ماذا لو كان الشهيد خاشقجي صحفيا أمريكيا، وكان الرئيس الأمريكي ترامب هو من أمر فرقة الكومندو بخنقه وتقطيعه إربا وتذويبه في الأسيد؟ حتما كانت القيامة ستقوم.. حينها سيُعتقل الرئيس الأمريكي مطأطأ الرأس ذليلا مهانا، وتزامنا مع جلسات القضاء الأمريكي لإصدار حكم قانوني بإعدام الرئيس المجرم، سترتفع أصوات النشطاء الحقوقيين أمام المحكمة، وهم يحملون صور خاشقجي ولافتات كتب عليها: كلنا خاشقجي.. الحرية في خطر.. أمريكا في خطر.. نحن أختنق.. الحرية تختنق.. سيخرج الملايين من أنصار الحرية في العالم يبكون الشهيد خاشقجي، وهم يرفعون شعارات تندد بالقاتل وتنتصر للضحية، مع وضع باقات من الورود والأزهار والشموع الحزينة الباكية، أمام صوره الشامخة الزاهية، وسيتجند المجتمع بكل مكوناته للتنديد بالجريمة الهمجية الدموية، ضد سفاح حرية التعبير، وسيقول وزير الدفاع الامريكي بنبرة صارمة، لن نسمح لأي مجرم أن يمس بالقيم الأمريكية التي تعتبر الحرية ركيزتها الأساسية، أما القس الطاعن في السن فسيقول بصوت شجي إنه يوم حزين في تاريخ أمريكا الحرة أن يُغتال قلم مدافع عن الحرية ولينظر المجرم وهو يعانق ابنته العزيزة إل يديه الملطختين بدماء الروح البريئة.. ستنتعش مبيعات كتب المفكرين والفلاسفة الذين كرّسوا حياتهم للحرية، بدءا من محاورات محاكمة سقراط وتراجيديا إعدامه من طرف الطغمة الحاكمة الفاسدة التي رأت في انتشار آرائه الجريئة تهديدا لمصالحها.. وكيف تواطأ القضاء الفاسد مع الساسة الفاسدين لتلفيق تهمة احتقار المعتقدات وإفساد الشباب تجاه سقراط الذي كان أفنى حياته في تربية الشباب.. هكذا ستقام الكثير من الورشات لتغطية هذه التراجيديا المفجعة، في مختلف مؤسسات الفضاء العمومي، وسائل إعلام، جرائد، جامعات، مراكز دراسات، ندوات، محاضرات، مسرحيات، أمسيات شعرية.. وسيعاد بعث الفيلسوف فولتير وإحياء رسالته في التسامح، والكشف عن خطورة الاستبداد السياسي، وفداحة توظيف المقدس الديني لذبح حرية التعبير، وسينْتصِبُ الفيلسوف اسبينوزا من جديد ليرافع عن الحق في حرية الاعتقاد، وسيُحاجج مونتسكيو عن ضرورة الفصل بين السلط، وستنهض حنا أرندت من مرقدها الأبدي، لتصيحَ من جديد في وجه أعداء الحرية "النازيون الجدد".. وهي التي عاشت في ربيع الحرية الأمريكية..سيحكي لها تشومسكي بألم عميق كيف أصبحت أمريكا دولة فاشلة، مسؤولة عن تدمير القيم الإنسانية في العالم، ووبيع الأسلحة الفتاكة ونشر الحروب الكونية، وتدجين المثقفين الأكاديميين، ليعزفوا لحن الرأسمالية المتوحشة، مقدِّما حُجَجا واقعية من قلب أمريكا، أمثلة تصرخ بالعنصرية، وتحويل الإنسان الأمريكي من ذات لها كرامة، إلى سلعة تبحث عمن يشتريها.. كاشفا عن علاقة زواج المال بالسلطة في إنتاج العبودية الجديدة.. وسيصفق الجمهور الأمريكي لتشومسكي ولن يصفوه بالعدو المتآمر على أمريكا.. وستنفذ مبيعات الطبعة المائة من كتاب "نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض" الذي يكشف فيه الكاتب الأمريكي مايكل وولف فضائح ترامب وعدم أهليته العقلية للحكم، وضلوعه في تولي محمد بن سلمان دواليب السلطة في السعودية.. ستتحول سريعا قصة "الشهيد خاشقجي" إلى فيلم هوليودي بعنوان "أنا أختنق" سيحصل الفيلم على الكثير من الجوائز السينمائية الكبيرة، وستصبح أغنية الفيلم "أنا أختنق.. الحرية تختنق" الأكثر استماعا وتصنيفا في مواقع التواصل الاجتماعي.. وستتحول القنصلية التي قُتِل داخلها إلى مبنى دولي للصحافة وحرية التعبير، وستخصص جائزة كبرى تسمى "جائزة خاشقجي للصحافة وحرية الرأي" وتسمية مراكز ومؤسسات بحثية اجتماعية، ثقافية، حقويقة وسياسية وشوارع باسم "الشهيد خاشقجي".. مع وضع تمثال لخاشقجي في قلب أكبر الجامعات العالمية. أنا أختنق.. حين وضع القتلة كيسا على رأس خاشقجي، لتصفية روحه بعدما عجزوا على تصفية أفكاره، كان يردد كلمة أنا أختنق.. ما أقسى هؤلاء الوحوش، وهم يقطعون جثة خاشقجي بالمناشير، والدماء لن تزول أبدا من أيديهم.. قتلوه فقط لأنه رفض اعتقال واغتيال نشطاء الرأي.. قتلوه رغم أنه هاجر كي لايزعجهم برأيه.. رأيه