بين أرشيفٍ شاهدٍ على تمثيل دبلوماسي وعيونِ مؤرخٍ لازالت السياسة الخارجية الأمريكية بجدل كبير في أوساط الباحثين والدبلوماسيين منذ نشأة دولة الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ وعليه، خلافاً لِما يعتقد الكثير، ليس سهلا إبداء الرأي حول ما هو تاريخي سياسي اقتصادي وعلائقي ذي صلة، اللهم من هم بمعرفة علمية غير مدرسية من دارسين وباحثين ومهتمين. سياق جاء فيه مؤلف يحق ترتيبه الأول إن شكلا منهجا وتيمةً أو من حيث تناوله قضية العلاقات المغربية الأمريكية ضمن تاريخيتها وتمثيليتها الدبلوماسية، بعيداً عما هو حشو وتفاعلات ووقائع مفتوحة ومتغيرات شبه مألوفة. كتاب مرجع موسوم ب"العلاقات المغربية الأمريكية.. دراسة في التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب"، وقد صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط ضمن طبعة أولى بحوالي ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، للباحث الدكتور محمد بنهاشم، عن كلية الآداب والعلوم الانسانية بفاس. وبقدر ما ارتبطت مساحة هامة من تاريخ المغرب بالخارج بحكم مصالح الدول، وهو ما جعل تاريخه معها منذ أقدم العصور تاريخ مواجهات وأزمات وحروب، بقدر ما موقع البلاد الجغرافي في بعديه الأطلسي والمتوسطي جعل منها نقطة تقاطع مصالح أجنبية وحلبة صراع بالنسبة لها. قراءة تاريخية استهل بها المؤلِّفُ تقديما مركبا لكتابه، مشيرا إلى أن الدول الأروبية سعت منذ بداية العصر الحديث إلى استعمار المغرب وفرض وصاية عليه، ولعله ما ظهر وتأكد خلال الفترة المعاصرة، آخذا مشروعيته مما تم توقيعه معه من اتفاقيات ومواثيق دولية بشأنه. وكانت كافة جهود المغرب ومحاولاته لاستغلال الوضع من أجل إطالة وتمديد عمر استقلاله قد باءت بالفشل، إذ لم تكن فرنسا التي استعمرت الجزائر مستعدة للتخلي عنه لفائدة أي قوة أخرى، وكانت مستعدة للقيام بكل شيء من أجل ذلك، ورغم كل وسائلها لإبعاد خصومها اعتمادا على الترغيب والترهيب لم تستطع إلغاء الرهن أو الضمانة الدولية عنه؛ وهذا ما استغلته الولاياتالمتحدةالأمريكية - يرى المؤلف- للدفاع عن مشروعية وجودها به، والتي حصلت عليها بفعل معاهداتها معه والأوفاق الدولية الموقعة بشأنه. ورغم كل هذا الوقع والوقائع في علاقة المغرب التاريخي بالخارج، يظهر أن العلاقات المغربية الأمريكية لم تحظ بنفس العناية والدراسة والبحث والتحليل مثل ما أحيطت به علاقات المغرب مع أوروبا من قبل الباحثين والمؤرخين؛ علما أن البلد كان أول قطر إسلامي وعربي ربط علاقات مع الولاياتالمتحدة، إلى درجة كادت تجعله طرفا في قضايا أمريكية، كما بالنسبة للحرب الأهلية والحرب الأمريكية الإسبانية حول جزيرة كوبا. هذا إضافة إلى كون المغرب كان مجالا لتطبيق مبدأين من أهم مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية، هما مبدأ مونرو والباب المفتوح، ثم منطقة لأكبر إنزال في شمال إفريقيا ضد دول المحور، قبل أن يتحول إلى واجهة لحرب باردة ضد المد الشيوعي بشمال إفريقيا، وحليف إستراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية؛ مع أهمية الإشارة إلى أن سنة 1786 كانت هي تاريخ توقيع أول معاهدة صداقة وسلم بين البلدين. في مؤَلَّف "العلاقات المغربية الأمريكية..