في القرن الرابع عشر أطلق رسام الخرائط الألماني مارتن فيلد سميلر اسمَ أمريكا على الأراضي الجديدة المُكتشَفة في النصف الغربي للكرة الأرضية. كان ذلك تيمّناً برسام إيطالي آخر هو أميريكو فيسبوتشي، الذي قام برحلات عديدة إلى العالم الجديد.. وإذا كان العوام يعتبرون المستكشف الايطالي الشهير كريستوفر كولومبوس هو أول من وصل إلى أمريكا، بموجب عقد مع الملكية الاسبانية سنة 1492، فإنّ بعض المؤرّخين يشككون في الرواية المُتداوَلة بخصوص اكتشاف «الدنيا الجديدة» بتعبير الرّحالة الحجري الأندلسي، وسندُهم في ذلك هو بعض النقوش المكتشفة، التي تظهر وجود اتصال بين أمريكا وباقي القارات.. ويعتبر المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي أنّ «المغاربة اكتشفوا القارة الأمريكية قبل كريستوفر كولومبوس بألف سنة، من خلال نقوش توجد في فكيك وفي كوكابونيست».. مضيفا، في المجلد التاسع من كتابه الضخم «التاريخ الدبلوماسي للمغرب»، أن «ما قاله الجغرافيّ المغربي الشهير الإدريسي عند حديثه في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» عن لشبونة والمغررين الثمانية، الذين ركبوا «بحر الظلمات» ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، يبيّن أن هوية أولئك البحارة المستكشفين مغاربة.. ويعرف هذا الكلامَ كلَّ من يدرك قوة الأسطول المغربي في ذلك العهد». بل إنّ التازي يؤكد أن ابن خلدون تحدّثَ عن محاولة من جنوة والمغرب استكشاف ما راء المحيط. ومهْما يكن من أمر، فإنّ المؤكد تاريخيا هو وجود كثير من المراسَلات الدبلوماسية بين المغرب وإنجلترا سنة 1601، تتحدّث كلها عن إبرام حلف ثنائيّ بين السلطان أحمد المنصور وبين الملكة إليزابيت الأولى للنزول في أمريكا.. بعد القرن الرابع عشر، بدأت موجات مستمرة من الهجرات الأوربية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، خاصة وسط المضطهدين دينيا في أوربا، وظهرت الصحوة الدينية الكبرى، مصحوبة بدعوات لحرية المعتقد.. وفي الوقت نفسه، تحول السكان الأصليون (الهنود الحمر) إلى متمرّدين... بعد استقلال أمريكا عن بريطانيا في القرن الثامن عشر تم تأسيس حكومة اتحادية ضعيفة ظلت قائمة إلى سنة 1789، ومع حروب التحرير ومواجهة المتمرّدين وانضمام المزيد من الولايات إلى الاتحاد الكنفدرالي، بدأت تظهر ميولات دولة فريدة في العالم، لا يستهويها الصراع والدخول في المنافسة لاحتلال الدول الضعيفة، كما درجت على ذلك الامبراطويات القوية في أوربا منذ عهد الرومان.. يقول حسن أوريد، المؤرخ السابق للمملكة: «المؤكد تاريخيا هو أن أمريكا نشأت لكي تدير ظهرها للعالم».. ويعقب التازي على كلام أوريد، قائلا إنّ «المغرب هو الذي سيُعرّف العالم على أمريكا قبل أن تُعرّف على نفسها». في إشارة إلى أنّ المعاهدة التي وقعتها الدولة الناشئة مع السلطنة الشريفة (المغرب) سنة 1786، كانت بمثابة دفعة لأمريكا للخروج من انكماشها عن الذات، وبالتالي البحث عن مؤطئ قدم في عالم القرن ال19 م». أما أنور مجيد، المتخصّص في العلاقات المغربية -الأمريكية في جامعة نيو إنغلاند، فيؤكد أنّ أمريكا كانت منفتحة عن العالم