إننا اليوم نعيش وضعا بيئيا متدهورا على كافة المستويات، مقابل تدن وقصور على مستوى وعي الأفراد بهذا الوضع، أو بالأحرى بهذا الخطر القائم منذ فترة، والناتج عن التدخل البشري غير المعقلن نحو بيئته، والافتقار إلى ثقافة التدبير والمحافظة على البيئة، في مقابل الجشع الاستهلاكي المفرط وممارسة جميع أشكال النهب والتخريب، سواء تعلق الأمر بالبيئة الطبيعية، أي استنزاف الموارد الطبيعية، أو الناتج عن الأنشطة الاقتصادية، والصناعات الكثيفة بفعل العولمة واقتصاد السوق القائم على تحقيق أعلى نسب الإنتاجية والربح، ناهيك عن الارتفاع المهول لعدد السكان في العشرية الأخيرة، إذ يبلغ حاليا7.6 مليارات نسمة حسب تقرير صادر عن الأممالمتحدة، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 9.8 مليارات نسمة عام 2050، وإلى 11.2 مليار نسمة في 2100 حسب التقرير نفسه. أمام هذا الوضع العالمي الذي مس جميع دول المعمورة بفعل تأثير النموذج العالمي الاقتصادي الموحد، وبفعل التطور الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، أصبح العالم بمثابة قرية صغيرة، إذ إن التأثيرات البيئية عامة والمناخية خاصة، من ارتفاع درجة الحرارة، وثقب الأوزون، وارتفاع نسبة حموضة مياه البحر، وتلوث الفرشة المائية، وزيادة نسبة النفايات في المدن، ونقص المياه الجوفية، وتراجع نسبة الأراضي الزراعية، في مقابل التعمير والتشييد السكني، بالإضافة إلى تزايد الكوارث الطبيعة والأزمات البيئية، من قبيل الفيضانات والأعاصير والزلازل...كل هذه التهديدات القائمة بفعل تغير النظام البيئي لم تعد تستثني بلدا أو قارة دون الأخرى، فالمشكلة البيئية اليوم أصبحت اهتمام جميع الدول، وجميع المنظمات والأحزاب، والأفراد، فهي ظاهرة عابرة للحدود، ملازمة ومستمرة مع استمرار النمط السلوكي للإنسان. وبالرجوع إلى تاريخ التدهور البيئي منذ أن وطأ الإنسان الأرض نجد علاقة جدلية مستمرة بينه وبين البيئة، ومحاولة إخضاع الطبيعة والسيطرة عليها من طرفه، على اعتبار أن هذا التحكم سيخلصه من تأثيرها القاسي والرد العنيف؛ ومع هذه المحاولات استطاع فعلا تطويع الطبيعة وإخضاعها، لكن هل حقق الحماية لنفسه بهذا التطويع على مر التاريخ؟. مع تزايد أصوات المنظمات والهيئات والحكومات العالمية، ومطالبتها المجتمع الدولي بالتدخل والحد من خطورة الكارثة البيئية التي قد تشكل إبادة جماعية للإنسانية في المستقبل إذا ما استمر الإنسان على هذا النحو من السلوك المدمر للنظام البيئي، تمت المصادقة على العديد من الاتفاقيات في عدة مؤتمرات ومحطات دورية تقام سنويا. ومن بين أهم المكاسب في هذا الإطار انبثاق مفهوم التربية البيئية من مؤتمر ستوكهولم عام 1972 حول البيئة البشرية الذي شكل نقطة مهمة في التحول والانتقال إلى الشعور بأهمية الوعي البيئي ومدى مساهمته في الحد والتقليل من التدهور البيئي، وهذا المفهوم أعطى دفعة قوية للاهتمام بالتربية البيئية على المستوى العالمي، فهي القادرة على توجيه سلوك الأفراد وقيمهم نحو تبني مفاهيم المحافظة وحماية البيئة كقيمة اجتماعية لا غنى عنها تدخل ضمن نمط السلوك اليومي للأفراد. والمجتمع المغربي يعاني اليوم كباقي الدول النامية أزمة بيئية خانقة على عدة مستويات، لا يسعنا ذكرها بالكامل في هذا المقام، لكن سنحاول الوقوف على ظاهرة أصبحت اليوم أكثر من أي وقت مضى متفشية وظاهرة للعيان بحكم تزايد نسبتها في المدن والحواضر الكبرى. إن النفايات المنزلية تشكل اليوم تحديا من التحديات الاجتماعية التي تواجه الدولة والمجتمع بشكل عام، فمدينة الدارالبيضاء باعتبارها، أكبر المدن المغربية وأكثرها كثافة سكانية، وصناعة وتجارة، أصبحت أمام وضع فقدت فيه السيطرة على احتواء الظاهرة، وتوفير أحياء سكنية نظيفة خالية من القمامة وما يصاحبها من روائح وعصارة، تؤثر على صحة الساكنة بما تنقله من أمراض، وخاصة بالنسبة للأطفال الصغار، وأيضا تبعث مشاعر الاشمئزاز والتهكم على الوضع الاجتماعي. وقد تتحول هذه المشاعر إلى نوع من العدوانية والانتقام لدى العديد من الأفراد كرد فعل ملازم لمظاهر القمامة، بحكم أنهم لا يتوفرون على أدنى شروط العيش، فالشارع النظيف والحي النظيف والمجتمع النظيف حق مشروع لكل مواطن مغربي. ورغم الميزانية الضخمة التي خصصت للنهوض بقطاع النفايات في العاصمة الاقتصادية، والتي قدرت ب100 مليار سنتيم حسب قرار مجلس مدينة الدارالبيضاء، ورغم المجهودات المبذولة للنهوض بجودة قطاع النظافة، من دعم مادي، ولوجستيكي، واقتناء آليات وشاحنات جد متطورة، وإدخال التكنولوجيا وغيرها من التقنية، سيظل هذا القطاع يحصد الفشل سنة تلوى الأخرى. إن ظاهرة تراكم القمامة في الشوارع والأحياء الحضرية مشكلة سوسيوثقافية بالأساس، مرتبطة بالثقافة والسلوك الاجتماعي للفرد؛ وبالتالي على كل منا الرجوع إلى أسرته وإلى وسطه وإلى نفسه، وتأمل الطريقة والكيفية والأسلوب والنهج الذي يقوم عليه سلوكنا تجاه نفاياتنا المنزلية، وما هي نظرتنا تجاه النفاية بشكل عام، وهل لنا وعي بما يمكننا جنيه ماديا واجتماعيا وبيئيا لو غيرنا سلوكنا هذا. العديد من الأفراد لهم سلوكيات لا مسؤولة ولا واعية بدرجة الضرر الذي يسببونه بفعل تعاملهم اللاعقلاني مع النفايات المنزلية..ليس هناك وقت محدد لإخراج القمامة المنزلية، فأحيانا ألاحظ أن العديد من الأشخاص يتخلصون منها بعد فترة قصيرة من مرور شاحنة النظافة، وهناك من يضعها في أي مكان وأي رقعة، المهم هو التخلص ولا يهم الباقي.. كما أن العديد من الأسر تكلف الأطفال، والطفل قد يتخلص منها بأي طريقة، وقد يضعها جانب الحاوية بفعل أنه لا يصل إليها؛ ناهيك عن الجمع العشوائي من طرف ربات البيوت للنفايات، إذ نجد الأطعمة والمواد الحادة والزيوت وبقايا الأدوية مختلطة، وهذه العملية التي تبدو بسيطة قد تسبب عاهات ووفيات في صفوف الفئة المرتادة على القمامة، والتي تعيش منها أسر كثيرة بالمغرب. والأخطر من ذلك أن هناك من يقوم برمي النفايات من نافذة منزله، وهو سلوك موجود رغم غرابته لدى البعض، بالإضافة إلى سلوكيات أخرى نشاهدها جميعا في الشارع، في طرق السيار، في النقل العمومي، في ملاعب كرة القدم، في النقل المدرسي... إن هذه السلوكيات التي تم الوقوف على بعضها تعود بالدرجة الأولى إلى ضعف التربية البيئية من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، فالمقررات والمناهج الدراسية تمر على موضوع البيئة مرور الكرام كمادة تقنية طبيعية، لكن لا تمس عمق ومضمون حماية البيئة، باعتبار الإنسان جزءا لا يتجزأ من الطبيعة، وبالمحافظة عليها نحافظ على العنصر البشري. هذا ما يجب أن ينشأ عليه التلميذ وأن يستدمج قيما بيئية تظهر في سلوكه ويمارسها بشكل يومي في حياته. وبالنظر أيضا إلى البرامج والإعلانات والنشرات والوصلات الإشهارية التي تبرمج محاور بيئية، فهي قليلة وشبه منعدمة، ويتم إدراجها في مناسبات معينة، كدخول فصل الصيف، إذ يتم بث بعض الإعلانات المرتبطة بالمحافظة على نظافة الشاطئ، أو إعلانات بمناسبة عيد الأضحى. هذه المادة الإعلانية غير كافية لزرع تربية بيئية سليمة، لأنها مادة موسمية، ولا تعتمد على متخصصين في المجال.. قد يقوم أي صحافي بتنشيط المادة، ما يجعلها باهتة وسطحية، خاصة أن الموضوع يحتاج إلى شخص له قدرة على تحليل وتفكيك الظاهرة البيئية، والرجوع بها إلى السلوك الفردي وإلى القيم الاجتماعية المتوارثة، وليس الوقوف على مسببات الظاهرة العامة. ثم يجب أن تكون المواكبة الإعلامية وتعريفها وتناولها للقضايا البيئية الراهنة بشكل مستمر، فحتى في مواقع التواصل لا نجد منشورات بالكم الذي نجده في قضايا أخرى، وكأن المشكلة البيئية لا تعنينا. ما يمكن أن نخلص إليه في هذا المقام هو أن الإشكالات البيئية بشكل عام ناتجة عن السلوكيات اللاعقلانية المتوارثة، ثم عن قيم الهيمنة والسيطرة والتحكم والإخضاع؛ وما دامت هذه القيم مستمرة فلا مستقبل لمعالجة الظاهرة والحد من الكارثة إلا بالرجوع إلى أصل المشكل ومحاولة ترميمه وإصلاحه، بالرجوع إلى التنشئة والتربية البيئية، إلى زرع قيم البيئة وزرع ثقافة أن الإنسان جزء من النظام وليس مركزه، وأن أي اختلال في التوازن هو تهديد بدرجة أولى لمقومات الحياة على الكرة الأرضية.