دراسة في التمثيل الدبلوماسي"، تتبع المؤلِّف مسار بدايات الوجود الأمريكي في حوض المتوسط، منذ أن كانت الولاياتالمتحدة مستعمرة بريطانية، إلى غاية عقدها لاتفاقية سلم مع المغرب في يونيو 1786؛ مع تركيز ه في عمله العلمي الأكاديمي على زمن السلطان محمد بن عبد الله، الذي فتح فيه المجال لدخول الأمريكيين الى الموانئ المغربية، وعلى فترة المولى سليمان التي شهدت تعيين أول قنصل أمريكي بالمغرب. هذا دون إغفال الحديث عن طبيعة العلاقات الأمريكية مع باقي بلدان الشمال الإفريقي، على أساس أن العلاقات المغربية الأمريكية لا يمكن فهمها دون إطارها المجالي المتوسطي والشمال الإفريقي. وجاء في هذا المؤلف، الذي يعد مرجعا هاما للباحثين في العلاقات الدولية، أن نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر شكلت بداية لسياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية الخارجية، والتي كان من أول مبادئها مبدأ مونرو. الفترة التي تزامنت مع بداية تحرشات أروبية بالمغرب ظهر فيها الدور الأمريكي بمظهر سلبي رغم اتفاقية الصداقة الموقعة بين الجانبين، رغم أن المغرب كان بدور إيجابي في ما يتعلق بقضايا أمريكية، كالحرب الأهلية فيها.. بحيث كانت سفن الكنفدراليين تؤسر عند دخولها لميناء طنجة، وهو الإجراء الذي كاد يجعل المغرب طرفا في قضية أمريكية داخلية. ومن جملة الإشارات التاريخية والسياسية التي وردت في المؤلف كون الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد منتصف القرن التاسع عشر تبين أنها لم تكن سوى جزء من حلف أوروبي؛ هذا في زمن أصبح المغرب يعيش تبعات ومشاكل ما مَنَحه من امتيازات لدول أجنبية، خاصة ما يتعلق بالتمثيل الدبلوماسي والقضاء القنصلي والحمايات القنصلية. سياق جعل المؤلِّف يخصص جانبا هاما من مؤلفه لمقاربة قضايا التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب، تحديداً إشكال ومسألة الحماية القنصلية؛ علما أن السلطان الحسن الأول طلب رسميا حماية أمريكية رفضت بدعوى التزام الولاياتالمتحدة بمبدأ مونرو، وبدعوى عدم رغبتها في الزج بنفسها ضمن تعقيدات السياسة الأوروبية. وإذا كانت الولاياتالمتحدة حصلت على شرعية وجودها بالمغرب عبر اتفاقية 1786، والتي تم تجديدها عام 1836، فإن ما زاد من توسيع هذا الحق - يضيف المؤلف- هو ما عُقد من أوفاق ومؤتمرات دولية بشأن المغرب، مثلما حصل من خلال المجلس الصحي ثم فنارة رأس سبارطيل بطنجة ومؤتمري مدريد والجزيرة الخضراء. والعلاقات المغربية الأمريكية لم تكن ببعد سياسي فقط، وفق ما ورد في المؤلف، بل بتوجه اقتصادي منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، من خلال ما أقيم من مشاريع في هذا الإطار من قِبل بعض الأمريكيين من أجل تنشيط العلاقات التجارية بين البلدين. ووجهة النظر الأمريكية والألمانية المتقاربة حول المغرب كانت وراء تحالفهما وانسجامهما في اللعبة الدولية آنذاك. ويذكر د. محمد بنهاشم أنه بعد وفاة السلطان الحسن الأول وانتقال عرش البلاد لابنه مولاي عبد العزيز دخل المغرب مرحلة ضعف طبعته فتن وتقاسمه تراجع اقتصادي وتهافت استعماري.. فترة بنكهة خاصة كانت لدى الأمريكيين بتحوله إلى موضوع