منذ البداية، والدليل موجود في «وثيقة اعلان الاستقلال الأمريكي لسنة 1776، التي حرّرها توماس جيفرسون، وفيها نداء إلى كل العالم بعدالة القضية الأمريكية ضد بريطانيا». الموقف التاريخي في رابع يونيو 2009، ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابه الشهير إلى العالم الإسلامي في القاهرة. وذكر، في معرض حديثه عن العلاقات الأمريكية العربية الإسلامية، أنّ المغرب كان أولَ دولة تعترف بالولاياتالمتحدةالأمريكية. كان أوباما يشير إلى اللحظة التي قام فيها السلطان محمد بن عبد الله، الملقب ب«محمد الثالث»، بإصدار منشور من مدينة مكناس يتعلق بالسماح لعدة دول بممارسة نشاطاتها التجارية مع المغرب، وكانت من ضمنها الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وقد اعتُبِرت المبادرة المغربية اعترافا بسيادة أمريكا واستقلالها. ولم تتوقف مبادرة السلطان عند هذه الخطوة، فقد قام بتعيين أحد التجار الفرنسيين المقيمين في مدينة سلا، ويدعى إتيان دو ديبير كاي، بتولي مهمّة قنصل أمريكا في المغرب، إضافة إلى الإنابة عن الدول الأخرى التي لا تتوفر على تمثيلية في «السلطنة الشريفة». ومباشرة بعد هذا التعيين قام إتيان دو ديبير كاي، في شتنبر 1779، وبتعليمات من سلطان المغرب، بمراسلة الكونغرس بواسطة بنجامين فرانكيلن، يخبر الأمريكان بتعيينه قنصلا لهم في المغرب. وكما كانت الولاياتالمتحدة في البداية تتعامل مع بقية العالم بدبلوماسية بطيئة بسبب الصّراعات الداخلية، فقد اتخذ المغرب إجراءات صارمة ضد السفن الأمريكية التي تمارس الملاحة البحرية دون أداء الواجبات التي تفرضها الاتفاقيات على باقي الدول. وقام الجانب المغربي، سنة 1784، بحجز سفينة أمريكية كبيرة في انتظار أن تقوم الولاياتالمتحدة بتوقيع اتفاقيتها مع المغرب.. وعقب الحادث اتخذ السلطان سيدي محمد بن عبد الله قرارات للتقرب من أمريكا، خاصة حينما قام بالإفراج عن تسعة أسرى أمريكيين وقعوا، مع مَركبهم، في أيدي البحّارة المغاربة.. ويذكر عبد الهادي التازي أنّ هناك مصادر تشير إلى أنّ «الزعيم الأمريكي مالكوم إكس ردّد مرارا أن المغرب لن يسالم الولاياتالمتحدةالأمريكية إلا إذا أفرجت عن الأسرى الأفارقة الذين اختطفوا من السواحل الإفريقية ويتم توظيفهم كعبيد في الأراضي الجديدة».. وهو الكلام الذي يعتبره أنور مجيد، أستاذ الحضارات في جامعة نيو إنغلاند، «غيرَ دقيق، ولا توجد وثائق تاريخية تثبته». لم يمُرَّ كثير من الوقت حتى صدر أمر من جيفرسون وأدامس بتعيين توماس باركلي، قنصل أمريكا في باريس، للتفاوض مع المغرب، وزوّده بوثيقة تتضمّن مشروعا للاتفاقية، أعدّها جيفرسون، إضافة إلى بعض الهدايا. وكتب السلطان بعد استقبال السفير الجديد لأمريكا في مراكش رسالة إلى رئيس الولاياتالمتحدة، قائلا: «إلى كبير الإصطادوس الماركانوس البريزضنت (كذا) السلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فقد وصلنا كاتبك طوماس بركلي وبيده كتابك وكتاب عظيم إسبانيا كارلوس فقرأناهما وعرفنا ما فيهما من طلبكم الصلح معنا، مثل أجناس النصارى المصالحين معنا. فقد قبلنا ذلك وجعلنا بيننا وبينكم الصلح