يعدّ الفنان المبدع عادل الصافي أحد رواد الفن التشكيلي في المغرب، والذي نجح في ابتكار طريقة اشتغاله الخاصة به، بعدما راكم تجربة طويلة في الإبداع، تجاوزت عشرين عاماً من العمل الجاد والمتواصل داخل ورشاته الفنية وفي أثناء رحلاته المتعددة وعلاقاته الطيبة مع كثير من الفنانين والمثقفين، في المغرب وخارجه، واستطاع بفضل نوعية أعماله الوصول إلى العالمية عبر الانخراط في معارض تشكيلية جماعية يشارك فيها جنسيات مختلفة ومن مدارس فنية متعددة، الشيء الذي يجعلنا نؤكد أنَّ هذه التجربة التشكيلية تستحق الدراسة والبحث لما تحمله من دلالات ورؤى جديدة وعوالم إبداعية منفتحة على التراث ومتصالحة مع الذات والواقع وفي الآن نفسه تشقّ طريقها نحو المستقبل بثقة وأناة وصبر. يوظّف الفنان التشكيلي عادل الصافي في كثير من لوحاته الفنية أبعاداً فكرية وجمالية لها مرجعيات ثقافية دينية وإنسانية وخاصة البُعد العِرفاني إلى جانب المشترك الكوني، مع ما يقتضيه ذلك من قراءات معمقة وبحث واسع واطلاع كبير على الآداب والثقافات العالمية، ويبدو أنَّ هذا الجهد يقف وراءه طموح كبير وتحدّ لكل العوائق والصعوبات، لأنه ليس من السهل الانتقال من التجريب إلى التنظير، ومن التنظير إلى التقعيد، ولذلك فإن نجاح هذا الفنان كان ثمرة عمل كبير استغرق سنوات طوال. إنَّ نزوع الفنان التشكيلي عادل الصافي نحو توظيف البُعد العرفاني في لوحاته التشكيلية، لم يكن استكشافاً أو رغبةً في التجديد فحسب، وإنما هو نزوع أصيل عنده، حيث ينتمي إلى منطقة صوفية في نواحي إقليمتاونات، شمال وسط المغرب، وتحديدا زاوية مولاي بوشتى الخمار، التي تعتبر مسقط رأسه ومهوى قلبه، وأيضاً ساعَدَهُ على خوض هذه المغامرة الإبداعية قراءاته المتعددة في التصوف واهتماماته الفلسفية، وانشغالاته الثقافية والفكرية، وأيضا خبراته الفنية التي راكمها من خلال التكوينات التي تلقاها والمشاركات المتعددة في المعارض الفنية والورشات الإبداعية داخل الوطن وخارجه، كلُّ ذلك أسهم في نضج هذه التجربة التشكيلية المغربية التي تستحق الاهتمام والتقدير، وتبدو تجربةً إبداعية فريدة من نوعها، فما الإضافة الجمالية التي منحها العرفان الصوفي للفن التشكيلي عند هذا الفنان المبدع؟ وما طبيعة اللوحة العرفانية عند الفنان عادل الصافي؟ إذا كان الحجر مادة النحت، والأصوات مادة الموسيقى، والألوان مادة الرسم، فإن الفنان عادل الصافي قد وظّف خامة التراب/الطين في لوحاته، وليس التراب مجرد مادة هامدة كالحجر أو صدى يزول كالصوت، وإنما هو حيُّ مثل الماء/اللون، بل هو أصل البشرية، ومادة وجودها، ولذلك فالتراب في لوحات عادل الصافي مشحون بمعاني صوفية أصيلة، ولكم يكن اختياره للتراب عفويا، وإنما كان أمرا مقصودا لخلق أجواء السفر المقدس في أصل الحياة، فنراه يبني ألفة مع التراب وحنينا أبديا، فيعيش حالات الأنس في مقام الفن، حيث لا سلطة إلا للمطلق والقدسي، ليصبح التراب لغة من اللغات الإنسانية العالمية، وبدل أن يكتب المبدع تلك اللغة أي تجربته، يحدث العكس، فتصير اللوحة التشكيلة هي من ترسم المبدع وتنفخ فيه من روحها، لأن وجود التراب أسبق من وجود المبدع، حيث خلود التراب في الأزل باعتباره اللغة الأولى للوجود