في اعتقادي، ما يثير في المشهد السياسي المغربي ما بعد الإعلان الرسمي عن نتائج اقتراع 25 نونبر 2011 هو مرور البلاد إلى مرحلة جديدة متقدمة ديمقراطيا في مسلسل النضال الديمقراطي الذي أعطيت انطلاقته منذ بداية السبعينات. فنضال الشعب المغربي من أجل الديمقراطية، بتضحياته الجسام، وتتويجه بمرحلة انتقالية قادها المجاهد عبد الرحمان اليوسفي ابتداء من 1998، كان له الفضل الكبير في تأهيل الشعب المغربي زمن الحراك العربي ليقول كلمته. لقد عبرت المرحلة عن استفادة المغاربة من مكتسبات سنوات النضال من أجل الديمقراطية (سنوات الرصاص) ومن مرحلة التوافق السياسي. وتتجلى هذه الاستفادة في كون جزء كبير من المغاربة صوت سياسيا يوم 25 نونبر بالرغم من عزوف غالبية الناخبين (55 بالمائة) وحرص رواد الفساد النيل من العملية الانتخابية باستعمال المال الحرام لشراء الذمم. وهنا لا يملك المرء إلا أن يهنئ حزب العدالة والتنمية على النتائج التي حصل عليها. لقد ساهمت مجموعة من العوامل من أن يكون هذا الحزب أكبر مستفيد رمزيا من المسار السياسي للمغرب المستقل وبأقل كلفة، لكن بتميز على مستوى تجربته السياسية زمن التوافق السياسي بمكتسباته في مجالي الحريات والحقوق. إن حصول هذا الحزب على 107 برلماني، وحصول رواده على أكثر من مقعد في العديد من الدوائر الانتخابية، يبرهن أن المغاربة يبحثون اليوم على زعامات من معيار عبد الله إبراهيم، والمهدي بنبركة، وعمر بنجلون، وعبد الرحيم بوعبيد، وعلي يعتة، وعبد الرحمان اليوسفي، وآخرون بصموا بصدق صفحات أحداث تاريخ هذا الشعب بمعارفه الترابية القوية. ونحن نعيش فترة المشاورات من أجل تشكيل الحكومة، برز من جديد اهتمام المغاربة، من طنجة إلى لكويرة، بقرار الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالرغم من حصوله على المرتبة الخامسة ب 39 مقعد فقط. وفتح النقاش من جديد في كل المواقع الالكترونية الإخبارية والمنابر الإعلامية السمعية البصرية والمكتوبة، بشأن الخيارين البارزين في هذه المرحلة (خيار مشاركة الاتحاد في الحكومة وخيار خروجه إلى المعارضة). وكان القرار المتخذ من طرف المكتب السياسي والمجلس الوطني في هذا الشأن منسجما مع متطلبات المرحلة، قرار استحضر في نفس الوقت مصلحة البلاد، ومصلحة مستقبل السياسة، ومصلحة الحزب. بالطبع، هذا الاهتمام والقرار المتخذ (الخروج إلى المعارضة)، في نظري، لم يكونا مفاجئة، بل عبرا عن انسجام تام مع تطلعات وطموحات المغاربة وتمثلاتهم بشأن طبيعة الدولة التي يحلمون استكمال مقوماتها في المستقبل القريب، دولة، بلا شك، بمشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي معالمه تم رسمها مبكرا، وكان الاتحاد الاشتراكي دائما في صلب المعركة من أجل ترسيخه مجتمعيا. الكل يعلم أن هذا الحزب طالب بالديمقراطية والحرية في المجتمع في زمن كانت وظيفة الدولة لا ترى في ذلك إلا محاولات من أجل النيل من الشرعية التقليدية لنظامها المخزني. لقد قاوم الاتحاديون من أجل تحقيق هذا المشروع في زمن كانت الدولة لا تطيق إلا أن تقبل سلطتها بدون نقاش ومهما كان الثمن. لقد عرفت البلاد مواجهة حقيقية بين إرادتين، الأولى مخزنية لا تقبل إلا الخضوع وإملاء التعليمات، بينما كانت الثانية تطرح التساؤلات حول وظيفة الدولة ومستوى ممارسة الحريات الفردية والجماعية، تساؤلات مصدرها مرتبط بالمفهوم الفلسفي للدولة، كتنظيم اجتماعي اصطناعي، لا يمكن أن تكون وظيفتها إلا خدمة الفرد ومساعدته على تحقيق غاياته وغايات جماعته ووطنه. لقد كان أساس النضالات في مرحلة الصراع السياسي هو مساعدة المواطن المغربي على الوعي بحقوقه وواجباته من أجل تحقيق غاياته لكي لا