ذات مرة، في بدايات السينما، اخترع الأمريكي غريفيت ما أصبح يسمى "اللقطة القريبة"، تلك اللقطة التي لا يستغني عنها أي فيلم سينمائي، ما هي ماهيتها؟ تتيح لنا اللقطة القريبة، عبر اقتراب الكاميرا من الممثل أو الأشياء، لفت انتباه المتفرج إلى تفصيلة قد تفلت من انتباهه حالما لم يتم تصويرها على حدة، وتم تمريرها في إطار "لقطة عامة". مكنت إعادة اكتشاف "اللقطة القريبة" اليوم من فهم أنها جزء مهم في السينما، لقد غيرت لغتها وأعطت للفيلم السينمائي وضوحا وإيقاعا مثيرين للإعجاب، عبر تتابع مختلف اللقطات القصيرة. إن القدرة على التحكم في الإيقاع، وجعله قريبا من التعبير الموسيقي، لخير دليل على تمكن المخرج وحرفيته (لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الأفلام الناطقة تفتقد إلى الإيقاع). أثناء اشتغالي على أحد أفلامي الأخيرة راودتني فكرة أن لفت انتباه المتفرج مسألة لا تتعلق فقط بتفاصيل المكان، بل تتعداه إلى البناء الزمني للفيلم، طريقة العرض البطيء المخترعة سابقا جعلتني أفكر في تحقيق ما كان يدور بخلدي. صيف سنة 1930، كنت في موسكو في اجتماع عقد في قصر العمال. انتهى الاجتماع، كان المطر يهطل بغزارة في الخارج وكان علي أن انتظر انتهاءه في إحدى الغرف، نظرت إلى النافذة المطلة على الحديقة ورحت أراقب خيوط المطر الرائعة تتساقط في سلاسة وهدوء وترتطم بالحافة الإسمنتية للنافذة، إلى الأعلى، تقفز قطرات المطر، كبيرة، براقة، قزحية اللون، وصغيرة يمتصها الهواء؛ كانت تتطاير أو تنزل في مختلف الاتجاهات، حسب مسار معقد، إلا أنه سلس الإيقاع. أحيانا تعصف الرياح ببعض خيوط المطر، فتتجمع في كتلة واحدة، يرتطم الماء بالحجر فيتشتت مرتجفا، شفافا، يسقط، ومرة أخرى يتشتت ليتقاطع مع رذاذ المطر المتطاير. مطر خلاب، لم أكن أنظر إليه فقط، بل أحسست بطراوته، رطوبته، غزارة صبيبه، شعرت به يغمرني، كان يسقط فوق رأسي، فوق كتفي، لم تعد الأرض قادرة على ارتشافه، فقد ارتوت عن آخرها. انتهى المطر فجأة، كما يحدث ذلك عادة في الصيف، متخلصا من آخر قطراته تحت الشمس. خرجت من البناية، عند مروري بالحديقة، وقفت أنظر إلى رجل بيده منجل، كان نصفه العلوي عاريا، عضلاته تتقلص تارة وتتمدد أخرى كلما هوى بمنجله في ضربات منتظمة. شفرة المنجل المبللة تعكس وهجا حادا كلما ارتفعت واصطدمت بأشعة الشمس. اقتربت وقد اختفى المنجل وسط العشب الطويل الرطب ليتساقط على الأرض في بطء ناعم، قطرات الماء البراقة من انعكاس ضوء الشمس ترتجف على أوراق العشب الحادة المائلة لتنزلق وتتساقط إلى الأسفل. كان الرجل يشذب العشب بينما أقف ناظرا إليه، ومرة أخرى ضمتني روعة المشهد، إذ لم أر في حياتي عشبا رطبا أروع من هذا، لم أر في حياتي كيف تلتف قطرات المطر حول سيقان الأوراق النحيفة، ولأول مرة رأيت كيف