البشري، أي الاتصال الأول بالحياة، فيتشكّل المعنى في لحظات الفيض، ليكون علامة على الجمال الأبدي لمبدع الكون، وإحساسا بدهشة المعرفة، ولذة الوصال، وأُنس المُشاهدة. إن ما يثير الانتباه في لوحات الفنان التشكيلي عادل الصافي هو اقتحامه لعوالم روحية ذات طبيعة صوفية تستمد من التراث العِرفاني كثيرا من سماتها الدلالية ومعانيها الرمزية، إن التصوف باعتماده سبيلَ الكشفِ والمشاهدة القلبية في بلوغ الحقائق، فهو بذلك يكسر أفق انتظار المتلقي، بتحييره وإدهاشه وإرباكه، بسبب غرابة اللغة/المادة التي يوظفها والتي تحفل بالإشارات والرموز وتحتاج في فك شفرتها، ليس إلى خبير في اللغة وإنما إلى متلقٍ مرهف الشعور، يمتلك الذوق أو يعيش التجربة الصوفية ذاتها؛ ففي التصوف يتحول الكلام إلى صمت، والبيان إلى إخفاء، والوضوح إلى غموض، والكشف إلى حجب، والبناء إلى هدم، ويصبح التنبيه بالإشارة لا البوح بالعبارة منهجا في التواصل وفي نقل الأفكار والأشواق، وكذلك الإبداع التشكيلي عند عادل الصافي يتقاطع مع العِرفان الصُّوفي في التعويل على الرمز والخيال الخلاق، فتصبح للألوان وللأشكال الهندسية دلالات محددة لا تُعْرَفُ إلا من خلال ما يحفل به التراث العرفاني من معاني قد تضيق عن حملها اللغة، فلا تسعها إلا الألوان؛ فالأصفر دال على السرور والصفاء والنور، والأخضر قوة الحضور أو الحضرة في حلقات الذكر حيث الاستمداد على قدر الاستعداد، وكلما زاد الذاكر في الأعداد، ارتفع منسوب الواردات والفتوحات الربانية والمواهب القُدسية، فَتُوهَبُ الحياةُ للأشياء لتصبحَ ناطقةً بألوان الجمال المبهر والجلال المهيب والحيرة العظمى، كما قيل: عَيْنٌ وَلاَ بَصَرٌ عِلْمٌ وَلاَ خَبَرٌ ** فِعْلٌ وَلاَ أَثَرٌ غَابَتْ مَعَالِمُه حيث تختفي الكلمات لتحل محلها المعاني متدفقة كالشلال، منسابة بعذوبة كالماء الزلال، وعلى الرغم من بساطة الأشكال الموظفة (المربعات والمثلثات..)، وسهولة الحصول على المواد المستعملة (التراب..)، فإن التشكيل المبدع برؤية العارف المُحِبّ، أضفى عليها سحرا بديعاً، كما خلقَ من فضاء اللوحة كونا جديدا له قوانينه التي لا تشبه بالضرورة قوانين عالمنا الحسي، لأنه يستمد من العوالم الأخرى الخفية ما يجعله يسمو فوق كل الحواس وفوق كل النظريات. إن توظيف الفنان التشكيلي عادل الصافي للتصوف العرفاني، لم تكن الغاية منه خرق المألوف، بقدر ما كانت الغاية هي دفع المتلقي للسفر في عوالم التصوف عبر مقامات الألوان ودمج الأشكال الممزوجة بالتراب، وتقاطع الخطوط، ويتطلب إدراك هذه الدلالات العميقة بَذْلُ الجُهد في التأويل، فكما أن المتصوف لا يعرض الحقائق دفعة واحدة أمام الخلائق، وإنما يخفيها وراء الرموز ويبنيها طوبا طوباَ عبر المجاهدة والمعاناة، فإن اللوحات التشكيلية العِرفانية عند عادل الصّافي، باعتمادها لكثير من إشارات التصوف في اللون والشكل، عَمَدَتْ إلى إخفاء بعض المعاني القدسية، بحثا عن المُشِاهِدِ المتذوق الذي يصبر على النظر المتأني، فلا يغادر مكانه حتى ينكشف المعنى أمامه عاريا في لحظة إشراق وصفاء، فيستحق ثمرة تأمله وتألّمه، إن المعنى النفيس عندما يكون صيدا جاهزا للاستهلاك، يكون مصيره الإهمال والنسيان، إذ لا يتجاوز أثره