شهدت السودان، خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أربعة أشهر، تطورات سريعة متلاحقة أسفرت عن نجاح الحركة الاحتجاجية، التي حملت سمات حركات مماثلة في المنطقة العربية، في الإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير من السلطة، بعد ثلاثين عاما قضاها في سدة الحكم. ولا شك في أن التاريخ سوف يسجل يوم الحادي عشر من أبريل 2019 باعتباره يوما تاريخيا في حياة السودانيين، الذين استطاعوا بإصرارهم وقوة حجتهم "اقتلاع النظام " والإطاحة برأسه عمر البشير، الذي كان قرار حكومته في دجنبر من العام الماضي بإلغاء الدعم عن الخبز والوقود القشة التي قصمت ظهر البعير. فمنذ ذلك اليوم، بدأت مظاهرات السودانيين، ولم تهدأ حتى الآن؛ فقد أدى هذا القرار إلى زيادة معاناتهم واستيائهم من تصرفات النظام. ويعتبر استمرار الاحتجاجات لأكثر من أربعة شهور أمرا مختلفا عما حدث في عامي 1964 و1985 عندما استمرت الاحتجاجات لأسابيع قليلة فقط من أجل إنهاء الحكم العسكري. كما أن هذه المرة شهدت مشاركة كبيرة من جانب النساء اللاتي مثلن ثلثي عدد المحتجين، وكان لهن ظهور بارز في المظاهرات تجسد في آية صلاح، الشابة أيقونة الاحتجاجات التي لفتت بنشاطها المكثف أنظار العالم للسودان. وعلى الرغم من إعلان الفريق أول عوض بن عوف، وزير الدفاع السوداني، يوم الخميس الماضي، في بيان له، عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسته يدير الحكم في البلاد لمدة عامين، بالإضافة إلى اتخاذه بعض الإجراءات الأخرى لتهدئة المحتجين، أصر المحتجون على موقفهم بضرورة إقصاء كل الوجوه القديمة المحسوبة على النظام، وتسليم السلطة لإدارة مدنية. وفي ضوء هذا الرفض، أعلن بن عوف، بعد أقل من يومين، استقالته من منصبه، وأعلن اختيار الفريق أول عبد الفتاح البرهان خلفا له، كما أعلن إعفاء كمال عبد المعروف من منصبه نائبا لرئيس المجلس. وقد قوبل تنحي بن عوف بفرحة عارمة بين المحتجين؛ لكن تجمع المهنيين السودانيين، وهو تجمع نقابي غير رسمي، وحلفاءه في قوى الحرية والتغيير أعلنوا رفضهم القاطع لرئيس المجلس العسكري الانتقالي الجديد عبد الفتاح البرهان، واعتبار ما تم "مجرد استنساخ للوجوه". وأعلن التجمع، في بيان له أول أمس، عن حزمة مطالب، أكد أنها لا تقبل المساومة أو التلاعب؛ بينها تنحي النظام، ونقل السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية فورا. وحول احتمالات الموقف في السودان ذكر جود ديفيرمونت، مدير برنامج إفريقيا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، في تقرير أخير له، أن الجيش يريد أن يقدم هذا الانتقال إلى السلطة على أنه أمر واقع؛ ولكنه في حقيقة الأمر مجرد بداية، وعلى خلاف الوضع في زيمبابوى، حيث شعر المواطنون ببساطة بالارتياح لرؤية الإطاحة بالرئيس روبرت موجابي، أوضح تجمع المهنيين أنه لن يترك الشوارع حتى يترك العسكريون السلطة. وقال ديفيرمونت، الذي كان كبيرا للمحللين السياسيين لشؤون قضايا منطقة إفريقيا جنوبي الصحراء في وكالة المخابرات المركزية، إن هناك عدة عوامل سوف تقرر ما إذا كان الجيش سوف ينجح في "انقلابه الذي يمثل استمرارية". وهذه العوامل هي دعم الأجهزة الأمنية للتحول الجديد، وقدرة المحتجين على الصمود، ودور الدول الرئيسية المجاورة للسودان والحلفاء من دول الخليج. فبالنسبة إلى الأجهزة الأمنية، إذا كان انضمام بعض أفرادها إلى المحتجين قد عجل