والمهادنة برّا وبحرا على الشروط التي طلبتم منا، فقبلناها وأثبتناها في الدفتر ووضعنا عليها طابعنا الشّريف، وأمرنا جميع خدامنا الذين بمراسينا أنّ مراكبكم وتجارتكم التي ترِد لمراسينا يفعل معهم عمالنا مثل ما يفعلونه مع الإصبنيول على الأمن والآمان معكم، وعلى المعاهدة والصّلح التامّين، والسلام، صدر الأمر بهذا في أول رمضان المبارك عام مائتين وألف» (عن كتاب التاريخ الدبلوماسي للمغرب لعبد الهادي التازي). «هيبة المغرب» في 1787 ازدادت نشاطات القرصنة في البحر الأبيض المتوسط، وتعرّضت السفن الأمريكية لاعتداءات كثيرة، مما دفع الكونغرس إلى رفع طلب رسميّ إلى السلطان محمد الثالث، يُضمّنه التماس الرئيس جورج واشنطن بأنْ تقوم السلطات المغربية بالتدخل للتوسط لدى كل من تونسوطرابلس (حاليا ليبيا) لحماية السفن الأمريكية، وأكدت واشنطن أن الشعب الأمريكي سيظل مدينا للمغرب بما يحققه من تقدّم ورخاء.. جاءت هذه الرسالة بعد رسائلَ أخرى لجورج واشنطن إلى السلطان.. كانت كلها تخطب ود المغرب بعبارات مليئة بالعواطف والتقديرات (انظر المؤطر). إلا أن الملاحظ في تلك الرسائل هو اللغة «الباردة» التي كان السلطان يستقبل بها حماسة الرئيس الأمريكي للتعاون بين البلدين، ففي الوقت الذي يخاطب جورج واشنطن السلطان بعبارات من قبل: «الامبراطور العظيم، والصديق الهُمام»، يفضل السلطان استعمال عبارات «الحوقلة والحمدلة»، وأخرى مثل: «السلام على من اتبع الهدى».. وهو استنتاج تعزّزه مراسلات أخرى بعث بها السلطان نفسُه (محمد بن عبد الله) إلى ملك اسبانيا، ممهورة بكثير من التعظيم. ولم يكن هذا ليفاجأ المُؤرّخين، لأن الولاياتالمتحدة في تلك الأثناء كانت دولة ضعيفة تمزّقها الاضطرابات والصّراعات الداخلية، ولم تكن إضافة إلى ذلك تشكل مصدر تهديد للسلطنة الشريفة، كما كان الأمر بالنسبة إلى إسبانيا والبرتغال.. في 1790 توفي السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) فقام توماس جيفرسون بنعيه إلى أعضاء الكونغرس، طالباً منهم التفكير في التدابير الواجب اتخاذها لضمان سير العلاقات الطيبة بين المغرب وأمريكا. وفي حديثه أمام الكونغرس شدّد على أهمية العلاقات بين البلدين، وكيف أنّ التجارة في البحر الأبيض المتوسط ستتأثر بسبب أعمال القرصنة، خصوصا بعد وفاة السلطان. وحينما خلَف المولى سليمان والده على كرسي الحكم وصلت التقارير الدبلوماسية إلى واشنطن من قناصلها المُعتمَدين في الدول الأوربية المحاذية للمغرب، بأن الحالة في السلطنة الشريفة رجعت إلى حالتها الطبيعية وبأنّ السلطان الجديد أخذ بزمام الحكم، رغم التطاحنات بين ورثة محمد الثالث لتولي العرش. وطالب ممثلو أمريكا في الدول المجاورة سلطاتهم بأن تعجّل بإرسال مندوب عنها. لم يمرّ وقت كثير حتى عهد كاتب الدولة إدمون راندولف للوزير الأمريكي المفوض في البرتغال الكولونيل دافيد رامفري بأنْ يقوم بالمساعي اللازمة من أجل الحصول من السلطان مولاي سليمان على تجديد الاعتراف بالاتفاقية الأمريكية -المغربية لسنة 1786. وعزّزت مخاوفَ أمريكا سياسةُ الانغلاق أو الاحتراز التي اعتمدها الوريث الجديد للعرش، حيث قطع