حسب منظمة العمل الدولية فإن "الحوار الاجتماعي هو المصطلح الذي يصف مشاركة العمال وأصحاب العمل والحكومات في صنع القرار بشأن مسائل العمالة ومكان العمل. وهو يشمل كافة أنواع المفاوضة والتشاور وتبادل المعلومات فيما بين ممثلي هذه المجموعات بشأن المصالح المشتركة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية وسياسة العمل. ويشكل الحوار الاجتماعي في الوقت نفسه وسيلة لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي وهدفاً بحد ذاته، إذ يمنح الناس صوتاً وحافزاً في مجتمعاتهم وأماكن عملهم". يرتكز الحوار الاجتماعي في المغرب على مرجعيات مختلفة منها الفصل الثامن من دستور سنة 2011، والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب، خاصة الاتفاقية رقم 154 بشأن تشجيع المفاوضة الجماعية المعتمدة من طرف المؤتمر الدولي للشغل في دورتها 67 المنعقدة بجنيف في 19 يونيو 1981، ثم مدونة الشغل. على إثر دخول الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية مرحلة الجمود، بعد إعلان الأخيرة مقاطعتها للحوار احتجاجا على عدم الاستجابة لمطالبها من بينها الزيادة العامة في الأجور وبدون استثناء قدرها 500 درهم على الأقل ودفعة واحدة، وعلى ما أسمته ب"العرض الحكومي الهزيل" الذي يتضمن زيادة قدرها 300 درهم في المرة الأولى و 400 درهم في المرة الثانية في أجور الموظفين في السلالم 6 و7 و8 و9، وأصحاب الرتب من 1 إلى 5 في السلم العاشر، والرفع من التعويضات العائلية ب100 درهم. يجدر بنا أن نتساءل عن أسباب فشل الحوار الاجتماعي؟ وما هي تداعيات ذلك؟ تعود أسباب فشل الحوار الاجتماعي في الأطراف المتحاورة ذاتها، فالحكومة تبرر عدم الاستجابة للمطالب الاجتماعية المتعلقة بتحسين الدخل والقدرة الشرائية بإكراهات مالية من خلال دفاعها عما تسميه "تسريع الإصلاحات" والتي تعني إيجاد الهوامش المالية الضرورية والحفاظ على التوازنات المالية. غير أنه وبالرجوع إلى طبيعة الائتلاف الحكومي الذي أفرزته الانتخابات التشريعية لسنة 2016، الذي تطلب إيجاد تسوية بين الأحزاب المتحالفة بمرجعيات مختلفة (إسلامية ويسارية، وليبرالية)، أنتجت (التسوية) برنامجا سياسيا هجينا بعيدا كل البعد عما صوت عليه المواطنون. وبذلك سنجد أن أي مبادرة اجتماعية يقودها حزب في التحالف الحكومي كالزيادة في الأجور بنسبة معقولة قد تواجه بالرفض من طرف حزب أو أحزاب أخرى وخاصة في هذه المرحلة بالذات. فمناقشة قضايا الإصلاح على بعد سنتين ونصف من الانتخابات التشريعية تعتبر صعبة جدا مع ارتفاع منسوب عدم الثقة بين الأحزاب، حيث أن هذه الأخيرة منهمكة منذ الآن في الصراع على السلطة القادمة وهذا ما لاحظناه في الآونة الأخيرة (خاصة بين حزبي العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار)، وهو ما قد يؤدي إلى خطر حصول التفكك في التحالف الحكومي في أية لحظة. فيما يخص النقابات المركزية، فيمكن لأي ملاحظ موضوعي أن يرى التراجع الملموس في أدائها بسبب الارتباك التنظيمي وضعف التأطير وحالة التشظي الذي تعرفه، ومما يزيد الأمور سوء هو غياب قانون ينظم عملها وهو ما يجعل ظروف عملها أكثر ضبابية وصعوبة، فدورها الحالي لا يتعدى الاهتمام النظري بتحسين أوضاع الشغيلة في أماكن العمل والزيادة في أجورهم في مواجهة الحكومة وأرباب العمل، فردود أفعالها محتشمة جدا، ولعل