لحظة الرؤية السطحية، ولا تتجاوز لذته زمن المشاهدة وإمتاع العين، حيث لا صدى له ولا ذاكرة ولا إلهام، أما اللوحة التشكيلية العِرفانية باعتبارها بوحًا صوفيا، بل تجربة صوفية في حد ذاتها؛ فهي تريد متلقيا "مريدا" ومُحِبّاً يمارس نزع المألوف من فكره وبصره، فيتجرد من كل خلفية مسبقة، ليلج عالم الحقائق مستحضرا قدسية المعنى الجليل، فيرى اللوحة بالبصيرة لا البصر، وعبر الألوان والأشكال، يسافر في المقامات، فيخرج بعد سفره في اللوحات شخصا آخر، لا يشبه الأول، وتكون ولادته من رحم اللوحة الأم: تلك التي أنشأته من تراب، لتتملكه الحكمة الصوفية فيسكنه العشق الأزلي لخالقه، وينخرط في الجذبة أو في سكر دائم لا يصحو، إلا ليتأمل لوحة فنية جديدة، يعرف مسبقا أنها لا تشبه اللوحة الأولى ولا الثانية..، وإذا تشابهت اللوحات جميعها في الرموز، فالمعاني مختلفة بالضرورة، ولذلك قد نجد تشابها في بعض اللوحات التشكيلية عند الفنان عادل الصافي، ولكن عند تأمّلها يظهر اختلاف الدلالات، فبِقَدْرِ ما تتسع الرؤيا، تضيق الأشكال الهندسية وتصغر وتتداخل وتتباعد، ولكنها في قوة تأثيرها كالنواة التي تنشطر فتُحْدِثُ الانفجار الكبير، حيث لا تنفد جماليات الفن عندما يلتقي مع العرفان الصوفي، ولا يرتوي المتلقي، كما قيل: شربتُ الحُبَّ كأسا بعد كأسٍ ** فَما نَفد الشَّراب وما رويتُ بِقَدْرِ عظمة المعنى الصوفي وقدسيته، تستمد اللوحة التشكيلية عند المبدع عادل الصافي قيمتها وهيبتها، فالفن عندما يلتقي بالروحانيات، لا يصبح مجرد بوحٍ وكشفٍ وتعبيرٍ، وإنما هو أساسا جزء لا يتجزأ من تجربة الحياة، ويغدو رسالة نبيلة في حد ذاته، وهنا تكمن القيمة الجمالية لما أنجزه الفنان عادل الصافي، وهذا يعني أيضا أن الفن التشكيلي في المغرب يمكن أن يحقق بُعداً إنسانيا عميقا عندما يوظف التراث العِرفاني والروحي، الذي يتأسس على التواصل والمحبة والتسامح وقبول الآخر، وغير ذلك من القيم الإنسانية السامية التي تزخر بها الثقافة المغربية في بُعدها الروحي العِرفاني، والتي يمكن أن تشكل دبلوماسية موازية مؤهلة للحوار الحضاري مع شعوب العالم، بلغة كونية تخاطب القلب والروح وتربي الذوق والإحساس بالحياة، وللمغرب ريادة في هذا المجال لا تخفى على الدارسين، فإذا كان الشرق بلدا للأنبياء فإن المغرب بلدٌ للأولياء، وكما أن الفنّ ينبع من الروح المتذوقة للوجود، فإن العرفان الصوفي ينبع من اتصال هذه الروح بالعوالم الأخرى الباطنة وغير المرئية للعيان، وهنا يتكامل التشكيل الفني مع العرفان الصوفي ليؤسسا معاً لوحات من الجمال الفائق البهاء. أخيراً، يمكن النظر إلى اللوحة العرفانية عند الفنان التشكيلي عادل الصافي، باعتبارها نصّاً إبداعيا فريدا، له لغته الإبداعية الخاصة، حيث يزاوج بين رؤية العين ورؤيا القلب، وهي كلغة الشعر لا تستقر على معنىً بعينه، وإنما تنفتح دلالات أشيائها وموادها على كل الاحتمالات الممكنة، خاصة وأنَّ تلك اللوحات التشكيلية تستند في مرجعياتها إلى أصول فلسفية وثقافية وعرفانية وإنسانية، فتحمل منظوراً معيناً نحو الحياة والكون والوجود والواقع، وتحتاج في فك شفرتها إلى متذوق خبير أو قارئ * أستاذ باحث في التصوف والنقد والجماليات [email protected]