هبت رياح الربيع العربي فزلزلت عروشا، أودت بحياة رؤساء كان لديهم يقين قاطع بأن الكرسي لن ينزعه منهم سوى الموت، وأنه سيبقى لأبنائهم ولأحفادهم من بعدهم. لكن ظنهم خاب وسلب منهم السلطان، وذهب العز وآل أمرهم إلى ذل وهوان. الربيع العربي سواء كان انتفاضة تلقائية ضد الظلم والاستبداد، أو كان يندرج ضمن مخطط وتدبير خارجين، سيظل أهم حدث طبع بداية الألفية الثالثة، وما زال حتى الآن لم يحض على التحليل العلمي الموضوعي، الذي من شأنه أن يفهم المقدمات ويستخلص النتائج. انتهى الربيع العربي مخلفا وراءه دمارا شاملا في بعض الدولة كسوريا، وبقاء دار لقمان على حالها كما هو حال في بلاد الكنانة، وخلف أيضا عدم استقرار دول كما يحدث حاليا في ليبيا، ليخلص الكثيرون إلى أن الربيع العربي كان في الحقيقة خريفا عقيما ولم يتمكن من الوصول إلى صيف يحقق حصادا وفيرا يغاث فيه الناس ويعصرون. بيد أن هذا النموذج الثوري الذي هب بشكل تلقائي ودون أن يكون مؤطرا من أي حزب، والذي اعتقد الكل أنه لن يتكرر بسبب النتائج المخيبة التي حققها، ها هو ينبعث من الرماد كطائر الفنيق مرة أخرى، ها نحن اليوم نرى ربيعا آخر ينطلق في أوروبا وبالضبط في فرنسا. ربيع يخرج من رحم فصل شتاء بارد وقارس يهدف بدوره إلى تحطيم كراسي وزراء الحكومة، بل وربما كرسي الرئاسة. الانتفاضة التي اندلعت في فرنسا تشبه إلى حد كبير الربيع العربي في نقط عديدة، نذكر منها: - الانتفاضة غير مؤطرة من أي حزب، بل اندلعت بشكل عفوي بسبب الزيادة في وقود السيارات. - بدأت بسيطة ثم طفقت نارها تنتش لتشمل كل تراب الجمهورية العريقة. وإذا كانت المطالب في البدء مطالب متعلقة بالضرائب وتأثيرها على القدرة الشرائية للمواطنين، فسرعان ما ارتفع السقف لتصبح مطالب سياسية. - انتفاضة الفرنسيين أصبحت تستهدف هرم السلطة السياسة نفسه. الدعوة إلى استقالة الرئيس وتنظيم انتخابات مبكرة، أضحت الهدف الرئيس للانتفاضة. كنا نعتقد أن الأحزاب في بلدان العالم العربي وحدها قدمت استقالتها في مجال تأطير المواطنين، مما جعلها عاجزة عن التحكم في الشارع، لتتحول إلى كيانات عفا عنها الزمن ولم تعد تصلح سوى للتأثيث الحكومي العقيم. لكن يبدو أن الأحزاب في الغرب أيضا شاخت ووهن عزمها، بدليل أن المحتجين الذين أصبحوا يحملون اسم "السترات الصفر" لم يخرجوا استجابة لنداء نقابي، ولا نداء حزب معارض، بل خرج جمع من المواطنين لا يتجاوز بضعة آلاف للاحتجاج على ارتفاع مستوى المعيشة، والاحتجاج على الغلاء الذي ما فتئ مؤشره يتصاعد ليقضي على القدرة الشرائية للمواطنين. هؤلاء سرعان ما انضم إليهم غيرهم من الفرنسيين المتدمرين من السياسة الاقتصادية لحكومتهم، التي أصبح أغلب المواطنين لا يثقون في قدرتها على الاستجابة لتطلعاتهم. وأهم شعار رفعه المحتجون في وجه ماكرون وفريقه الحكومي، وكتبوه بالبنط العريض على لافتات كثيرة، هو "لقد انتخبناكم وعليكم الآن أن تحاسبوا". ماكرون يواجه أخطر أزمة سياسية منذ توليه السلطة، وللخروج من عنق الزجاجة، قرر أن يفتح حوارا وطنيا حول الأزمة، من أجل تحقيق مصالحة بينه وبين المحتجين. فبعد أن جرب القبضة الحديدية وجيش آلاف رجال الأمن للقضاء على الانتفاضة، لم يتمكن من ذلك، وراهن على عامل الوقت، خاصة بعد أن عمد إلى الزيادة في الأجور والتراجع عن بعض الضرائب، لبث الفرقة بين المتظاهرين، وجعل العديد منهم يتخلون عن الخروج إلى الشارع. وقد عرفت الاحتجاجات بالفعل بعض الفتور، لكنها عادت لتتقوى برجوع الجماهير المحتجة بكثافة إلى الشارع. هل سيتمكن ماكرون، الرئيس الشاب، من تجاوز هذا الزلزال الذي يهدد عرشه الرئاسي، أم إنه سيجبر على الاستجابة لمطلب رجل الشاعر الذي يتهمه بأنه رئيس الأغنياء، ولا يهتم بحقوق الفقراء وفئة الطبقة الوسطى، هذا ما ستثبته الأيام القادمة، لكن الأكيد أن هذه الاحتجاجات ستسم الزمن السياسي في فرنسا وباقي بلدان أوروبا. والأمر الأكيد هو أن رجال السياسة والاجتماع وكل الخبراء سيجدون في ما وقع ويقع مجالا خصبا لفهم المقدمات واستخلاص النتائج. لا شك أن ما أصبح يهدد الحكومات شرقا وغربا هو الانتفاضات التلقائية الناجمة عن الشعور باليأس والإحباط. زمن السيطرة على الشارع من خلال التحكم في الأحزاب والنقابات التي كانت صمام أمان الحكومات ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ولى وانصرم، وأصبح الحيف الاجتماعي الذي يشعر به المواطن هو وقود الانتفاضات. وحزب "فيسبوك" وكل مواقع التواصل الاجتماعي تؤطر المواطنين بفعالية تحسده عليها كل الأحزاب، ليصبح محرك الشارع بامتياز. العدالة الاجتماعية والحق في العيش الكريم أصبحا مطلبا عالميا، ورياح التغيير أصبحت تهب بقوة، فهل من معتبر.