لا أحد يجادل أن المغرب المستقل يعيش اليوم لحظة تاريخية في مساره السياسي. لحظة عرفت إذكاء لوتيرة النقاش العمومي حول أسس الإصلاح الديمقراطي الشامل. الكل يتكلم اليوم عن معيقات التطور السياسي بالبلاد وعن آليات تفعيل الدستور الجديد بالشكل الذي يسرع من وتيرة بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. لكن لاحظنا، من خلال تتبعنا للنقاشات والكتابات في الإعلام المكتوب والسمعي البصري في مناسبات عدة، أن العديد من التحليلات تحاول أن تختزل الأزمة في واقع الأحزاب السياسية وعقم إنتاج النخب بداخلها، وكأن وضعها في النظام السياسي المغربي كان مريحا من الناحيتين المؤسساتية (موقع قوي دستوريا) والمالية (التوفر على ميزانية كافية لضمان نجاعة الفعل التنظيمي في مختلف المستويات الترابية)، ومستقلا عن الدولة بتفاعلاتها وآليات تأثيراتها القوية. إن الموضوعية في التحليل تقتضي في نظرنا تقسيم تاريخ المغرب المستقل إلى أربع مراحل ذات خاصيات متميزة، فرضت أدوارا خاصة للأحزاب السياسية الوطنية : مرحلة ما قبل 1998، ومرحلة 1998 - 2002، ومرحلة 2002 - 2011، ومرحلة ما بعد المصادقة الشعبية على دستور 2011 . فمن دور مقاومة الاستبداد والفساد في سياق دستوري وقانوني لا يطيق الأحزاب المناضلة المستقلة في مرحلة ما قبل التسعينات، دخلت الأحزاب الوطنية في مرحلة النضال من داخل العمل الحكومي ومقاومة جيوب المقاومة ابتداء من 1998، ثم إلى مرحلة الاضطرار للمشاركة في العمل التنفيذي نتيجة الخروج عن المنهجية الديمقراطية، ثم إلى مرحلة المشاركة النقدية نتيجة الركود الذي عرفته الحياة السياسية والذي توج بالعزوف السياسي لأكثر من 67 بالمائة من الكتلة الناخبة بالبلاد في الاستحقاقات التشريعية لسنة 2007 . بالطبع، خلال كل هذه المراحل كلها، لم يكن الموقع الدستوري والقانوني والمالي يسمح بتقوية دور الوساطة الحزبية بين المجتمع والدولة عبر آليات «للتنخيب» ديمقراطية وشفافة ومنصفة للكفاءة والمسؤولية، وفارضة للالتزام الأخلاقي والفكري على أساس الاقتناع بأطروحات إيديولوجية واضحة ومتباينة. ونظرا لهذه الاعتبارات، أصبحت سنة 2011، في اعتقادنا، سنة محورية في تاريخ الدولة المغربية لكونها توجت بدستور جديد وأدوار دستورية في غاية الأهمية للأحزاب السياسية، واختصاصات واسعة نسبيا لرئيس الحكومة وجهازه التنفيذي،... أدوار يجب أن تتيح إمكانية تقوية الدولة على أساس ديمقراطية مترسخة مجتمعيا بأحزاب قوية. والحالة هاته، سيصبح مشروعا مستقبلا ربط تقييم الوضع السياسي العام بأداء الأحزاب، ابتداء من انتخاب البرلمان الجديد (25 نونبر 2011) وتنصيب الحكومة القادمة في البلاد، وسيصبح هذا التقييم أكثر شرعية كلما ابتعدنا عن تاريخ المصادقة الشعبية على دستور 2011، وكلما تقدمنا في توفير الشروط اللازمة لتحقيق أفق بناء مشروع الملكية البرلمانية. نستحضر كل هذه الاعتبارات في التقييم لأننا نؤمن أنه عندما يتم استحضار الروح الوطنية الصادقة في التفكير في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المغربي، لا يمكن للباحث أو المفكر أو المثقف إلا أن يجد نفسه أمام وضع اضطراري للالتزام بالموضوعية والنزاهة الفكرية، وبالتالي الابتعاد الإجباري عن المزايدات وافتعال الأزمات والمراهنة على «الشعبوية» لضمان منافذ في قنوات الموالاة المصلحية. فعندما يتم الحديث عن الديمقراطية مغربيا، لا يمكن تجاوز طرح الإشكاليات المرتبطة بالنضال من أجلها زمن الصراع السياسي الذي تواجه من خلاله وبقوة الفكر المخزني