جميع الصّلات التي كانت بين المغرب وأوربا، وقلّل من المعاهدات التي أبرمها الحاكم السابق، حيث انتقلت من 11 إلى 3 معاهدات فقط، وأغلق المراسي ومنع العلاقات التجارية الدبلوماسية.. بيد أن واشنطن استطاعت أن تنتزع اعتراف المولى سليمان بالاتفاقية التجارية، حيث راسل السلطان الجديد الرئيس الأمريكي، وجاء في خطابه: «نحن على السّلم والمهادنة معكم على نحو ما كان بينكم وبين والدنا المقدس».. وقد رحّب أعضاء الكونغرس بالرسالة، بعد أن تُليت عليهم في جلسة عامة، فكانت بشرى، وتم إثر ذلك تعيين قنصل جديد لأمريكا في المغرب، وهو جيمس سيمسون، الذي التحق بطنجة الدولية، حيث توجد البعثات الدبلوماسية. توتر العلاقات لم تلبث العلاقات المغربية -الأمريكية في عهد المولى سليمان وتوماس جيفرسون أن توترت، بسبب الحصار والحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة على طرابلس، وقيام قادة ليبيا بطلب مركبا من القمح من السلطان سنة 1802. وفي هذا الصدد، قال عبد الهادي التازي ل»المساء»، «كان بيننا وبين الولاياتالمتحدةالأمريكية الفصل السادس من الاتفاقية الموقعة في مراكش، وكأستاذ للحقوق يجب أن أؤكد هذا الأمر.. المعاهدة الأولى تنص على أنّ المغرب يقف إلى جانب أمريكا ضد أعدائه، وحصل أن ليبيا كانت تقاوم أمريكا في البحر المتوسط، وكانت تسمى آنذاك طرابلس. فليبيا كدولة مسلمة طلبت منا مساعدتها بالقمح، والمغرب لم يكن أمامه إطلاقا إلا أن يساعدها اعتمادا على الفصل الأول في الإسلام، وهو إغاثة المسلمين، وهذا شيء أقلق أمريكا، ولكن المغرب كان مُصمّما على مساعدة إخوته من وجهة نظر أنّ الاتفاق لا يندرج فيه التحالف ضد الأسرة الإسلامية، لأنّ الرابطة الدينية تتجاوز الحدود».. ونتيجة لهذا، فقد وقعت اصطدامات في البحر بين الأسطول المغربي والأسطول الأمريكي، وتوجه السلطان مباشرة إلى طنجة للوقوف على الأمر، فوجد سفنا أمريكية احتجزها المغاربة، وأخرى مُحتجَزة لدى الجانب الأمريكي. وإذا كان المغرب قد أدرك أنه أخلّ بالاتفاق الذي يجمعه بالولاياتالمتحدة، فإنه اعتبر أنّ «التعاون بين المسلمين مُضمَر في الفصل السادس، لأنه مسألة عادية، بحيث لا يمكن ردّ طلب المستنجدين من المسلمين بإخوانهم المسلمين». يقول التازي: «لسان قول السلطان في الفصل السادس هو أن «نساعدكم في القيام ضد عدوكم إذا لم يكن منتميا إلى عصبتنا الدينية». وحتى لا يكون السلطان هو المسؤول عن خرق الاتفاق، فقد قام البحّار المعروف ب»إبراهيم لوباريس» بالتخلص من التعليمات التي توصل بها وتطلب منه مساعدة المسلمين في طرابلس. يقول التازي: «لوباريس مغربيّ من الطراز الرفيع. كانت عنده تعليمات لكي يقاوم أمريكا، التي تقف ضد ليبيا، ومن جميل وفائه (حتى لا يورّط السلطان لأنه خرق الاتفاق بمعنى ما) لمّا أمسك به الأمريكان رمى تعليمات السلطان في البحر.. أنا اعتبره بطلا من الأبطال».. وبعد انفراج الأزمة أرسل السلطان خطابين إلى القنصل الأمريكي جوابا عن رسالة سابقة منه يؤكد فيها أنّ «الذين وردوا علينا من إخواننا المسلمين مستنجدين بنا كان من الصّعب علينا أن نرد طلباتهم، وإنما الرّايْس (لوباريس) الذي