ضَجَّت عليك المنابر وبكت عليك جبال صاغرو الصامدة، في يومٍ لم يشهد الجنوب الشرقي بعد وفاة أيقونة الغناء الثوري الملتزم مثله؛ ففي التاسع من يناير سنة 2011، استيقظت ساكنة درعة على خبر مفجع.. الخبر الأسوأ..مبارك أولعربي، صوت الهامش المنسي، لن يعود أبدا..رحَل تاركاً غُصّة في قلوب متتبعيه وحسرة في نفوس أصدقائه..منح الحركة الأمازيغية كل شيء ولم يأخذ منها شيئا. لم يكتب نهايته بيده، فما ألّم به كان خارج السيطرة؛ مرض غير رحيم أجبره على الترجّل عن صهوة الحياة..كان دائم الابتسامة لداء لم يرأف به، إنه مرض "شيرغ ستروس" الذي كانت زيارته مزعجة، إذ لم يجد عدوا أكثر من صحته لثنيه عن الدفاع عن القضية الأمازيغية وإيصال صوت المُهمّشين في مختلف المناطق الأمازيغية عبر بقاع العالم. "نْبَا"..رائد أسلوب "أمون" الغنائي وُلد مبارك أولعربي، الشهير بلقب "نْبَا"، سنة 1982 بقرية "مْلعب" الواقعة في النفوذ الترابي لإقليم الرشيدية، عاش طفولته بالقرية ذاتها، كما درس فيها مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي، قبل أن يشد الرحال صوب الجامعة بكلٍّ من الرشيدية ومكناس. حصل أيقونة الغناء الأكاديمي الملتزم على إجازتين: الأولى في العلوم السياسية سنة 2006، والثانية في شعبة الدراسات الفرنسية سنة 2009، ليشرع في تحضير ماستر بشعبة الأدب الفرنسي، لكن صحته المتدهورة دفعته إلى دخول المستشفى بشكل مفاجئ. حصل "نْبَا" على جائزة أفضل مغن أمازيغي ملتزم سنة 2010، سُلمت له من قبل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. كان أولعربي مُلِمًّا بمختلف جوانب الحضارة والثقافة الأمازيغيتين، ويعتبر مُؤسس وقائد المجموعة الغنائية الألمعية "صاغرو باند" (تأسست سنة 2005)، التي نجحت في بث نفس جديد داخل الأغنية الأمازيغية الملتزمة العصرية بالمغرب، عبر إرسائه "أسلوب أمون" ذي الطابع الثوري الحماسي. في هذا الصدد، يقول موحى ملال، الذي يُعد من المؤسسين لهذا الفن الجديد في ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ بكتابة عدد من القصائد أيام النضال من أجل الاعتراف بالثقافة الأمازيغية، قبل أن يصدر أول ألبوم له سنة 1989 بعنوان "أسيف ن دادس" أو "نهر دادس": "مبارك أولعربي مناضل فذ أعطى الكثير للقضية الأمازيغية..اشتغلنا معا في سبيل إرساء أسلوب غنائي فريد من نوعه يخصّ منطقة الجنوب الشرقي، يدعى "أمون سْتَايْل"، لكنه غادرنا إلى دار البقاء بشكل مفاجئ". ويضيف ملال في حقّ نْبَا، في حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونية: "ساهم في الدفاع عن القضية الأمازيغية بشكل كبير للغاية، إلا أن المرض الذي عانى منه عجّل بوفاته، فترك مكانته الخاصة في الساحة الغنائية الأمازيغية؛ لكن رغم ذلك يوجد شباب جديد يحمل المشعل ويسير في دربه، مُتخذين من القيثارة وسيلة للتعريف بالقضية". "صاغرو باند"..مزاوجة بين ماضي المقاومة وحاضر التهميش فنّان متعدد المواهب، جمع بين الغناء والتلحين والعزف على مختلف الآلات الموسيقية (القيثارة والناي وآلة السكسفون...)، فضلا عن موهبته الفريدة في نسج الشعر باللغات الأمازيغية والفرنسية والإنجليزية، دون إغفال الأعمال التي أنتجها في الرسم التشكيلي، سواء تعلق الأمر بالوجوه البشرية أم معالِم الطبيعة، بالموازاة مع متابعة دراسته الجامعية. وقد تمكّن "نْبَا" من تحقيق شهرة واسعة في حيّز زمني وجيز، رفقة مجموعة "صاغرو باند" التي تُنسب إلى "جبل صاغرو" الذي احتضن معركة "بوكافر" التاريخية؛ الأمر الذي جعل أغاني الفرقة تمزج بين ماضي المقاومة وحاضر التهميش. وجوده بالساحة لم تلتقطه الكاميرات كثيرا، وهو الموهوب الذي لم يعرفه الجمهور إلا عندما تغنّت أغانيه بالعمق الحضاري والهوياتي والتاريخي للأمازيغ.. كثيرا ما استثمر فصاحته العربية وإتقانه للغتين الفرنسية والإنجليزية، وكذلك حفظه لقصائد الشعر الأمازيغي القديم التي تفوح بعبق التاريخ الحضاري، من أجل تناول مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشغل بَالَهُ. محمد الناصري، مؤسس المجموعة الموسيقية "تَاوَرْكِيت" (الحلم)، قال لجريدة هسبريس الإلكترونية: "فقدنا إنسانا غاليا.. إنه شاب يحظى بشخصية قوية للغاية؛ لقد تمكّن من صنع الفارق وسط الساحة الفنية في ظرف وجيز، إذ تمت تأدية جميع أغانيه في مختلف البيوت الموجودة بالجنوب الشرقي، الأمر الذي ترتَّب عنه وعي هوياتي حول القضية الأمازيغية لدى جلّ الشباب"، وأردف: "كان لي شرف التمتع بصداقته ومعرفته خلال سنوات الدراسة الجامعية بمدينة الرشيدية..