يتيه. لقد كان رواد الاتحاد ومنظريه واعون، أتم الوعي، أن كلما تاه الفرد، وحجبت عنه الغاية التي تفرضها عليه طبيعة كينونته، كلما رفض الدولة واعتبرها سيئة تناهض الهدف الأسمى لوجوده، وكلما تقوى الجانب الأخلاقي في السياسة كلما تقوت شرعية الدولة في حياة المجتمع، وكلما تقوى الجانب الأخلاقي عند الفرد والجماعة كلما ساهم ذلك في بناء منظومة أخلاقية للمجتمع تصبح، عبر مسلسل تراكمي، وسيلة لتبليغ القيم إلى الأجيال المتعاقبة. وفي هذا السياق، كان حلم القوى الحية في الاتحاد، بحركاته المختلفة والمتنوعة وعلى رأسها الحركة الطلابية، هو تحقيق الدولة الديمقراطية المكتملة التي تربي الفرد على الاستغناء عنها وتوجيهه لخدمة ما هو أسمى منها، والذي لا يمكن أن يكون إلا تحقيق ما في البشر من قوة كامنة على تنمية الفكر كأساس لتعميم المعرفة والرفاهية والسعادة. وفي الختام نقول، والاتحاد يقرر الخروج إلى المعارضة، تأكد من جديد أن الروح النضالية الجامعة لمناضليه لا يمكن إلا أن تعبر عن قدرة أجهزته على تحقيق التجانس في المواقف مع أطروحته الإيديولوجية ومتطلبات الواقع السياسي، أطروحة تؤمن أن الفرد بطبيعته خير بطبعه، يعمل، ينتج، يكتشف، يتقدم، وبذلك فهو لا يستحمل الحواجز التي تعرقل طبيعته. إن الدولة في أدبيات الاتحادي لا يمكن أن تكون إلا محفزة للمبادرات، وموسعة لمجال الحريات، ونابذة للاستبداد بشقيه الثقافي والسياسي، وممهدة لطرق السعي، ومشجعة على الكسب وطلب العلم، وداعمة للاجتهاد والابتكار، ومحافظة على الأمن في الداخل، ومساهمة في ديمومة السلم في الخارج، ومدعمة للمهارات الطبيعية المعترف بها دوليا،... الدولة في تمثلات الاتحادي يجب أن يندثر فيها الفساد والعنف والاستبداد بكل أشكاله، والسطو على خيرات البلاد. إنها الدولة، ذات الأهداف المتناغمة مع أهداف المجتمع، التي تركز على الأخلاق والعقل من أجل استغلال الطبيعة بالشكل الذي يساهم في ديمومة التنمية، وتغليب الفضيلة، وتجسيد السلطة العامة الحقيقية، وتقليص التناقض بين الفضيلة والرذيلة، بين الخير والشر، بين العقل والجسم، بين الشهوة والتعقل، بين المصلحة والقيمة. في اعتقادي، لقد تأكد أن الاتحادي لا يمكن أن يقبل، من باب المسؤولية التاريخية، المشاركة في الحكومة تحت ذريعة "إتمام الإصلاحات" حفاظا على "مصلحة البلاد"، والأمر في عمقه لا يكاد يتجاوز المرور من حالة توافقية معينة إلى وضع توافقي جديد تكون فيه السياسة ناقصة حزبيا وثقافيا. المطلوب اليوم، بالنسبة للإتحاد، وهو في المعارضة رسميا، هو الإنصات للمجتمع بالشكل الذي يمكنه من بلورة الاستراتيجيات الناجعة لمواجهة رواد الفكر الأسطوري ومناهضي مسار تقوية كل أشكال مؤسسات الدولة والمجتمع، ومن تم تحقيق التوافق المطلوب بين العقل والأخلاق كأساس لتقوية التنسيق بين أهداف الفرد والجماعة مع الدولة العاقلة العقلانية الأخلاقية. ومن أجل ذلك، تقتضي مصلحة البلاد الحرص الدقيق والدائم على تنزيل روح الدستور الجديد وترسيخه في الممارسات المؤسساتية والمجتمعية، وهذا لن يتأتى إلا في حالة عودة الإتحاد الاشتراكي إلى أمجاده النضالية وتصالحه مع قواعده وأبناءه، أمجاد غمرت السجل التاريخي للبلاد بأحداث لا يمكن أن ينساها المغاربة. وأعتقد، أن الحياد الإيجابي للدولة في تدبيرها للاستحقاقات الانتخابية يجب أن يشكل محفزا لتقوية الإرادات الصادقة لتحقيق التراكمات المطلوبة في مجال تخليق الحياة العامة وتقوية الفعل العمومي وتقويمه من خلال توفر البرلمان على معارضة قوية سياسيا وفكريا يقودها حزب القوات الشعبية، معارضة بخاصيات محفزة على التئام الأسرة الاتحادية أولا، وعلى توحيد اليسار والفعاليات الحداثية ثانيا.