وقف إلى جانبهم.. إنما فعل ما تمليه عليه عاطفته».. وهو ما يشبه إلقاء المسؤولية على الرّايسْ لوباريس حتى لا يكون السلطان هو مَن خرَق الاتفاقية. وبعد ذلك، استقبل السلطان القنصل الأمريكي وقائد الأسطول.. في تلك الأثناء، تم الافراج عن كل المحتجَزات الأمريكية، وتم تأكيد الصلح بين الحليفين في أكتوبر 1803. مباشرة بعد ذلك، أرسل السلطان خطابا جديدا إلى جيفرسون ومجلس الشيوخ جاء فيه: «إنّ ما وقع من وحشة بين سفننا، وما وقع من ترامي رؤسائها بعضهم على البعض الآخر استدعى إصدار أمرنا لإحضار الجميع بمرسى طنجة، حيث تحققنا من أن هذه القضية تافهة لا أهمية لها، وقد حُلّت المشكلة، وقد أخبرناكم بما وقع إعرابا عن تأكيد الصّداقة والسلام معكم على نحو ما كان عليه الأمر في اتفاقية 1200، وإنّ العهود التي عُقدت ما تزال جارية». وأكد الرئيس جيفرسون للكونغرس أنّ المغرب وأمريكا قد تغلبا على الأزمة ورجعت الأمور إلى سابق عهدها، وحمل القنصل الأمريكي معه هدية من الولاياتالمتحدة إلى السلطان، وكافأهم هذا الأخير بهبة عبارة عن مقر للبعثة الأمريكية في طنجة، «وهي أول بناية تملكها أمريكا على وجه الكرة الأرضية»، حسب عبد الهادي التازي.. المغرب ضد الانفصال في 1861 حاول الجنوب الأمريكي الانشقاق عن الشمال، واتخذ المغرب، منذ البداية، قراره للوقوف ضد الانفصال، الذي كان يُهدّد الدولة الفتيّة، عن طريق اعتقال بعض المشاركين في الحرب الأهلية، في البحر الأبيض المتوسط ومنع سفنهم من الرّسو في المراسي المغربية. وسنة 1862 تم القبض على بعض الانفصاليين، وتم تسليمهم إلى الحكومة المركزية الأمريكية، وطرْدُ آخرين يبحثون عن مساعدات لسفنهم في جبل طارق من ميناء طنجة. ويحتوي الأرشيف الوطني في واشنطن على وثائقَ تظهر الموقف المغربي المساند للولايات المتحدة ضد خطر الانشقاق. وتؤكد رسالة -زودنا بها عبد الهادي التازي- للأمير مولاي العباس إلى القنصل الأمريكي دولونك، وقوف المغرب إلى جانب الحكومة الأمريكية، حيث جاء فيها أنّ «ما قمنا به لتعزيز موقف القنصل الأمريكي ليس فقط لأنه واجب وحق من الحقوق، ولكنْ لأن روابط الصداقة والود التي تجمع بين الدولتين منذ أيام أجدادنا تقتضي منا ذلك، ونحن نكره أن يتعرّض واحد على أرضنا للحيف والإهانة، وإذا لم يبق إلا استعمال القوة لفرض الاحترام فإننا لن نتأخر عن ذلك». وختم الأمير رسالته بقوله: «أرجو أن تُعربوا لحكومتكم عن عواطفنا الطيبة نحوها وتؤكدوا لها أنّ الصداقة القائمة بين بلدينا ليست فقط موجودة، ولكنها بالنسبة إلينا تزداد مع الزّمن قوة ودعما، وأبلغوها متمنياتنا في النصر على المتمرّدين».. ورد كاتب الدولة الأمريكي بواسطة القنصل الجديد ماكماث، طالبا منه أن يُبلغ العاهل المغربي عواطف الشعب الأمريكي، ويؤكد له «الشعور بالود المتبادَل بين البلدين منذ فجر استقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأنّ أي حادث عابر لا يمكنه أن ينال من تلك الصّداقة». ولم يتأخر السلطان عن إبداء رأيه في ما تعيشه أمريكا من تمرّد، حيث صرّح نائب السلطان محمد باركاش بأن «الجالس على العرش يتأسّف كثيرا للحالة التي تعانيها