انتخابي، وإلى وجهة باهتمام أمريكي من خلال مثلا دعوته للمشاركة في معرض دولي بسان لوي بالولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن خلال تناول حياة السلطان عبد العزيز من قِبل يوميات صحفية أمريكية. في مؤلف"العلاقات المغربية الأمريكية"، لم يتم اغفال الحديث عن موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية من فرض فرنسا حمايتها على المغرب في عهد مولاي عبد الحفيظ؛ بحيث تم التأكيد على أن هذا الموقف أبان أن الولاياتالمتحدة كانت فعلا الدولة الوحيدة التي بقيت حجر عثرة في طريق فرنسا، بعدما تم إبعاد القوى المنافسة لها كما بالنسبة لألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وبعدما قامت بعملية "بيع من الباطن" لإسبانيا بمنحها محمية داخل محمية بشمال المغرب.. فقد أورد المؤلِّف أن الولاياتالمتحدة لم تعترف بحماية فرنسا على البلاد، ولم توقع أي ميثاق معها بشأنه، محتمية بضمان مصالحها ومصالح مواطنيها ومحمييها بالمغرب، وبشرط الدولة ذات الأفضلية، مضيفاً أنه رغم عودة فرنسا لطرح الموضوع من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، رفضت الولاياتالمتحدة كل محاولة بدعوى كون المسألة في حاجة لموافقة مؤسسة الكونكًريس ليظل الأمر على ما هو عليه معلقاً إلى غاية استقلال المغرب 1956. وقد استهدف د. محمد بنهاشم من خلال مؤلَّفه هذا تأصيل العلاقات المغربية الأمريكية وإبراز أهمية مساهمة كل طرف فيها، مع تركيز على قضايا الانشغال الأهم لدى الجانبين أو تلك التي كانت مثار خلاف بينهما في حدود ما توفر من أرشيف؛ مع أهمية الإشارة إلى أنه لازالت هناك مساحة اشتغال هامة حول قضايا تخص العلاقات المغربية الأمريكية، والتي هي بحاجة للتنقيب والبحث والدراسة والتمحيص كما الشأن بالنسبة للمشروع الاقتصادي الأمريكي بالمغرب، كذا المسألة اليهودية في العلاقات والسياسة المتوسطية للولايات المتحدةالأمريكية وموقفها من المقاومة المغربية، خاصة محمد بن عبد الكريم الخطابي، والذي أفادت بعض الوثائق حوله بمشاركة فيلق أمريكي إلى جانب الفرنسيين خلال حرب الريف. أضف إلى ذلك دور القواعد الأمريكية في ترسيخ الوجود الأمريكي بالمغرب، وعلاقة الأمريكيين بالحركة الوطنية المغربية بعد 1944، تلك التي تم اعتمادها لمزاحمة الوجود الفرنسي بالمغرب. وقد انتهى الباحث إلى أن ما تمت الإشارة إليه من قضايا بحث عالقة هو ما ينبغي أن يتوجه إليه عمل باحثين حرفيين، وأما بالنسبة إليه فقد نفض الغبار عن الأرشيف المتعلق بها، كاشفا عن بعض أوجه العلاقات المغربية الأمريكية من خلال التمثيل الدبلوماسي. يذكر أن المؤلَّف الذي اعتمد ببليوغرافيا متباينة، جمعت بين عشرات المراجع الأجنبية والعربية وبين مخطوطات محفظات بمئات الوثائق ذات القيمة الدبلوماسية في الفترة ما بين 1879 - 1912، هو بحق منهجاً ومتناً ومقاربةً وحصيلةً علمية يشكل إضافة نوعية بقيمة مضافة عالية للمكتبة الجامعية المغربية وللمكتبة الدبلوماسية التاريخية المغربية، وبخاصة جناحها المتعلق بحقل تاريخ المغرب وعلاقاته الخارجية عموماً خلال هذه الفترة الدقيقة من زمنه المعاصر. *باحث المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين- فاس- مكناس