تتهاوى تلك السيقان تحت ضربات المنجل، وكالعادة، (وهي عادة كل المخرجين) ألفيت نفسي متخيلا الأمر وكأنني أشاهده على الشاشة. تذكرت عشرات المرات عملية الحصاد مصورة ومعروضة في كثير من الأفلام، وخزني إحساس حاد ببؤس تلك الصور مقارنة مع الثراء المدهش لما رأته عيناي، ما عليك إلا أن تتخيل ذلك الرجل الرمادي المسطح وهو يلوح بعصا طويلة في إيقاع متسارع، أن تتخيل العشب مصورا من الأعلى، يشبه أليافا مرتبكة، لتكتشف بدائية وبؤس تلك الصور. أتذكر فيلم ايزنشتاين الرائع من الناحية التقنية "الخط العام"، حيث يتم عرض مسابقة الحصاد الموضبة بشكل احترافي. لا أتذكر شيئا من ذلك الفيلم باستثناء أناس يلوحون بمختلف المناجل بشكل سيئ. كيف نمسك ونمرر إلى المتفرج معنى وعمق تلك المشاهد التي سلبت لبي اليوم مرتين؟ فكرت كثيرا في طريقي إلى البيت، وتقاذفتني الأفكار في مختلف الاتجاهات، تمسكني تارة وترميني أخرى، أجربها ذهنيا فلا تروقني، وأخيرا وجدتها. فهمت أن الملاحظ، الدارس، المستوعب لما يحدث أمامه، عادة ما يقوم ذهنيا بالتصرف في علاقة المكان والزمن. إذ يقرب البعيد ويبطئ السريع، إذ يستطيع النظر بتمعن إلى أشياء بعيدة، ورؤيتها بشكل أفضل من تلك القريبة، هكذا اكتشفت السينما "اللقطة القريبة"، لقطة تمكننا من التركيز على الأهم في الصورة. يمكننا فعل نفس الشيء بالزمن، التركيز على تفصيلة في مسار عملية ما، أقوم نسبيا بعملية إبطاء سرعتها ذهنيا. تذكروا كيف يصف أولئك الذين مروا بتجارب خطيرة وكانوا قريبين من الموت إحساسهم بالزمن. قطار سريع يقترب ليصدمكم، يبدو في آخر لحظة متوقفا أو بطيئا.. "الدقيقة التي تدوم ساعات"، تعبير يعرفه الجميع. حينما يصور المخرج لقطة ما فإنه يقوم بتغيير موقع الكاميرا، تارة يقربها من الممثل وتارة يبعدها، حسب ما يريد لفت انتباه المتفرج إليه – حركة في إطار لقطة عامة أو لقطة كبيرة لوجه الممثل. فهو بهذه الطريقة يتحكم في المكان..السؤال – لماذا لا نقوم بنفس العملية مع الزمن؟ لماذا لا نقوم بعملية تمديد زمني لجزء من حركة ما؟ بجعلها أكثر بطئا ووضوحا على الشاشة؟ ألم أقم ذهنيا بإبطاء عملية ارتطام قطرات المطر بحافة النافذة الإسمنتية وسقوط سيقان الأعشاب على الأرض؟ ألم تساعدني تلك الطريقة على رؤية أكثر مما أراه عادة؟. حاولت ذهنيا أن أصور وأوضب عملية الحصاد على الشكل التالي: -يقف رجل عاري النصف العلوي من جسده، في يده منجل، وقفة، ضربات المنجل (لقطات مصورة بسرعة الكاميرا العادية). - تتابع ضربات المنجل، ظهر الرجل وكتفيه، تتداخل اللقطات، تقلص العضلات وتمددها (لقطات مصورة بسرعة أكبر لكي تبدو بطيئة على الشاشة). - لمعان شفرة المنجل حين ترتفع وتصطدم بأشعة الشمس، فتضيء وتنطفئ، العضلات (لقطات مصورة بسرعة أكبر لكي تبدو بطيئة على الشاشة). - الشفرة