عبد النور رجل ممدوح السيرة، نبيل الأخلاق، نقي السريرة، لا هو من أهل السياسة أو الطموح ولا هو من ذوي الثراء أو الجاه. وهو إلى ذلك رجل سمح، متواضع، متوسط القامة، ضامر الجسد، مستطيل الوجه، ذو لحية مشذبة وشارب خفيف، لا يرتدي من الملابس إلا جلبابا مهلهلا حائل اللون ولا ينتعل من الأحذية إلا صندلا عاديا بينما السبحة لا تبرح أنامله ولا الابتسامة وجهه. هكذا عرف الناس عبد النور بعد أن قدم إلى مدينتهم قبل خمس عشرة سنة ثم استقر في حي بئيس وعاش قانعا بوضعه الاجتماعي في كنف أسرة تتكون من ستة أفراد. أما سكان الحي البئيس الذي استقر فيه عبد النور فيخصونه بالاحترام والمحبة، فالرجل مثال للشهامة والاستقامة ومطبوع على فعل الخير، ينفق أغلب وقت فراغه في خدمة المعوزين والمقهورين، يحنو عليهم ويخفف من عسرهم، لا يضن عليهم بالمساعدة والإرشاد ولا يكف عن مد يد العون إليهم انسجاما مع فلسفته في الحياة التي تقول "فعل الخير عبادة". لذلك فهو كلما مر من زقاق في الحي الذي يقيم فيه تنحني له الرؤوس وتبش أمامه الوجوه وتمتد الأيادي لتصافحه كأنه ولي من أولياء الله الصالحين. وفوق ذلك، فأهل الحي يكبرون في عبد النور ورعه وتعبده وتقواه، إذ كلما انطلق صوت المؤذن في الحي داعيا إلى صلاة يرونه متوجها إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة التي يحرص عليها أشد الحرص. على حين لم يكن عبد النور راضيا على وضعية وأحوال الحي البئيس الذي كان ساكنوه يهيمون في شقاء وبأساء وضيق. ويدنو موعد الانتخابات، ويكاد يجمع أهل الحي على أن عبد النور هو خير من يمكن أن يمثلهم فيها. وما أسرع ما وقع بعد ذلك عليه اختيارهم لتمثيلهم في هذا الاستحقاق، لذلك أقبلوا على بيته وعرضوا عليه الترشح للانتخابات. غير أن الرجل أبى أن يقبل عرضهم بحجة أن تمثيل أهل الحي مسؤولية جسيمة وأمانة عظيمة وأنه يخشى التقصير في أدائها. لكن مع إصرار أعيان الحي على تزكيته وترشيحه بصفته مثالا للأمانة والمسؤولية والتضحية ونكران الذات لم يجد الرجل مناصا من الاستجابة لهم، فتقدم للانتخابات وظفر بأغلبية أصوات الناخبين ثم أصبح ممثلا لساكنة الحي البئيس ومسؤولا عن تحسين أوضاعه وخدمة أهله. ولأن الأمانة التي أصبحت ملقاة على عاتق عبد النور بعد الانتخابات ثقيلة فقد جافاه النوم وطاردته مخاوف ووساوس كثيرة لأيام وليال. احتفل أهل الحي البئيس بعد ذلك بفوز عبد النور في الانتخابات. ويوم الاحتفال تدفقت جموع الرجال والنساء والشيوخ والشبان نحو المنصة التي كان يقف فوقها واشرأبت أعناقهم نحوه. وعلى إيقاع التصفيق ألقى عبد النور كلمة أخذت بمجامع قلوبهم، إذ غمرهم خلالها بآيات الشكر والثناء على تزكيتهم له وتكليفه دون سواه بحمل أمانتهم، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه سيكرس جهده لإصلاح أحوالهم وتفريج ضيقهم وأشهد الله في المقابل أنه لا يعنيه لا مال ولا جاه ولا منصب وليس في نيته البحث عن زعامة أو قيادة أو مراكمة ثروة أو بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية الزائلة. في تلك الأثناء كان الحاضرون بوجوههم المكدودة المقهورة يصيخون بأسماعهم باهتمام وحماس إلى كلمات عبد النور المتدفقة التي حرص من خلالها على الاستشهاد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تدعو إلى الإصلاح وتنهى عن