أحببت شخصيته وموسيقاه، وتعلمت الكثير منه أيضا..فَلترقد روحك في سلام يا صديقي". آلة القيثارة..رفيقة الدرب في الغناء الملتزم إن المتأمل جيدا لأغاني المجموعة الموسيقية سيجد أنها تشِي بما يعتمل داخله؛ ذلك أن اسمه طالما ارتبط بالغناء ذي الطابع الراديكالي، الذي ينطلق من وإلى هموم الإنسان الأمازيغي، إذ عمِل على تشريح أهم المفارقات التي تعتري الواقع السياسي المغربي المُعاصر، الأمر الذي تعكسه الألبومات الأربعة التي أصدرها؛ من قبيل "تيليلي" (الحرية) و"موحى" و"نو بوردرلاينز" (بلا حدود) و"أوسي إ تالا" (ساعدني على البكاء). كان يعيش غناءً، ويحب الغناء ويسكن الغناء، بل إنه كان يعتبر الغناء علاجه الأمثل في وقت المرض، إلى أن صار من أعظم المغنين الذين قتلهم الغناء. وما أصعب أن تكتب "كان" مع مبارك أولعربي، فهو ال "كان" وال"الكائن" وال"سيكون"..جمع شتات التاريخ الأمازيغي الضائع، وحوّله إلى أيقونة أبدية المعنى، ليجعل المُنصت يواجه حتمية الاندهاش.. شخصية استثنائية تستحق لقب "مانديلا الأمازيغ"، بعدما نجحت في إيصال صوت المُهمّشين في جبال المغرب العميق إلى طاولة الحكومة المركزية. حميد أيت علي، الناشط الأمازيغي، قال إن "المرحوم نْبَا كان مناضلا حقيقيا رغم قصر أمد حياته، إذ أعطى الكثير للقضية الأمازيغية في وقت وجيز"، وزاد: "يمكن وصف الفنان نْبَا بأول فنان في أسامر خالف المعتاد بأغانيه الثورية، الُمطالبة برد الاعتبار للإنسان الأمازيغي بصفة عامة، وللهوية الأمازيغية بشكل أخص..لقد رحل نْبَا وفقدت الساحة الأمازيغية صوتا مناضلا، فنانا". فاجعة الموت..صدمة وحسرة أبى الموت إلا أن يعانده قبل أن يُسدل الستار على مشواره الفني، ولم ينتظره في بلاده ريثما يُنهي ما بدأه في سبيل الدفاع عن القضية الأمازيغية، لتستيقظ الساكنة ذات يوم على وقع نبأ الوفاة الذي اعْتَصر قلوب كلّ الغيورين على الحركة الأمازيغية.. لكن النبأ المُفرح أن مبارك أولعربي نجح في المهمة التي حملها على عاتقه طيلة حياته، بعدما صار اسمه صدى يتردد وروحه نجما ثاقبا يتوهج في أغوار السماء، ليُضيء الطريق أمام كل إنسان أمازيغي. حسن كوجوط، صديق مُقرّب من الراحل، قال لهسبريس إن "مبارك أولعربي فنان أمازيغي كسّر الصمت الذي خيّم على المنطقة منذ أن وضعت القبائل السلاح في منتصف الثلاثينيات، إذ فجر الصمت السائد آنذاك، الأمر الذي انبثقت منه ثورة فكرية نطقت لغة موسيقية دوّت أرجاء المنطقة لتصل إلى باقي المناطق على الصعيدين الوطني والدولي". وأبرز كوجوط أن "مجموعة صاغرو باند أضفت نكهة خاصة على الفن الأمازيغي، من خلال تناول مواضيع اجتماعية، مثل الهجرة والبطالة وهموم الإنسان الأمازيغي؛ كما لم تفرط في الموروث التقليدي للفن الأمازيغي، ما جعلها تَسْتميل الأنظار في ظرف وجيز، وجذبت إليها جمهورا غفيرا من مختلف أنحاء البلاد". وأورد الفاعل الإعلامي والجمعوي، الذي يشتغل على إعداد فيلم وثائقي وكتاب في آن واحد، سيُخصِّصهما للتعريف بحياة الراحل: "حياته تطرح الكثير من الأسئلة، لأنني قمت بزيارته خمسة عشر يوما قبل وفاته بقرية مْلعب، فوجدت صحته تتحسن شيئا فشيئا، لكن مفاصله قد تدهورت بشكل مهول للغاية، وبالتالي تسرّب إلي الشك حول أيام مرضه، لاسيما أن تلك الفترة تميزت بالاغتيالات وتصفية الحسابات السياسية". وختم المتحدث تصريحه بالقول: "مازلت أتذكر السؤال الذي طرحه نْبَا في آخر مقال كتبه أيام مرضه وإحساسه بجرعات الألم: ما هدف من أراد أن يقتلني بهذه الطريقة؟..سؤال آلمني كثيرا وأنتظر الجواب إلى حدود الساعة، هل مات الرجل مسموما أو مات بشكل طبيعي؟". وفي الختام، يحق للأغنية الأمازيغية أن يكون لها عيد سنوي يكون يومه يوم وفاة "نْبَا"، حتى يطمئن الجميع على مستقبل القضية الأمازيغية بهذا الميعاد السنوي، لأن البكاء أو الرثاء لا يكفيان في ذكرى وفاته، وإنما الوفاء لمبادئه أسمى منهما معا.