بسقوط البشير، سوف يحدث الشيء نفسه في المرحلة المقبلة من الفترة الانتقالية؛ لكن إذا قبل العسكريون والشرطة وقوات الدعم السريع والمخابرات خطة المجلس العسكري، فإن بإمكانه تجاهل المحتجين واتخاذ إجراءات صارمة لتفريقهم. وكانت جماعات حقوقية قد زعمت أن 60 شخصا على الأقل قتلوا حتى الآن، ومع ذلك يعتقد كثير من المراقبين أن الحكومة أظهرت ضبط النفس إلى حد كبير خلال الأشهر الأربعة الماضية. وفيما يتعلق بالمحتجين يقول ديفيرمونت، الذي يعمل أيضا محاضرا في كلية إيلتون للشؤون الدولية بجامعة جورج تاون، إنهم أظهروا قدرة كبيرة على الصمود وربما يزيد رحيل البشير من إصرارهم. وقد احتفلت جموع السودانيين بانتصارهم؛ ولكن كما حدث في الجزائر، من المؤكد تقريبا أن المحتجين سوف يواصلون تصعيد احتجاجاتهم من أجل تحقيق عملية انتقال كاملة. ومع ذلك، فإن قدرة المحتجين على الصمود سوف تتعرض لاختبار، إذا بدأت الحكومة في عملية قمع أكثر وحشية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن شهر رمضان سوف يبدأ في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، وسوف تؤدي الحرارة المتزايدة إلى زيادة العبء الشخصي والبدني بالنسبة إلى المحتجين في حالة الإصرار على البقاء في الشوارع. من ناحية أخرى، ذكر المحلل الأمريكي أن الدول المجاورة للسودان سيكون لها دور في صياغة عملية الانتقال؛ فإثيوبيا والدول الرئيسية الأخرى في المنطقة التزمت الصمت أثناء الاحتجاجات. وإذا رفض رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، والرئيس الكينى أوهورو كينياتا، والرئيس الأوغندى يوري موسيفينى خطة الجيش الانتقالية، فإنه لن تكون هناك فرصة كبيرة للمجلس العسكري الانتقالي للمناورة. وبالنسبة إلى الخليج، أشار ديفيرمونت إلى أن الدول الخليجية امتنعت في الأشهر الأخيرة عن مساعدة البشير لتهدئة العاصفة الاحتجاجية التي يواجهها نظامه. وإذا واصلت دول الخليج الامتناع عن دعم المجلس الانتقالي، فإن خزانة الحكومة الانتقالية الجديدة قد تصبح خاوية وبذلك تفتقر إلى شرعية البقاء في السلطة. ومن المعروف أنه في السيناريوهات التي لا يتفق فيها العسكريون والمحتجون على كيفية المضي قدما، تزداد فرص وقوع أعمال عنف وفوضى. ويقول ديفيرمونت إنه مع ذلك، فإن أفضل سيناريو هو ذلك الذي لا يوجد فيه لدى أي من الجانبين استعداد للتفكير فيه، وهو تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراطيين وبعض عناصر من القوى المهنية، ونخبة من المثقفين السودانيين. وكان هذا هو جزء من نجاح المرحلة الانتقالية في بوركينا فاسو في عام 2014. وفيما يتعلق بدور المجتمع الدولي والولاياتالمتحدةالأمريكية في التعامل مع الوضع في السودان، يقول المحلل الأمريكي أنه يتعين عليهما التعاون مع الجانبين للتوصل إلى حل وسط؛ وهو ما يتطلب بذل بعض الجهد الدبلوماسي. وأضاف أنه يجب على الولاياتالمتحدة التواصل سرا مع قيادة حركة الاحتجاج، بما في ذلك تجمع المهنيين السودانيين، وإبلاغهم بأنه من المفيد أن يكون هناك بعض التوافق بين المجلس العسكري والحزب الحاكم السابق، ولو كان ذلك فقط من أجل الحفاظ على بعض الاستمرارية لمهام الدولة وتحقيق إجماع عام. وأكد ديفيرمونت على ضرورة تكثيف واشنطن تنسيقها مع دول الخليج العربية، وقادة المنطقة مثل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، للضغط على الجانبين من أجل التوصل إلى حل وسط. * د.ب.أ