وهي تهوي إلى الأسفل (لقطة مصورة بسرعة الكاميرا العادية). - لقطة عامة للرجل وهو يهوى بالمنجل ويرفعه، يهوى به ويرفعه بسرعة عادية. -لحظة قطع الشفرة للعشب، سقوط سيقان العشب، التوائها، انزلاق قطرات المطر إلى الأسفل (لقطات مصورة بسرعة الكاميرا العادية). - تقلص عضلات الظهر وبروز الكتف. - وقوع سيقان العشب في بطء. - ارتفاع المنجل عن العشب في سرعة. - الرجل موجها ضربات المنجل. - لقطة عامة لمجموعة من الحاصدين وهم يقومون بالعملية. - اختفاء تدريجي للرجل وهو يرفع منجله. هذا هو الشكل التقريبي للقطات، بعد التصوير قمت بترتيب اللقطات بشكل مختلف – بشكل أكثر تعقيدا، اشتغلت على اللقطات المصورة بسرعات مختلفة، وسط تلك اللقطات كان هناك تنوع في درجات السرعة. حينما شاهدت تلك اللقطات على الشاشة فهمت أن الفكرة كانت صحيحة، الإيقاع المحصل عليه عبر ترتيب اللقطات المتنوعة من حيت السرعة أعطى مشاهد أكثر عمقا، يمكن أن أقول جعلها أكثر ثراء على الشاشة.. بعض المتفرجين اعترفوا بأنهم أحسوا جسديا بالرطوبة والوزن والقوة. جربت تصوير اللقطات في جو ممطر وتوضيبها، صورت لقطات عامة ولقطات قريبة بمختلف السرعات، ضربات قطرات المطر الثقيلة الأولى وارتطامها بأرض جافة مغبرة، تسقط فتتفرق إلى حبات قاتمة، سقوط حبات المطر على سطح الماء – على شكل ضربات سريعة، يرتفع عمود شفاف، يتقلص ببطء، يختفي في دوائر بطيئة، ترتفع السرعة بموازاة قوة المطر واتساع اللقطة، لقطة شاسعة لشبكة المطر القوي، وفجأة لقطة قريبة لخيط مطر يصطدم بحاجز حجري. تقفز قطرات المطر البراقة، حركتها بطيئة للغاية، نستطيع أن نشاهد لعبة تحليقها المتقاطع الرائع، ومرة أخرى تتسارع الحركة إلا أن قوة المطر تخف، وفي الأخير يتبع ذلك لقطات العشب المبلل تحت المطر، تهزه الرياح، يتحرك العشب بسلاسة، تنفصل قطرات المطر متساقطة إلى الأسفل، تصور تلك الحركة بسرعة كبيرة، وقد أبان لي ذلك أنه بالإمكان تصوير حركة العشب في تفاعلها مع الرياح. أنا على اقتناع تام بضرورة هذه الطريقة، من المهم أن نفهم أهمية وعمق تقنية العرض البطيء، واستغلالها ليس فقط كخدعة بصرية، ولكن كضرورة عقلانية في بعض الحالات، لتسريع الحركة أو إبطائها، يجب التحكم في إمكانيات السرعة، من أعلى سرعة ممكنة للكاميرا (أثناء التصوير) والتي تعطينا حركة بطيئة للغاية على الشاشة، إلى أقل سرعة، وهو ما يمنحنا حركة بالغة السرعة على الشاشة. طريقة عرض بطيء لمشية عادية لإنسان على الشاشة تمنحها ثقلا ومعنى، وهو شيء لا يستطيع الممثل أداءه بعفوية. لقد جربت توضيب انفجار قذيفة عن طريق لصق لقطات مصورة بمختلف السرعات، لقطات بطيئة في البداية، تحليق سريع جدا، ارتفاع خفيف بطيء، انخفاض خفيف للأرض، ثم فجأة تطاير التراب (الأرض) أمام المتفرج، يقطع ذلك لقطات الأحجار