كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة" نموذجا يرحم الله القائل: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، ترى لو تسلحنا بهذه القولة الذهبية، هل يسب بعضنا بعضا، أم هل يفسق بعضنا بعضا، أم نصل لنكفر بعضنا بعضا، يتلقفها البعض ممن لا كوع لهم في العلم ولا بوع من قاصري النظر ليترجمها إلى عنف حتى بدون معرفة فحوى القول المخالف؟ فما أثاره كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة" لصاحبة الباحث رشيد إيلال من نقاشات ساخنة قامت قيامتها ولم تقعد بعد، كان لا بد من تسجيل جملة من الملاحظات نوردها كالآتي: - سواء اتفقنا مع ما خلص إليه الباحث كليا أو جزئيا أو اختلفنا معه في كتابه هذا، كان لا بد من الالتزام بالحد الأدنى من الاحترام، لمجهوداته البحثية التي اقتطعت من عمره ستة عشر سنة على حد قوله في إحدى حواراته، بدل الهجمة الشرسة التي قوبل بها؛ إذ لم يتركوا نعتا إلا ورموه به. فمن التفسيق إلى التحقير، إلى التكفير، إلى الدعوة إلى حرقه هو وكتابه، إلى التسفيه، إلى رميه بالتطفل والجهل وهلم هلوسات قدحية يضيق المقام لذكرها مجتمعة، مسجلة صوتا وصورة بمجموعة من الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي. ألم يكن الأولى بهؤلاء على الأقل إنزاله منزلة أهل الكتاب ومجادلته بالتي هي أحسن؟ ثم أين القول بأن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد؟ - تتبعت مجموعة من الحوارات معه على شاشة أكثر من قناة وأكثر من موقع فذ. رشيد إيلال بكل بهدوء يرافع عن أطروحته بكل ما أوتي من حجة وبرهان، ابتداء من التساؤل عن الفترة الزمنية بين البخاري وأقدم نسخة منسوبة إليه بما أنه لم يخط سطرا بيده، تمتد لحوالي مائتي سنة، وذكر أنه حتى شارحه أشار في مقدمة كتابه "شرح فتح الباري شرح صحيح البخاري" لمؤلفه الحافظ ابن حجر العسقلاني، أنه اعتمد من بين ثلاثة عشر نسخة وجدها بين يديه على واحدة ارتأى أنها الأقرب إلى الصحة. فلم لا مناقشته في هذه الجزئية التاريخية بدل سبه وشتمه؟ ثم توقف بالنقد عند مجموعة من الأحاديث يقول إن منها ما يتعارض مع صريح الآيات القرآنية، كحديث "لقد جئتكم بالذبح" أو حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم بحق الإسلام وحسابهم على الله"، أو رواية "من بدل دينه فاقتلوه"، يتساءل ما إن كانت هذه الأحاديث المبثوثة في صحيح البخاري، تستقيم مع الآية الرائعة التي تحمي حرية المعتقد "لا إكراه في الدين"؟ والآية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". ثم يناقش قضية سحر الرسول عليه السلام المبثوثة بتفصيل في الصحيح، بأنه عليه السلام ظل طيلة ستة أشهر وفي رواية عاما كاملا يفعل الشيء ويظن أنه لا يفعله. فماذا يمثل هذا الحديث أمام قوله تعالى "والله يعصمك من الناس"؟ وناقش أيضا ما يتعارض كلية مع العلم، كالحديث الذي يربط ظاهرتي شروق الشمس وغروبها ليس بسبب علاقتهما بدوران الأرض حول الشمس، وإنما بسجودها تحت عرش الرحمان عند الغروب حتى يأذن لها بالشروق. أيضا ناقش قصة انتحاره عليه السلام أكثر من مرة، فيتعرض له جبريل قائلا "إنك حقا لرسول الله". فهل يستقيم الانتحار مع مقام النبوة مع ما يلزمه من ضعف إيمان، وفتور عزيمة، واضطراب نفسي، ووسوسة الشيطان؟ وقصة معاشرته عليه السلام لزوجاته التسع وفي رواية الإحدى عشر في الليلة الواحدة وفي غسل واحد والقول بأنه أعطي قوة ثلاثين رجلا. فهل نسلم، يتساءل الباحث، بهذا الحديث لنزكي الطرح القائل بأن النبي عليه السلام كان شهوانيا، أم نشطبه من الصحيح، أو ليتفضل السادة علماء الحديث ليبينوا القول الفصل فيه؟ كما ناقش الحديث عن الشؤم الوارد في الصحيح. أحاديث كثيرة يدعو هو وغيره إلى إعادة النظر فيها مثل حديث الشؤم الوارد في الصحيح، "إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس". فهل يستقيم الحديث مع ما ورد في كتاب الله من علو شأن المرأة، (بلقيس ملكة سبأ وغيرها نموذجا)؟ أمثلة أخرى من مثل زنا القردة ورجمها، وزواج القاصرات ودعوته عليه السلام لمزاحمة النصارى في الطرقات. أو ما يتعلق باليهود وعلاقتهم بخنز اللحم، أو الحديث عن قبيلة من بني إسرائيل مسخت فئرانا بدليل أنها إذا قدم لها حليب الشياه شربته، وإذ أعطيت حليب الإبل رفضته. فالباحث لا يطلب أكثر من نزع قبعة القداسة عن الكتاب، تصل لدى بعض العرب ليقسموا عليه، حتى تتم مراجعة الأحاديث التي تحوم حولها الشبهات، وتنقيته من كل ما يتعارض مع الأحاديث النبوية الصحيحة، وصريح النص القرآني، ومعطيات العلم الثابتة. فالأستاذ إيلال يورد الأمثلة ويناقشها بكل برودة دم، وبدون تشنج حتى وهو يتحدث عن مكفريه والمحرضين عليه ممن لم يتركوا نقيصة إلا وألصقوها به. فبدل مناقشة خلاصاته علميا، يقفزون عليها ليغرقوا في نهش لحمه بالسب والشتم والقذف، وبأنه لا شهادة علمية له، بما أن مستواه لا يتعدى الثانية إعدادي، وكأن أصحاب الشواهد العليا بجامعاتنا يغرقون سوق القراءة بمؤلفاتهم وبحواراتهم الثقافية. فما الذي كان مع العقاد من شواهد وهو الذي أغنى المكتبة العربية بمؤلفات في شتى المجالات. فالباحث يفتخر بأنه لم يكمل دراسته بالمدرسة العمومية، وإلا لما كان أحسن حالا ممن يوصفون ب"احفظ واعرض". فهل عجلة العلم ستتحرك بالاستعداء والتكفير والتفسيق وبرمي المخالفين بأقذع النعوت؟ - أتساءل لِمَ قوبِل الأستاذ رشيد بهذه الهجمة الشرسة؟ أعتقد أن ما لفت انتباه هؤلاء هو العنوان الذي يتحدث عن سقوط الأسطورة، أما دعوته إلى شفط ما ذكره من أحاديث تسيء إلى النبي عليه السلام، فليست جديدة على الإطلاق. فقبله بمئات السنين أنكر أئمة حفاظ بعض ما ورد في هذا الصحيح، ابتداء من بعض شيوخه أنفسهم لما عرضه عليهم، كما استدرك عليه الإمام مسلم (حديث الإسراء)، والإمام الرازي، والترمذي، والدارقطني أشهر من انتقده، والنووي وابن حزم الظاهري...، وصولا إلى الشيخ الألباني والشيخ محمد عبده والشيخ العربي العلوي، وانتهى الأمر بدون تفسيق أو استعداء، وفي الآن نفسه لم ينقص ذلك شيئا من قيمة كتاب البخاري العلمية. بل ومن منتقدي البخاري من ذهب أبعد من ذلك، إذ بالحاسبة قام بعمليات حسابية قارن فيها بين ستة عشر سنة مدة إنجاز الكتاب الذي قال عنه ابن حجر "إنه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات 7397 حديثا"، استخلصها من أصل 600 ألف، وباحتساب عدد الأحاديث الممحصة في السنة والشهر واليوم والساعة، ليخلص إلى تخصيص كل حديث بربع ساعة. فاستنتج أنه بمنهج البخاري الدقيق يستحيل ذلك. اتفقنا معه أو اختلفنا، يبقى عمل البخاري اجتهاد بشري جبار، ولكن مهما بلغ جلال قدره، فلن يصل إلى درجة القداسة، تنزهه عن النقد والتمحيص والمراجعة بما يخدم السنة النبوية الصحيحة. *كاتب