أمريكا جراء الخارجين عن القانون، وهو مقتنع بأنه لو حصل نفس الحال في المغرب (لا سمح الله) فإن أمريكا والحكومات الأخرى سوف لن تشجع المروق والتمرّد». وعلى الأرض، أصدر السلطان تعليماته لباشوات المراسي المغربية بألا يعطوا أي إذن للانفصاليين بالرّسو في السواحل المغربية، قائلا: «إنهم غير معروفين لدينا، لا يوجد أي قنصل في المغرب يستطيع أن يجعلهم معروفين عندنا.. وإننا سنظل أوفياء للمعاهدات التي تربط بين بلدينا». وبعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية 1865، عاد الجنوب للانضمام إلى الوحدة الأمريكية، وراسل الرئيس أندرو جاكسن السلطات المغربية لرفع الحظر عن السفن الأمريكية التابعة للمتمرّدين. وحينما بلغت أخبار اغتيال الرئيس أبراهام لنكولن القصر، رفع السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان إلى الرئيس الأمريكي أندرو حونسن يعزّيه قائلا: «أما بعد فقد كان بين أسلافنا قدّ سهم الله وبين عظماء جنسكم محبة أوجبت اعتبارها وردّها إلى ما كانت عليه وإحياءها، ولا شكّ أن المحبة تقتضي أن يُسَرّ الحبيب بما يسر مُحبه ويكره ما يكدّر قلبه.. ولذلك تألمنا لمّا بلغنا ما وقع بالعظيم البرزيضنت أبراهام لينكولن». مضيفا، بعد أن أسبغ كل أوصاف الرّثاء على لينكولن: «وحق على من عرف سيرته أن يذكره بما كان عليه وينشر ما كان يفعله مع العباد وينسبه إليه، ليبقى ذكره مخلدا. لكنْ من خلّف أمثالكم مكانة لم يمُت، فإن ذلك الجنس العظيم فيه من العظماء وكبارهم القدماء ونحن عرفناكم بما لنا من العناية بجانبكم والتأسّف على هذا العظيم الذي ضاع منكم لتعرفوا أنّ المحبة المؤسسة بين أسلافنا باقية بحالها، بل هي في الزيادة لا تزول عن محلها». وغير خافٍ على المتتبع والدارس للعلاقات بين المغرب وأمريكا أنّ اللغة الدبلوماسية التي بدأ السلطان يخاطب بها قادة الولاياتالمتحدة تغيّرت كثيرا، وأصبح المغرب يخاطب أمريكا بود أكبر. ويرجع سبب ذلك إلى مواقف واشنطن المُشرّفة تجاه المغرب ضد الأطماع الاستعمارية، وتزايد القوة الصناعية للولايات المتحدة، ورغبة السلطنة في اللعب على الحبل الأمريكي ضد التآلب الأوربي. الحماية الأمريكية في سبعينيات القرن التاسع عشر بدأ المغرب يُحسّ بأنه مطوق ومحاصَر من ثلاث دول أوربية هي: فرنسا، إسبانيا وإنجلترا، وأصبحت كل الدول الأوربية تنظر إلى المغرب ككعكة نضجت وملّت الانتظار، مما رفع حدّة التنافس بين القوى الأوربية للظفر بقطعتها. وقد تفطَّنَ السلطان إلى كل ذلك، فقام باستقبال القنصل الأمريكي فيليكس ماتيوس، طالبا منه أن يدعو الولاياتالمتحدة من أجل حماية استقلال المغرب من الأطماع الأوربية. وفي الأرشيف الوطني الأمريكي توجد تقارير رفعها القنصل المذكور إلى وزير خارجية بلاده هاميلتون فيش يصف فيها الزيارة التي حظيّ بها في مدينة فاس، قائلا : «لقد علمت أنّ هذا الاستقبال الحافل الذي أعدّ لنا لم ير الناس مثيله من قبل لأي شخصية سياسية أوروبية مِن التي قدِمت فاس إلى حد الآن، وكانت في الواقع مناسبة لرفع الراية الأمريكية لأول مرة بمدينة فاس».. ويسترسل متحدّثا عن الزيارة: «في 30 ماي 1871 استقبلني