الفساد وتحث على تقديم المصالح العامة على المصلحة الذاتية. لم يملك الحاضرون إلا أن أعجبوا بخطاب عبد النور وتفاعلوا معه حتى ارتسمت على ملامحهم علائم الرضا والقبول، ثم ما لبثوا أن هتفوا باسمه ورفعوا صوره وصفقوا له تصفيقا. استمر عبد النور بعد نجاحه في الانتخابات لأشهر على الوتيرة نفسها، يمضي معظم وقته مع طلاب الحاجات، يفتح لهم باب منزله ويقابلهم بالترحيب ويقرب سمعه من أفواههم فيعرضون عليه طلباتهم، فتراه بعد ذلك إما مع فقير يأخذ بيده أو مريض يرافقه أو محتاج يساعده حتى أصبح أوسع محبة وأكثر ذكرا بين ساكنة الحي البئيس. وتتوالى الأشهر، ورويدا رويدا أخذت علاقات عبد النور الاجتماعية تتسع وتتفرع بفضل تمثيله لساكنة الحي البئيس وتهيأت له بذلك سبل لقاء ومجالسة عدد من ذوي المراكز والمراتب وأصحاب النفوذ والمال والأعمال، فجلس معهم وجالسهم بل ورافقهم حتى طابت له مرافقتهم. وما أسرع ما أعجب بعد ذلك بطيب عيشهم وبنعيمهم ورغدهم، ثم ما لبث أن ازداد تقربا منهم حتى ناله منهم أجزل النفع وأكرم البذل وأفضل النصح والإرشاد. وعلى حين مضى اهتمام عبد النور بشؤون الحي البئيس يتلاشى وبدأ همه ينحصر شيئا فشيئا في الانكباب على تحقيق مصالحه الشخصية والعائلية وازداد إيمانه بأن خير الناس خيرهم لأهله وأن الأقربين أولى بالبر والمعروف. وما هي إلا أن شرع عبد النور يستهين بواجباته نحو أهل الحي البئيس ويصم أذنيه عن طلباتهم، بل إنه أصبح يحاذر أن يلتقي بهم. فما عاد يصافح مقهورا أو يحيي مستضعفا، وفي أحسن الأحوال كان يقابل طلاب الحاجات من أهل الحي بالتسويف وأحيانا كان يطالعهم بوجه متجهم وفم ناهر زاجر. ساء أهل الحي انقلاب أحوال عبد النور وتبدل تعامله معهم، فغزت قلوبهم مشاعر الخيبة والخذلان وهم يرون أن الرجل الذي وثقوا فيه توارى عن عيونهم وما عادت تعنيه أمورهم وأوضاعهم التي ازدادت ضنكا وقهرا. لم يعد عبد النور يرتاد الأسواق والمقاهي ومسجد الحي، بل لم يعد يساعد مقهورا أو مستضعفا كما كان دأبه من قبل، لذلك طفق أهل الحي يرمون الرجل في مجالسهم بكل قبيح من القول ويكيلون له تهم المكر والرياء والتلون ويحملونه مسؤولية ما حاق بهم. والغريب أن بعض شباب وشيوخ الحي من المقربين من عبد النور صاروا يبررون له تواريه عن عيون الناس بكثرة التزاماته وينفون عنه مسؤولية بؤس أهل الحي وتعاستهم ويقولون إن ما حاق بهؤلاء مقدر ومكتوب وإن أمر إصلاح أحوالهم ليس بيده. والأغرب أن هؤلاء المقربين طلبوا من أهل الحي البئيس أن يتحلوا بالصبر الجميل وأن يمهلوا عبد النور لسنوات حتى يصلح أحوالهم ويحقق أحلامهم كاملة غير منقوصة. وتمر سنوات قلائل ويعلم أهل الحي البئيس أن عبد النور استحال شخصا آخر غير الذي كانوا يعرفون. فقد صار الرجل بدين الجسم، مطهم الوجه، حليق اللحية، منتفخ البطن، ذا نعمة ومال وجاه، يغلي في نفسه حب المال ويفور. لذلك أصبحوا حين يتردد اسمه على ألسنتهم ينهالون عليه بالسب والعتاب والشتم واللعنات بينما لا يملك بعضهم غير ترديد "سبحان مغير الأحوال!". ويتحدث الفضوليون من أهل الحي نفسه في مجالسهم عن عبد النور، فتجري على ألسنتهم حكاية تقول إن الرجل بعدما أصبح ذا مال وأعمال قطع علاقته بأفراد أسرته وتزوج بشابة مليحة جمعته بها قصة غرامية ثم انتقل للإقامة معها في فيلا فاخرة في حي لا يقيم فيه إلا الأثرياء.