تتطاير في بطء شديد، ثقيلة، مرعبة، ثم تتطاير بسرعة. يبدو ذلك مدهشا على الشاشة. يجري استعمال تقنية التصوير السريع منذ زمن بعيد. اللقطات البطيئة على الشاشة تمنحنا إمكانية مشاهدة الأشكال والحركات اللامرئية وغير المادية التي تزخر بها الحياة، والتي تثير دهشة المتفرج. عادة ما يستعمل المخرجون لقطات مصورة بهذه الطريقة في أفلامهم (للتذكير: تزخر اللوحات الفنية برسوم لتفاصيل حركة ما رائعة، وتكون عين الرسام في هذه الحالة بمثابة كاميرا قادرة على التقاط أشد التفاصيل سرعة في الحياة). إلا أن كل المخرجين الذين وظفوا تقنية العرض البطيء، ومن وجهة نظري، لم يفعلوا شيئا واحدا، وهو أهم شيء في العملية برمتها، إذ لم يوظفوا تلك التقنية على مستوى المونتاج، وعلى مستوى الإيقاع العام للفيلم؛ فإذا ما تم تصوير سباق للخيول بتقنية التصوير السريع، فإن المشهد يصور كليا بتلك الطريقة، ويتم في ما بعد وضعه كاملا في الفيلم، كمشهد قائم بذاته. سمعت أن المخرج البولندي جان ابشتاين صور فيلما كاملا بكاميرا سريعة (أعتقد فيلم "سقوط بيت آل آشر"، عن قصة لإدغار آلانبو)، ليتم عرضه بطيئا على الشاشة وهو ما يمنح لقطات الفيلم مسحة من العمق والغموض. (..) أنا لا أتحدث عن ذلك، أتحدث عن مختلف مستويات إبطاء سرعة الحركة، واستخدامها في بناء الجملة الفيلمية على مستوى المونتاج. مقطع قصير مصور بكاميرا سريعة يمكن أن يجد مكانه بين لقطتين طويلتين عاديتين، يمنحنا ذلك إمكانية لفت انتباه المتفرج إلى تفصيلة ما. اللقطات البطيئة على الشاشة لا تكسر واقعية اللقطة، بل تجعلها أكثر عمقا، وهذا ما يميز السينما. حاولت توضيب ضربة يد على الطاولة على الشكل التالي: يد تهوي بسرعة على الطاولة، في اللحظة التي تلامس فيها الطاولة، قطعت اللقطة إلى لقطة كأس على الطاولة، حركة بطيئة لارتجاف الكأس، تمايله، ثم وقوعه على الأرض. هذا التقاطع بين الحركات البطيئة والسريعة يعطي الإحساس بقوة وثقل الضربة. الأحداث الطويلة المعروضة على الشاشة والمصورة بمختلف السرعات تمنحنا إيقاعا خاصا، نفسا خاصا، تجعل الصورة أكثر حيوية، تمنحها نبضا يساعد المتفرج على استيعابها وفهمها..إنها لا تمر كمرور المناظر من نوافذ القطارات أمام الركاب، بل تنمو وتكبر كحكاية يرويها متابع موهوب، يرى ما لا يراه غيره. أنا على يقين أنه يمكن استخدام هذه التقنية في تصوير الإنسان – ملامحه، إيماءاته. أعرف من خلال تجربتي روعة ابتسامة بالعرض البطيء، لقد اقتطعت من تلك اللقطات مقاطع حيث تبتسم العيون فقط، بينما الشفاه لم تبتسم بعد. ل"اللقطة القريبة" مستقبل باهر، خاصة في الأفلام الناطقة، حيث الإيقاع وفي تفاعله مع الصوت يكون بالغ الأهمية. * فسيفولد بودوفكين (1893-1953) أحد كبار السينما السوفيتية ومن أوائل المنظرين العالميين لفن للمونتاج.