المحافظ، بمنطقه الاستبدادي وبقيمه التقليدية، والفكر الحداثي الطامح لبناء المشروع المجمعي على أساس الحداثة والديمقراطية والحرية. كما لا يمكن أن نتجاهل أن الصراع في هذا الشأن كانت تلعب فيه الدولة المخزنية باستمرار دورا محوريا، حولها إلى طرف قوي، متحكم في موازين القوى، وقادر على ترجيح كفة توجه سياسي عن آخر كلما دعت الضرورة لذلك. وإجمالا، يمكن أن نقول إن الصراع السياسي بالمغرب كان بين مشروعين مجتمعيين يطمح رواد الأول إلى ترسيخ المحافظة والتقليد ودعمهما مؤسساتيا وإعلاميا لضمان استمرار سلطة الدولة المخزنية، والثاني إلى تحرير العقول وتوسيع هامش التفكير والحق في الاختلاف والتحرر من البدع التقليدية المكبلة لحريتي التفكير والتعبير لخلق التراكمات الضرورية لبناء دولة الحق والقانون على أساس الديمقراطية والحداثة. لقد كان الصراع حادا ودمويا بين نظام مخزني مركزي محافظ بأحزاب إدارية موالية وأجهزة قمعية، والمناضلين الشرفاء بالأحزاب الوطنية المعارضة التي لا تستمد قوتها إلا من مساندة القوات الشعبية. حدة هذا الصراع كانت في واقع الأمر تجسيدا واضحا لحدة الخلاف حول منظومة القيم السياسية والثقافية. فمن باب الحتمية التاريخية، لم يكتب لهذا الصراع الاستمرار، بل انتهى بواقع سياسي لا غالب فيه ولا مغلوب، لكن ببلد منهك ومهدد بالسكتة القلبية. وكانت لحظات البحث عن التوافق مليئة بالدروس والعبر السياسية. وتحولت سنة 1998 إلى منعطف فرض إمكانية تحويل التنافس والصراع السياسيين إلى المجتمع مع احتفاظ الدولة المركزية دائما بأدوار ملموسة وقوية، الشيء الذي أعطى الانطباع وكأن المعني الأول والأخير بواقع السياسة وحالها هم الأحزاب. في واقع الأمر، كانت المرحلة زاخرة ظاهريا بالتحولات في المواقف والخطابات المرتبطة بها بدون أن يرقى ذلك إلى تغيير دستوري بقوانين تنظيمية ترسخ شرعية التنافس السياسي بين الأحزاب مع ضمان الحياد الإيجابي للدولة. أكثر من ذلك، ما ميز العهد الجديد من خطابات رسمية، ومن أوراش كبرى في مختلف المجالات، وإصلاحات متتالية، جعل البلاد تعيش منعطفا جديدا برزت من خلاله قضايا وتحليلات وتقييمات جديدة، دفعت العديد من الكتابات إلى تصويب سهامها إلى الأحزاب مجددا بالرغم من الاستمرار في نفس النسق الدستوري السابق. ثم تسجيل هذه المنزلقات في وقت كانت البلاد تحتاج فيه إلى التركيز على توفير الشروط الدستورية والقانونية والمادية والمعنوية لإنضاج منظومة سياسية بتقاطبات حزبية بتوجهات فكرية متناغمة تعطي للعمل التشريعي والتنفيذي مدلولا حقيقيا. أكثر من ذلك، انزلق النقاش بحدة كبيرة إلى قضايا أخرى، كان ولا زال يعتبرها الشعب المغربي من الركائز الأساسية لهويته كأمة مغاربية، واستمرت المراهنة على دعم الوساطات التقليدية بين المجتمع والدولة بأشكال مختلفة هذه المرة، لكن حافظت إلى حد بعيد على منطقها التقليدي في مسألة مشروعية النخب حيث استمر التعامل مع الحقوق وكأنها امتياز يستدعي الحصول عليها التوفر على قنوات معينة في شبكات الولاءات التسلسلية المعقدة، وفتح الباب للموالاة السياسية على أساس العلاقات الفاسدة (استعمال المال الحرام). واستمر الركود السياسي موازاة مع استمرار هذا المنطق بآلياته المتنوعة وبأبعاده الثقافية (تأجيل المحاسبة إلى يوم القيامة، «بني وأعلي سير أخلي»، الحمد لله على أي حال، الله «اكبير»، «لخرج من الدنيا ما اخرج من اعقايبها»،...) . لقد انزلق النقاش لأنه تجاهل أن أساس قوة الديمقراطيات تاريخيا مرتبط بوجود أحزاب قوية دستوريا بتوجهاتها