انسحابها الأخير من الحوار الاجتماعي بدون أن يوازيه أي برنامج نضالي منسق فيما بينها لخير دليل على ذلك. أما فيما يتعلق بالطرف الثالث في الحوار "الاتحاد العام لمقاولات المغرب"، فإن مصالحه جد مركزة مقارنة بالأطراف الأخرى، ويسعى دائما إلى تعزيز هذه المصالح، وبذلك يملك حافزا قويا يدفعه إلى تنظيم نفسه بدقة كبيرة وبانسجام تام بين أعضائه عكس الحكومة والنقابات. كما يتوفر على تمثيليات سياسية سواء من داخل البرلمان أو التحالف الحكومي (أغلب الوزراء أو أقربائهم يملكون مقاولات)، وله ارتباط وثيق بحزب له دور محوري في الحكومة (التجمع الوطني للأحرار)، ورئيسه الحالي كان أمينا عاما لهذا الحزب في الماضي القريب. وبالتالي فهو أكثر نشاطا وأكثر تأثيرا وله قدرة ضغطية كبيرة على الجدل العمومي وفي مشاركته ضمن عملية صناعة القرار في هذا الحوار لصالحه. إن فشل الحوار الاجتماعي في هذه الظرفية بالذات ستترتب عليه تداعيات اجتماعية وربما سياسية خطيرة، فالطبقة الوسطى تشهد تآكلا غير مسبوق، فهذه الفئة الاجتماعية باتت تعاني وضعا اجتماعيا واقتصاديا صعبا بالنظر إلى مستوى المعيشة الذي يرتفع باستمرار وانهيار قدرتها الشرائية بفعل ارتفاع أسعار الاستهلاك والسكن، بالموازاة مع تجميد الأجور بل تقليصها على مدى الأربع سنوات الأخيرة في إطار إجراءات ما يسمى " بإصلاح منظومة التقاعد"، الأمر الذي أدى بها إلى الانحدار نحو دائرة الفقر. إن اعتقاد صناع القرار السياسي أن النقابات لا تقوى على أي رد فعل ميداني بسبب ضعفها، وبالتالي "يحق لهم" اتخاذ ما يرونه مناسبا لهم في مجال السياسة الاجتماعية، هو اعتقاد غير محسوب العواقب. فعندما يرى المواطنون مؤسسات الوساطة من بينها النقابات، عاجزة على نقل مطالبهم إلى النظام السياسي والدفاع عنها، والحكومة لا تتحدث بصوتهم ولا تحس بوجعهم، تخيب آمالهم وتنعدم الثقة بينهم وبين مؤسسات الدولة. وبإمكان هذا الأمر أن يؤدي إلى حالة "الفوضى" الاجتماعية، ستتولد عنه حركات اجتماعية خارج القانون (تنسيقيات فئوية، مظاهرات عفوية..). ففشل الحوار الاجتماعي هو بمثابة ناقوس خطر ينذر بتوقع ارتجاج قد يهز المجتمع، لأن استهداف الطبقة الوسطى التي تعتبر ضابطا اجتماعيا ومحركا للاقتصاد في كل المجتمعات وأحد العوامل الأساسية لتوازن المجتمع وانسجامه، سيؤدي إلى انحيازها للطبقة الدنيا لإجراء تغيير على المستوى المعيشي أو حتى على المستوى السياسي، فدورها لا يقتصر على تحريك الدورة الاقتصادية من خلال الاستهلاك فحسب، بل تعد محركا ثقافيا و"إيديولوجيا" للمجتمع. إن أكبر تحدي ستواجهه الدولة المغربية في السنة القادمة (2019)، هي المطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي يرفعها المجتمع المغربي من أجل تطوير القدرة الشرائية، ومقاومة الفساد بجميع أشكاله. ففشل أو "إفشال" الحوار الاجتماعي وعدم الاستماع والإنصات للفئات المقهورة ستؤدي إلى عواقب لا يمكن التحكم فيها. فصانع القرار السياسي لا يحتاج إلى مزيد من الوقت فإما إيجاد نموذج تنموي يتضمن توجهات اجتماعية قوية وواضحة مع استحضار الظروف الإقليمية (احتجاجات تونس والسودان..) والدولية (احتجاجات في الدول الأوربية)، وإما السير على النهج القديم وما ينطوي على ذلك من مخاطر وكوارث قد تستمر إلى وقت طويل. *باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية