يعتبر ابن خلدون من المفكرين الأوائل الذين كان لهم السبق في تفسير وتحليل عناصر قيام ونهضة أي مجتمع (الدول) وكذا عوامل سقوطها وانحدارها، ويرى عدد من المفكرين والباحثين أن النظرة الخلدونية الرائدة تنطبق على أي تنظيم أو جماعة أو حزب.1 ويعد حزب العدالة والتنمية المغربي من التنظيمات التي قطعت إلى هذه اللحظة أشواطا من تلكم المراحل التي نص عليها ابن خلدون في تفسيره لفلسفة التاريخ. هنا يحق لنا أن نتساءل هل فعلا تنطبق النظرية الخلدونية على العدالة والتنمية ؟ وهل حتمية السقوط تنتظر هذا التنظيم الذي استطاع تجاوز اختبار السابع من أكتوبر من سنة 2016؟ ملامح نظرية ابن خلدون لم يكتفي المؤرخ ابن خلدون بسرد الأحداث التاريخية للأمم والدول بل كان أول من قرأ التاريخ قراءة مختلفة محللا أسباب صعود وأفول الدول والأمم، وقد لعبت العصبية في نظر ابن خلدون الدور المحوري في قيام الدول وكانت الدافع المهم في تعبئة الموارد البشرية أساس أي نهضة. والعصبية هي تلك الرابطة القائمة على الدم والعرق التي تجمع الأفراد، وقد وسع عدد من المفكرين مفهوم العصبية بإعطائها دلالات أخرى أعم وأعمق، يقول المفكر محمد عابد الجابري أن العصبية : " رابطة اجتماعية نفسية تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية والمعنوية ربطا مستمرا يشتد عندما يكون هناك خطرا يهددهم " ويضيف في موضع آخر أن : " الأساس الحقيقي والفعلي الذي تقوم عليه العصبية هو شئ آخر غير النسب، حقيقيا أو وهميا ، إنه بعبارة واضحة: المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة "2. ويضيف ابن خلدون الدعوة الدينية كعنصر أخر للعصبية في النهضة، فهي التي " تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبة "3، فالدعوة الدينية تهذب وتنقي شوائب التعصب التي يمكن أن تفرزها العصبية وتستثمر إيجابياتها. وفي تحليله لأسباب سقوط الأمم والدول حدد ابن خلدون سببين مباشرين: الخضوع والانقياد: يعتبره ابن خلدون أول سبب لزوال الأمم والدول، فالمذلة والانقياد حسب تعبير ابن خلدون " كاسران لسورة العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فمارئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة"4. فنهاية أي تنظيم أو كيان يبدأ عندما يفقد التنظيم حريته " من كل سلطة خارجية، سواء كانت سلطة الدولة أو سلطة عصبية غالبة مستبدة، وسواء كانت هذه السلطة تحكمها في النفوس أو استغلالا للخيرات والأموال بوجه من وجوه الاستغلال"5 انغماس القادة في النعيم والترف : يضيف ابن خلدون إلى عامل الانقياد والخضوع عامل آخر، وجوده يؤدي لا محالة إلى أفول وسقوط الدول، فانغماس القادة والمؤسسين في الترف وملذات الحياة تضعف الرابطة الاجتماعية (العصبية عن ابن خلدون) التي تقوم عليها أي نهضة، فالقادة المنغمسون في الترف والملذات " يستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقا لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض"6 نظرية ابن خلدون والأحزاب بعد أن ذكرنا ملامح نظرية ابن خلدون بشيء من الاختصار سنعود مرة أخرى محاولين الإجابة على السؤال الذي افتتحنا به المقالة، هل تنطبق نظرية ابن خلدون على الأحزاب؟ باعتبارها تنظيمات تنطلق بفكرة ودعوة جامعة بين أفرادها كما تفعل العصبية عند ابن خلدون، دعوة تتولى تعبئة الموارد البشرية التي تسعى بدورها إلى تحقيق الأهداف المشتركة، فصَرحُ أي تنظيم سياسي يبنى على أساس رابطة اجتماعية، نفسية وفكرية بين أعضائها. فما يقال على الدول والأمم ينطبق كذلك على المؤسسات والأحزاب، فهي تهرم بعد النضج والفتوة والحماس، وإذا انخفض " سقف الأهداف وتقل حدة الفكرة ووضوحها، وتخبو جذوة الشباب والحيوية أضف إلى ذلك بُعد الأتباع عن الحركة وانغماسهم في أمور الدنيا مما يضعف الرابطة (العصبية) إما لغياب الهدف المشترك، أو لعدم السعي لتحقيقه من خلال إعاقات نفسية، وغلبة أمور الحياة والمعشية على التفكير"7. مثال : حزب العدالة والتنمية وما وقع لحزب العدالة والتنمية بعد التشريعات النيابية 2016 من أحداث مرورا ب "البلوكاج السياسي" واستبعاد أمينه العام السابق عن رئاسة الحكومة إلى قبوله مرغما بشروط تشكيل الحكومة، أمور دفعت البعض إلى القول بأن الحزب الحاكم بالمغرب دخل فعليا في مرحلة التراجع والأفول، بعد أن وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه حزب سياسي في المغرب وهو رئاسة الحكومة. وهنا سنحاول استعارة منهج ابن خلدون للوقف عند أسباب هذا التراجع إن اعتبر أصلا تراجع ونكوص. انغماس القادة في الترف: يمكن الجزم في هذه النقطة والقول أن زعماء الحزب وقادته السياسيين لم يتحقق فيهم هذا الشرط، فلم يراكموا الثروات والأموال خلال توليتهم مناصب المسؤولية، والجميع يشهد لهم بنظافة اليد، ويكفي أن نورد مثالين في هذا الباب الأول القيادي الراحل عبد الله باها وزير الدولة سابقا الذي لم يخلف بعد موت أكثر من 15 الآلف درهم في حسابه البنكي. والمثال الثاني زعيم الحزب ورئيس الحكومة السابقة عبد الإله بن كيران الذي اضطر بعد استبعاده من رئاسة الحكومة إلى البحث عن عمل قبل أن يتدخل عاهل البلاد بمنحه تقاعد استثنائي يليق برئيس حكومة سابق. وعلى العموم فجل الانتقادات التي توجه لحزب العدالة والتنمية لا تمس نظافة يد أعضائه أو تهم الثراء الفاحش وما إلى ذلك من مظاهر الاغتناء غير المشروع، لذا فعامل انغماس القادة والمؤسسين في الترف والنعيم سبب مستبعد في أفول نجم الحزب. أما توفر العامل الثاني المتمثل في الانقياد والخضوع، يمكن أن يكون وارد في هذه التجربة، فتشكيل الحكومة بعد الاستحقاقات التشريعية الأخيرة، يعتبر امتحانا حقيقيا لحزب العدالة والتنمية. النجاح الذي خرج به الحزب من معركة الانتخابات، قابله فشل في تشكيل الحكومة بالشكل الذي يريده، حيث سعى أمينه العام السابق عبد الإله بن كيران إلى تشكيل حكومة من منطلق المنتصر والمتغلب، إلا أن الواقع السياسي فرض عليه شروط أخرى لم يتوقعها، شروط مرتبطة بطبيعة الأحزاب التي ستشكل الأغلبية وكذا نوع الحقائب الوزارية التي سيتولاها كل حزب، فلم يسعفه أزيد من مليون صوت في فرض شروطه، بل أكثر من ذلك تم إبعاده من اللعبة السياسية بشكل نهائي، ليقبل في النهاية رئيس مجلسه الوطني آنذاك سعد الدين العثماني والمكلف بتشكيل الحكومة ما رفضه سلفه وجزء كبير من مناضلي الحزب وأعضائه ومن ورائهم شريحة هامة من المغاربة ممن اعتبر هذا الحدث مساسا خطيرا بالمسلسل الديمقراطي الذي انخرط فيه المغرب منذ سنوات. ليبقى السؤال المطروح هل قبول شروط تشكيل الحكومة بتلك الطريقة يعتبر نوعا من الخضوع والانقياد من المنظور الخلدوني، وبالتالي مظهرا من مظاهر أفول نجم حزب العدالة والتنمية؟ بعيدا عن منطق حشد التبريرات، ولتحليل موقف حزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة سنعود لمرتكزات هذا الحزب ولأفكاره المؤسسة للمشروع الذي يحمله والتي تقوم عليها الرابطة الاجتماعية ( العصبية) للحزب. المرتكز الذي يمكن أن يفسر به هذا الموقف هو : مبدأ التدرج في إقرار الإصلاح، وهو مبدأ ما فتىء يردده منظري وقادة الحزب ومرتكز أصيل في الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح الحاضنة الأولى لمشروع حزب العدالة والتنمية، ثم مبدأ إعمال القواعد الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وهي القواعد التي توجب مواجهة المنكر أو تمنعه بحسب المآلات التي تنتهي إليها تغييره"8. هي مبادئ ربما تفسر موقف حزب العدالة والتنمية في قبول الشروط المفروضة لتشكيل الحكومة الأخيرة وغيرها من المواقف التي تظهر الحزب في موقع الخضوع والانقياد، على اعتبار أن تلك المرتكزات هي الرابطة الفكرية (العصبية بمفهوم ابن خلدون) التي تعاقد عليها أعضاء الحزب، والتي يبدو أنها ما زالت تسعفه في ظل طبيعة التدبير بالمغرب. لكن بالنسبة للمواطن المغربي العادي الذي لا تهمه أكثر تلك الرابطة بقدر ما يهمه ما يقدمه وسيقدمه الحزب انطلاقا من موقعه التدبيري، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية ( تشغيل، تعليم وصحة ...) والذي سيكون موقفه من حصيلة حزب العدالة والتنمية خلال الاستحقاقات الانتخابية القادمة الفيصل في الحكم على التجربة الحالية. انظر : فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، محمد عابد الجابري. نفسه. مقدمة ابن خلدون: الصفحة: 129. نفسه الصفحة: 114. فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، محمد عابد الجابري، الصفحة: 184. مقدمة ابن خلدون: الصفحة: 114. د. جاسم سلطان، الفكر الاستراتيجي للتاريخ ص:49. الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح ص: 33.