز التفاعل، بالتسخين مثلا). فالجزائريون مُعوقوَّن اليوم ومُحرجون وكأنهم خارج التاريخ بفعل الإجهاض الذي تعرضتْ له حركتهم التي انطلقت قبل الموعد، قبل نُضْج الظروف، سالكة طريق الانقلاب ضد التاريخ، بخلاف الثورة الحديثة. وقد كان مما أغضبَ حكامَ الجزائر من الحسن الثاني وزاد من تأجج عداوتهم السوداء ضده، وضد المغرب، تصريحُه بأنه لو كان محلهم لسمح للإسلاميين بتجريب حظهم في الحكم. [هاهم يجربون حظهم في المغرب نتمنى لهم كامل التوفيق، فتنزيل الدستور تنزيلا ديموقراطيا سليما يهمنا أكثر منهم]. المستقبل يريد المنتفعون من الوضع الحالي الإيهام بأن المشكل ينحصر في إصلاح الدستور دون أن يقدموا أيةَ حجة على أن هذا الدستور لن يُطرح في أرض سياسية جرداء غير منبتة. ولذلك فما إن خطب الملك واعدا بإصلاح الدستور حتى نزلت القوات المضادة إلى الساحة لإخلائها من المتظاهرين: الهراوات والأقلام المأجورة والفيديوهات المسموعة المرئية. وآخر الفيديوهات فيديو صاحب فتوى مضاجعة الجثة الذي ظهر منذ يومين يقدح في الحركة الاحتجاجية لأنها استمرت في التظاهر بعد الوعد بالإصلاح. وفيديو صاحب العصا (يُدعى نْهاري) الذي ترك عمله الوظيفي في وجدة وأصبح يخاطبنا من مساجد ألمانيا وإيطاليا قادحا في حركة 22 فبراير طالبا التفرغَ للخطابة الدينية كما يتفرغ النقابيون للعمل النقابي! [وجاءَ بعدهما صاحب الشاقور وصاحب الدلاحة وحثالاتٌ أخرى من صنائع المخابرات]. نحن نعرف اليوم أن تغييرَ الدستور لم يكن مطلبا سياسيا بالنسبة للأحزاب الإدارية، ولم يكن أسبقيةً بالنسبة لأحزاب الكتلة، عدا الاتحاد الاشتراكي الذي أحرجت قاعدتُه قيادتَه في المؤتمر الثامن فقامت بأضعف الإيمان: أوصلت الرسالة. وقد كان ورود عبارة "ملكية برلمانية" محرجا لدرجة أن قيلَ مرةً بأنها خطأ مطبعي (نسب هذا الكلام لرئيس الحزب)، وقيل مرة أخرى بأن المسألة مجرد إنشاء لا يحمل دلالة محددة (رئيس الفريق البرلماني). وقد جاء هذا الرعب من العبارة بعد أن وَصَفها الحليفُ الأول (رئيس حزب الاستقلال) بأقبح النعوت (العبث السياسي)، وتبرأ منها الحليف الثاني (التقدم والاشتراكية) مؤكدا تشبثه بالفصل التاسع عشر. هذا الرعب مفهوم: نحن نعيش منذ عقود في منزلة بين المنزلتين، حين "تدور الزرواطة" تأتي على الأخضر واليابس فتظهر الأرض قاحلة... ثم يأتي ربيع كاذب فتنبت بعض النباتات، الكل يفضل الرعي والاقتيات منها إلى حين. وعلينا أن نقنع أنفسنا الآن، قبل إقناع غيرنا، بأننا أصبحنا في أرض غير الأرض وسماوات غير السماوات. أهم إنجاز للشباب هو كسر جدار الخوف بكل ما يتطلبه ذلك من ثمن. النظام لا يقدم الآن عربونا يدلُّ على مصادقته على الصفقة، وهذا ما يدعو إلى المزيد من اليقظة والمتابعة دون الخروج عن البرنامج المعقول الذي يجد الدعم من أوسع جبهة من الأحرار الغيورين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والفئوية... يجب الاستمرار في الاحتجاج ضد الفساد والمفسدين حتى تتفكك بنية المخزن... والوسيلة الوحيدة التي لا ثانية لها هي إخراج يده من المحفظة، هي قطع يده من المال العام الذي يصنع به المرتزقة في كل المستويات، وبكل الصيغ. ولن يتم ذلك إلا بتفعيل العدالة لمنع الإفلات من العقاب. حين يجفَّف هذان المنبعان ستذبل النباتات الطفيلية وتموت من تلقاء نفسها. لا ينبغي الاستعجال، فالاستعجال يوصل لليأس. هذه ثورة، ولكل ثورة امتداد وتعرجات وإقبال وإدبار، اختطاف واسترجاع. اَفترضُ متفائلا أن تُكرَّسَ الملكية البرلمانية في المغرب عمليا في مدى عشر سنوات، أي في مدى تجربتين حكوميتين يتولاهما ديموقراطيون حقيقيون. هذه مراهنة على استمرار النضال على أشده، في الواجهتين البرلمانية والمدنية الاحتجاجية. أما تحقيق مجتمع ديموقراطي إنساني فيتطلب ربع قرن، الوقت الذي ينقرض فيه آخر مخلوق من جيل المنافقين والمخصيين الذين يمشون على بطونهم. محمد العمري. باحث في البلاغة وتحليل الخطاب. www.medelomari.net