عربات مهترئة منتشرة في الشوارع والأزقة، تدفق كبير للسيارات والشاحنات، أصوات تعلو وتخفت، شتائم وصراخ وتوسلات، سيارات أجرة صغيرة تسير بسرعة جنونية، "كرويلات" مكدسة وسط الطريق، عربات مجرورة بالخيول تجثم على أنفاس الفضاء؛ إنه مشهد يتكرر كل يوم في شوارع مدينة الدارالبيضاء. حركية يومية تغلب عليها النزعة القروية، في إطار ما يصطلح عليه ب "أرْيفة" أو "ترييف" المدن، نتيجة الهجرة الواسعة التي توافدت على "الغول الاقتصادي" خلال السنوات الماضية، الأمر الذي أدى إلى غياب الحدود الفاصلة بين المدينة والبادية، بل إن المدينة صارت عبارة عن "قرية كبرى"، بعدما ظهرت بها العديد من أحياء الصفيح والسكن العشوائي. هذه الظاهرة لا تقتصر على مدينة الدارالبيضاء، بل تنتشر في العديد من المدن المغربية التي تستقطب اليد العاملة، لكن تبدو جلية في العاصمة الاقتصادية. ويعتبر العديد من المتتبعين أن الإشكال لا يكمن في طبيعة الأشخاص الوافدين، وإنما يتجلى في نقل نمط الحياة القروي صوب المدينة، الذي فرض نفسه على الساكنة الأصلية، الأمر الذي يفسر طبيعة السلوكات البدوية في الحياة اليومية؛ إذ رغم اندماج هذه الفئة التي يطلق عليها البعض اللقب القدحي "العروبي"، إلا أنها مازالت متشبثة بالعقلية البدوية، وهو ما يُعرف ب "البداوة المقنّعة". وفي هذا الصدد، قال علي الشعباني، عالم اجتماع مغربي، إن "ترييف المدينة مصطلح حديث جاء على لسان الكثير من علماء الاجتماع الحضري بالمغرب (la sociologie urbaine)، وهي نتيجة لتكثيف الهجرة القروية ونزوح الكثير من السكان القرويين صوب المدن الكبرى التي باتت تستقطبهم وتتيح لهم فرص العمل". وأضاف الشعباني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "الوافدين على المدن من البادية لا يستطيعون الاندماج بسهولة في الوعاء العقاري للمدينة الكبرى، بحيث يستقرون عادة في الهوامش التي تتكون فيها بؤر شبه حضرية أو قروية، إن صح التعبير، المتمثلة أساسا في مدن الصفيح والسكن العشوائي، وهي نقاط تفتقر إلى كل مقومات الحياة الحضرية والبناء المديني، من تجهيزات وطرق وماء وكهرباء وقنوات الصرف الصحي". وأوضح أستاذ التعليم العالي المتخصص في علم الاجتماع أن "هؤلاء القادمين من القرى يحافظون على كل قيم الحياة وطقوس البادية، سواء تعلق الأمر بالاحتفالات أو المناسبات، بحيث لا يقتصرون على الثقافات التقليدية القروية في الأماكن التي يقطنون بها، وإنما يدخلونها إلى وسط المدينة، ومن ثمة يختلط الحابل بالنابل مثلما يقال في الأدب، حتى صرنا لا نعرف الحضري من القروي في المدن الحالية، بمعنى أن المدينة أصبحت بمثابة قرية كبيرة في النسيج الحضري للمجتمع". وشدد المتحدث على أن "كل مقومات حياة البادية موجودة في المدن، من حيوانات وعربات متنقلة واقتصاد غير نظامي، وهي مسألة لا تقتصر على المغرب فقط، بل لوحظت في بعض المجتمعات الأخرى، بما فيها أمريكا اللاتينية التي تحدث فيها عالم اجتماع برازيلي شهير في دراسة جميلة عن تحول بعض المدن في البرازيل إلى قرى واسعة، رغم شساعة المدن مثل ريو دي جانيرو". وخلص الشعباني إلى أن هذه الظاهرة عامة، "توجد في العديد من مدن العالم الثالث، نتيجة زحف الهجرة وتوسع المدن بكيفية عشوائية وغير منظمة، الأمر الذي تجاوز المشرفين على هيكلتها إلى درجة أننا نعيش في قرى كبيرة، ونحيل هنا على أبرز المدن التي استقطبت اليد العاملة وهي: الدارالبيضاء والقنيطرة ومكناس وسيدي سليمان وفاس وغيرها، بحيث فرض هؤلاء نمط حياتهم القروي على المدينة، وبات السكان يعيشون على هذا الإيقاع من الحياة في المدينة".