الفكرية المتباينة إيديولوجيا. وعليه، نعتقد في الأخير أن السبيل الوحيد للوصول إلى درجة تحويل قوة الأحزاب السياسية إلى أساس لقوة الدولة والمجتمع، يبقى مرهونا إلى حد كبير بتوفر الإرادة السياسية عند الفاعلين الأساسيين في البلاد لبلورة استراتيجية وطنية محكمة وقابلة للتفعيل لتقوية الدور الدستوري للأحزاب وترسيخه مجتمعيا. فإضافة إلى ضرورة الاجتهاد في تطوير قانون الأحزاب، والقوانين المرتبطة بدعم الديمقراطية والحرية ونجاعة التمثيلية، يحتاج مغرب اليوم إلى ربط الدور التأطيري والإشعاعي الحزبي بتوفير الشروط المادية واللوجيستيكية بالشكل الذي يمكن الأجهزة الحزبية في مختلف المستويات الترابية من لعب الأدوار المنوطة بها دستوريا (مقرات مجهزة في كل الجماعات الترابية، وميزانية كافية، وإدارة حزبية، ووسائل لوجيستيكية حديثة، وموارد بشرية مؤهلة،...). إن تفعيل الدستور الجديد مرتبط أشد الارتباط بمدى تهيئ الظروف المناسبة لتمكين الأحزاب وأجهزتها القيادية الترابية من التوفر على إدارة عصرية قادرة على ضمان التدبير الناجع لمهاماتها التأطيرية والتمثيلية، وتدبير مصالح وطموحات مناضليها المشروعة، وتقوية حوافز الانتماء السياسي، ودمقرطة آليات «التنخيب»، والتواصل، والتفاعل الإيجابي الناجع مع أهم القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مختلف الوحدات الترابية المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية. المطلوب اليوم زمن الحراك العربي من أجل الديمقراطية والحرية هو تحويل طموحات الشباب وحماسهم إلى طاقة لإعادة الاعتبار للحياة السياسية بالمغرب، وخلق الدينامية الضرورية لخلق القطيعة مع ممارسات الماضي عربيا (تحويل الثورات الشبابية إلى أنظمة استبدادية من طرف شباب الستينات أمثال صدام احسين، والأسد، ومبارك، والقدافي، وزين العابدين بنعلي، ...)، ومغربيا (خلق القطيعة مع النسق المغرق بديناصورات متراخية متشبثة بالتقاليد السلطوية التي الفتها في سياق منطق الدولة زمن إدريس البصري). وعندما نتكلم هنا عن الديناصورات لا نربط ذلك بالسن كمعيار، بل نربطه بالتشبث بالكراسي والسلطة بدون التوفر على مشروع سياسي ومجتمعي يتماشى ومتطلبات العصر، ولا أي إستراتيجية لتنشيط حياة سياسية عانت لعقود من التحكم وضعف المصداقية. عندما نثير مسألة «التنخيب» وإنتاج نخب جديدة، نعني بذلك محاربة كل نزعات التوريث السياسي بين الآباء والأبناء وبين العائلات، وفتح المجال، بآليات التحفيز على ممارسة السياسة، لكل المغاربة على قدم المساواة لتحمل المسؤوليات، وخلق التكامل والاندماج المطلوب بين كل الأجيال. إن الآراء والمواقف الصادرة عن مختلف الفئات العمرية (شباب، كهول، شيوخ) يمكن أن تتكامل، ويمكن أن يكون وقعها في اتجاه بناء المغرب الذي نطمح إليه جميعا. وفي هذا المجال، اسمحو لي في ختام هذا المقال أن استحضر رمزية رجل قدم التضحيات الجسام من أجل هذا البلد بدون أن يفكر يوما في ذاته: إنه القائد السياسي عبد الرحيم بوعبيد رحمه الله. تعد رمزيتة السياسية والإنسانية نموذجا يحتذى به بالنسبة لمن عاشروه وبالنسبة للأجيال المتعاقبة في المجتمع المغربي. لقد كان حكيما وإنسانيا في مواقفه، ومحبا لكافة الشعب المغربي ومناضلا حقيقيا من أجل مستقبل أبناء هذه البلاد. هدفه الدائم هو النضال بكل الوسائل الممكنة لبناء مجتمع ديمقراطي حداثي، لا مجتمع أرستقراطي تقليدي. وبهذه المواقف، كان أقرب الناس إليه شابا ليس من صلبه بل أنجبه النضال الشبابي في صفوف حزبه، إنه عبد الهادي خيرات.