مرة أخرى بعد أزمة المتعاقدين التي أهدرت قرابة شهرين من زمن أبناء الفقراء المدرسي، ممن لا غالب لهم إلا المدرسة العمومية، يجد التعليم العمومي نفسه في عين العاصفة من جديد في خضم الصراعات الإيديولوجية والمزايدات السياسية بخصوص موضوع القانون الإطار المتعلق بلغة تدريس المواد العلمية والتقنية. فإذا كان على الهوية، لا أظن أن أحدا من المغاربة يناقش في أمازيغية المغاربة وعروبتهم وإسلاميتهم، طبعا لا نتحدث عن المتطرفين من هذا الفريق أو ذاك، فالشاذ لا يقاس عليه. إن الدستور المغربي أسمى وثيقة يحفظ للمغاربة هويتهم بكل مقوماتها؛ وضمنها المكون اللغوي. كما أنه لا أحد يجادل فيما يؤكده الأكاديميون وخبراء التربية والمتخصصون في مجال نهضة الشعوب وتنميتها أن الأصل هو التدريس باللغة الوطنية لاعتبارات تربوية بيداغوجية وشعورية ونفسية، على غرار مجموعة من الدول لم تحقق نهضتها إلا بلغتها الأم في جميع أسلاك تعليمها، مع الانفتاح طبعا على اللغات الأجنبية، وخاصة اللغات المتصدرة للمشهد اللغوي عالميا بحكم اقتصاداتها القوية، لاكتساب المعارف والمهارات وفهم الآخر ومواكبة تطورات العصر. كما أنه لا أحد يمكنه تجاهل قوة التيار الفرانكفوني وتغلغله في دهاليز صناعة القرار، بحكم ما يحوزه من إمكانات مادية هائلة وأذرع إعلامية قوية، تمكن لغته من فرض ذاتها، إيمانا منه بأن "كل من يتكلم الفرنسية يشتري الفرنسية". كما لا ينكر أحد الهجمة الشرسة التي يشنها البعض من بني جلدتنا على اللغة العربية، في إطار الصراع المفتعل بين لغتي الوطن الدستوريتين، لما يطفح كيل نرجسيتهم ليعبروا بالفرنسية عن رفضهم للعربية، باعتبارها لغة الغزو العربي، وهلم كلام تجاوزه الزمن منذ أمد بعيد. هذا دون إغفال تهريج أصحاب التلهيج والتدريج. بعد هذا المدخل الذي كان لا بد منه، لإزالة أي لبس حيال لغتينا الوطنيتين، نبسط بعض الملاحظات، بخصوص الجدل حول القانون الإطار، نوردها كالتالي: التعريب كل لا يتجزأ لقد مر على اعتماد التعريب المنقوص قرابة عقدين من الزمن، وإلى اليوم لم يراوح مكانه، ولم يحقق أبسط تقدم على مستوى تعميمه، ليشمل التعليم العالي بكل مرافقه وتخصصاته. ألم يحن الوقت بعد ليقف المتشبثون به على هناته وعلاته، بعد التحرر من أية عاطفة كيفما كان نوعها، وقفة تأمل مستحضرين مصلحة تلاميذ المدرسة العمومية على الخصوص، بما أنهم هم المكتوون بناره، مقارنة بنظرائهم بالتعليم الخصوصي الذين ينتقلون بسلاسة إلى التعليم العالي، في انسجام تام مع اللغة التي درسوا بها المواد العلمية والتقنية؟ بعيدا عن أي تأويل مغرض، أليس من حق تلاميذ المدرسة العمومية أن ينعموا بمبدأ تكافؤ الفرص مع نظرائهم بالتعليم الخصوصي، إما بتعميم التعريب ليشمل كافة الأسلاك التعليمية من الابتدائي إلى العالي، ويشمل التعليم الخصوصي أيضا، وإن كان هذا المطلب مستحيل التحقق بحكم قوة لوبيه، أو التراجع عنه لضمان الحد الأدنى من دمقرطة التعليم، وتساوي الحظوظ بين تلاميذ التعليمي لولوج التخصصات العلمية بالجامعات وكليات الطب والصيدلة ومدارس المهندسين داخل الوطن وخارجه سواء بسواء؟ هل يروق هذا الوضع السريالي بالتعليم العمومي الذي لا أعتقد بوجود مثيل له، إذ ما معنى أن يدرس التلميذ كل المواد العلمية والتقنية باللغة العربية إلى الباكالوريا، بعدها مباشرة يجد نفسه وجها لوجه مع اللغة الفرنسية في جميع المواد الدراسية وكذا الامتحانات لولوج المعاهد والكليات، دون أدنى اعتبار للواقع اللغوي المفروض على أبناء الفقراء بالمدرسة العمومية؟ فعلى المدافعين على التعريب المنقوص، ممن جعلوا قضيته قضية حياة أو موت، أن يشرحوا للمغاربة حصيلة هذه اللخبطة اللغوية. ألا يعرفون أن تشبثهم بهذا الوضع الشاذ، بدعوى أنه مكسب لا يمكن التراجع عنه في انتظار استكماله، حتى بدون القدرة على تحديد سقف زمني محدد له، إنما يجنون على أبناء البسطاء بالمدرسة العمومية لوحدهم دون غيرهم؟ فلماذا هؤلاء فقط هم من عليهم التضحية من أجل الحفاظ على مكسب الهوية اللغوية؟ فإذا كان ولا بد من تكلفة، فلم لا يتفرق دمها بين التعليمين العمومي والخصوصي، وإلا فلا مناص من التراجع عنه إلى حين حل جميع إشكالاته، بما فيها حسم لغة التدريس وطنيا، هل هي العربية أم الأمازيغية بما أنهما لغتان دستوريتان على قدم المساواة؟ "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" إنه لمن المفارقات عسيرة الهضم والمستعصية على الفهم، أن تجد أقطاب التيار المتشدد الذي يصرح بعضهم لما تبلغ به الحماسة ذروتها، ليعلن أنه على جثته يمر هذا القانون، وكأنه في ساحة وغى لا خيار فيها غير النصر أو الشهادة، زاد الأمر تعقيدا خرجة رئيس الحكومة السابق النارية متوعدا ومنذرا رئيس الحكومة الحالي حتى لو اقتضى الأمر تقديم الاستقالة، مسنودا ببيان لحركته الدعوية (التوحيد والإصلاح) شديد اللهجة، مما أربك عمل الحكومة بتراجع نواب الحزب عن التصويت، والغريب كما تتناقله وسائل الإعلام الوطنية أنه لا أحد من رموز هذا التيار ومعه حزب الاستقلال المتشبث بهذا الموقف، يدرس أبناءه بالمدرسة العمومية حيث هذا العبث اللغوي الذي يغرق فيه أبناء الطبقات الشعبية لوحدهم. "غثاء كغثاء السيل" أما ما يتم الترويج له خلال دفوعات هذا التيار، باستحضار تعداد العرب (قرابة نصف المليار)، فالدعوى متهافتة من عدة وجوه: أولها متى كان الكم مقياسا؟ ففي الحديث النبوي "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل"؛ ثانيها ما الذي ننتجه اليوم باعتبارنا عربا، وما هي إسهاماتنا الحضارية اليوم بجانب ما تنتجه الأقوام الأخرى بلغاتها؟ ثالثها ما الذي بحوزتنا نفتخر به، نحن العرب بقضنا وقضيضنا، من مدارس عليا في التخصصات العلمية الدقيقة، مجهزة بأحدث التجهيزات على المستوى العالمي، تكون قبلة لشبابنا يدرسون بها باللغة العربية، مثل ما نجده لدى الدول التي نحتقر لغاتها؟ فما الذي نسجله في إطار التبادل الشبابي العربي العربي، إذا استثنينا المغرر بهم ممن يتوجهون إلى جبهات القتال، حتى بدون أن يعرفوا لا مع من يقاتلون، ولا ضد من يقاتلون، ولا من أجل ماذا يقاتلون، أكثر من استلاب إرادتهم، ودغدغة عواطفهم بالحور العين وجنات النعيم؟ *كاتب