جلالة السلطان في احتفال عظيم في قصره «دار الدبيبغ» ودامت المقابلة حوالي 20 دقيقة، حيث تبادلنا التنويه بما يربط بلدينا من علاقات وهنا تم الاتفاق على تنظيم مقابلة خاصة، وأريد أن أخبركم بما جرى في اللقاء رأسا لرأس».. «حين دخولي إلى القصر أخذوني إلى ردهة منفردة حيث وجدت السلطان وحده، وبعد أن أذن لي جلالته بالجلوس أخذ يحدثني هكذا: «أنا أعرف أنك تعرف العربية، ولذلك فلا حاجة لنا بترجمان، كما لا داعي لحضور شخصية من الشخصيات الرسمية، وأضاف الملك: إنّ احتفاظ مملكته بسلامتها إلى الآن لا يرجع إلى القوة التي تتوفر عليها لمواجهة العدوان الأجنبي، ولكنّ ذلك يرجع فقط إلى التنافس الموجود بين ثلاث أو أربع دول أوربية كبرى! وإنه يعرف أن هذه الدول تطمع في مواقع معينة بالمملكة المغربية، ولاسيما طنجة، التي تشارف على البحر الأبيض المتوسط والتي تنعم بأهمية إستراتيجية بالغة.. ولو أن هذه الدول توصلت إلى الاتفاق في ما بينها لاستطاعت أن تتوزّع المملكة جميعها أو بعضها! وأنه قرر أن يلجأ إلى استخدام ما يتوفر عليه من سلاح ضد الأطماع الأوربية وأنه ينتظر منا أن نقوم بدور الحكم أمام هذا الوضع، وأفهمني -يضيف ماتيوس- أنه يرحّب بمساعدة الولاياتالمتحدةالأمريكية.. فأجبته على هذا النحو: «إن الولاياتالمتحدة ترغب بكل إخلاص في ازدهار المغرب وتقدّمه تحت رعاية جلالتكم، وأنه في ما يتعلق بأمر المساعدة من الواجب عليّ أن أرفع القضية إلى علم الحكومة الأمريكية». وبما أنّ الولاياتالمتحدة كانت تعيش آنذاك في ظلّ الحروب الداخلية وتشكو من ضعف أسطولها بسبب التمرّد الداخلي، فقدْ ردّ الرئيس الأمريكي قائلا: «بخصوص جلستكم مع جلالة ملك المغرب، والتي يعرب فيها عن رغبته في قيام أمريكا بحماية المغرب ضد الدول الأجنبية، جوابا عن ذلك أخبركم أنّ الحكومة الأمريكية إذ يؤسفها إقدام الدول المذكورة على محاولة تجزئة المغرب فإنها مستعدّة أن تقوم بمساعيها الحميدة لدى هذه الدول حتى لا تقدم بأي عمل من شأنه أن يضرّ بالتراب الوطني، ولكنها في الوقت ذاته تعتذر عن تقديم المساعدة التي طلبها العاهل المغربي». وأبدى عبد الهادي التازي انزعاجه من وصف ما قام به السلطان المغربيّ بطلب التدخل الأمريكي بمثابة «استبدال للاستعمار الأوربي بالأمريكي»، كما يدّعي بعض المؤرّخين، قائلا: «أرفض استعمال كلمة الاحتلال لأنها وسخة، ومستحيل على أي مغربي أن يفكر في ما أسميه غسل دم بدم. وأشكّ في أن فيلكس ماتيوس دُسّ في الموضوع.. أما هذا الرجل فأشك في حمله رسالة كاملة». مضيفا في حديثه إلى «المساء»: «هل هناك مانع من الاستعانة بحليف بعيد جغرافيا لا يمكن الخوف منه؟ وهل هناك مانع في أن يحصل العاهل المغربي على ضمانة تمكنه من المحافظة على استقلال بلاده ووحدتها من أن تتوزّعها تلك الدول الأوربية التي تفوقه استعدادا وتخطيطا». وخلص التازي إلى أنّ «ما لا يمكن أن يخطر على البال هو أن يقصد السلطان استبدال احتلال باحتلال، فقد علمنا جيدا عن الغيرة الشّديدة للملوك المغاربة تجاه استقلال بلادهم، ويكفي أن نعرف أن باعث حديث سيدي محمد إلى ماتيوس هو الغيرة على الاستقلال». ويؤكد أنور مجيد أنّ عالم السياسة الأمريكي غراهام ستيوارت نشر مقالا بعنوان «مستقبل طنجة» في مجلة «Foreign Affairs» (الشؤون الخارجية) سنة 1948، ذكر فيه أنّ السلطان مولاي محمد بن عبد الرحمان، المعروف أيضا باسم محمد الرابع، يفضل تسليم بلاده إلى الولاياتالمتحدة على أن تحتلها قوة أوربية.. أمريكا وبن عرفة كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية الدولة الوحيدة التي سجلت تحفظها قبل أن تصادق على اتفاقية مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، في عبارات مكتوبة تتضمّن أن «أمريكا، التي لا توجد لها أطماع في المغرب، إنما شاركت في المؤتمر من أجل أن تضمَن سائر الدول حقّها في التعامل مع المغرب، ومن أجل المساعدة على إنشاء إصلاحات في البلاد من شأنها أن تضمن الاطمئنان والاستقرار».. وبعد فرض الحماية على المغرب، في 1912، تحولت العلاقات التي كانت تربط أمريكا بالمغرب، عبر السلطان، إلى الإقامة العامة، بيد أنّ الأمور ستتغير خلال الحرب العاليمة الثانية، خاصة في مؤتمر أنفا في الدارالبيضاء سنة 1943. يقول حسن أوريد «إنّ لقاء أنفا لم يكن لقاء عاديا، على اعتبار أنه لم يحضر ممثل فرنسا، المقيم العام نوغيس (Noguès) الذي كان يعتبر القائدَ العسكري لجيوش فرنسا الحرة في شمال إفريقيا، وهذا يؤكد، ضمنيا، أنّ الممثل الشرعي للشعب المغربي هو السلطان وليس المقيم العامّ».. مضيفا: «لقد سعت أمريكا، منذ الحرب العالمية الثانية وقبل أن تضع الحرب أوزارها، إلى أن ترسم الخريطة وتربط العلاقة مع القوى الحيّة في هذه المجتمعات». غير أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية ستُغضب الحركة الوطنية المغربية في 1953 بعد نفي محمد بن يوسف إلى مدغشقر واعتراف السلطات الأمريكية بالسلطان -»الدّمية» محمد بن عرفة.. يقول عبد الكريم الفيلالي، في كتابه «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير» -المجلد الحادي عشر- إنّ «الفرنسيين مكنوا الأمريكيين من ثلاث قواعد عسكرية في المغرب.. وعوض أن يرجع الأمريكيون إلى الماضي الجميل (يوم وقف محمد الخامس ضد النازية) ليستلهموا منه علاقتهم مع المغرب الأصيل، وبواسطة عاهله العظيم، نسوه وتنكروا لكلّ شيء. أصبحوا هم السباقين إلى الاعتراف لابن عرفة يوم 8 غشت 1953، ولو أنهم انتظروا ثلاثة أيام مع هجمة البطل علال بن عبد الله وما تلاها لكانت نظرتهم الفجّة قد تغيّرت.. لكنّ ارتجالهم المعتاد دفع بهم إلى الاعتراف رسميا بابن عرفة، حيث قدّم جوزيف ساترهويت أوراق اعتماده كممثل لأمريكا في المغرب برتبة وزير مفوض فوق العادة (...) وشهد إلى جانب ابن عرفة وغيوم حفل عشاء في القصر، الذي غادره صاحبه الشّرعي». أما حسن أوريد فيذهب إلى أنّ اعتراف أمريكا بابن عرفة مسألة جزئية في العلاقات المغربية -الأمريكية، «لأنّ الذي يهمّها هو المغرب كدولة، وهي إلى ذلك تبنت الوثيقة الأطلسية التي تدعو إلى ضمان حق الشّعوب في تقرير مصيرها، وعبّرت عن رفضها الاستعمار». مشيرا إلى أنّ «العديد من الأعيان والقادة المغاربة اعترفوا بالسّلطان -الدّمية، وأمريكا لا يمكن إلا أن تتعامل مع السُّلطة القائمة لحظتئذ»..