كان مختلفا لم يقبل بشن حرب على اليمن والتطبيع مع إسرائيل التي تقتل الأبرياء في وطنهم فلسطين.. قتلوه لأنهم لم يتربوا على القبول إلا برأيهم فلا رأي إلا ما يرون.. غياب حرية التعبير داخل المملكة السعودية على غرار مختلف الأنظمة العربية، يجعل الجو خانقا، لأن الحرية هي ماهية الوجود الإنساني، حرية التعبير، حرية الرأي، حرية المعتقد، حرية الاختيار.. وهي ما يطور ممارسة التفكير والإبداع الفكري في مختلف الميادين، كيف ننجح حوار الحضارات والقبول بالاختلاف، ونبذ العنف والتطرف، إذا كنا لا نسمح بحرية التعبير ونذبح بوحشية كل من يحمل رأيا مختلفا عن آرائنا. هنا تبدو أهمية فولتير (Voltaire François-Marie Arouet) في لحظة عصيبة من تاريخ فرنسا، حيث كانت السلطة تستخدم القضاء الفاسد، لملاحقة كل من يعتنق مذهبا دينيا غير المذهب الكاثوليكي الدين الرسمي للدولة، وكيف يُلفق القضاء الكثير من التهم التي تنتهي بإعدام أبرياء، من أشهرها تهمة قتل جون كالاص البروتستناني لابنه مارك أنطوان كالاص بدعوى أن ابنه اختار أن يكون كاثوليكيا، وحكمت المحكمة بإعدام الأب بطريقة وحشية جمعت كل مظاهر التعذيب، من خنق في الماء وتكبيله والطواف به في الأزقة، حيث تقصفه حشود المواطنين الكاثوليك بالأحجار والنفايات ويعبث به الأطفال.. وبعد التشهير به وتمريغ كرامته في الوحل، حتى يكون عبرة لكل صاحب معتقدٍ مُغاير ورأي مختلف.. بعدها سقتل ويُقطع جسده وأحرقت جثته.. في أكبر مشاهد استخدام الدين كأداة للتخويف وصناعة الطاعة والخضوع. لا يمكن في هذا المناخ الاستبدادي، أن تنمو الأفكار وتتقدم العلوم والفنون والاقتصاد.. باختصار لا يمكن لمثل هذه الدولة أن تزدهر، وفولتير الذي سافر إلى إنجلترا والتقى مع الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة والأدباء، ولاحظ أجواء التسامح الديني والتعايش بيم مختلف الطوائف الدينية في ابريطانيا.. بفضل إشاعة الحريات، وتأثيرها على التطور الفكري، العلمي، الاقتصادي والسياسي.. سيدرك فولتير أهمية "التسامح" وسيكتب رسالته في التسامح.. لأن التعصب والتحجر ورفض الرأي الآخر وتجييش الأصوات ضد رأي لا يتفق معنا، هو دعوة للكراهية وتحريض على العنف، وخنق لحرية التعبير، والنتيجة خنق الإنسانية، مادام كل إنسان هو عينة تختزل الإنسانية جمعاء بتعبير كانط، وهذا ما جعل فولتير رغم رفضه لأفكار القس LeRiche يقول "سيدي القس أمقت ما تكتب، لكني سأهب حياتي كي تواصل الكتابة". صيانة حرية التعبير، وحماية حرية الرأي، مهما كان هذا الرأي مخالفا لرأي المجموع، شريطة عدم أن يكون "رأيا" وليس قذفا ولا دعاية عنصرية أو مساسا بحياة وسلامة الأفراد وممتلكاتهم، أما الرأي الذي يطالب بمحاربة الفساد ومساءلة ومحاسبة المفسدين، في إطار تحملهم للمسؤولية بتبعاتها وامتيازاتها، فلا بد لهؤلاء المسؤولين القبول بقواعد اللعبة، ولا يمكنهم اتهام الصحافة بالتشهير، وسن وتشريع قوانين على مقاس سرير بروكست Procuste، واعتقال واغتيال الصحفيين الذين لا تتناسب قامات آرائهم مع طول سرير السلطة الحاكمة، ونحن نعلم أن بروكست في الأسطورة اليونانية كان قاطع طريق، يكبل المسافر الضحية في السرير، وإذا كان ضيفه أطول من السرير قطع أطرافه بالمنشار حتى الموت، وإذا كان أقصر من طول السرير يُمدِّدُ جسده حتى تكسر عظامه فيموت.. السلطة في العالم العربي بروكستية تريد تنميط وقولبة المجتمع، وكل من يرفض القولبة سيلقى نفس المصير.. الموت.. هناك صحفيون أحرار اختاروا الحرية، ولم ترعبهم مناشير وكلابات ومطارق ومثاقب وسلاسل بروكست، وهؤلاء لن يموتوا أبدا، وجمال خاشقجي أحد هؤلاء الأبطال، أما الصحفيون الصغار أصحاب القامات الدعائية القزمية، الذين دفنوا رؤوسهم في الوحل واختاروا الصمت، فبروكست لن يتركهم لحالهم رغم انبطاحهم، سيظل يعبث بهم ويطالبهم ببتمديد دعايتهم إلى يموتوا في أعين الجماهير بعدما تخلوا عن حقهم المشروع في حرية التعبير وقول الحقيقة. الصحافة الحرة هي أساس الدولة الديمقراطية، على اعتبار أنها تجمع كل مظاهر الحرية، حرية التعبير، حرية الرأي، حرية مناقشة القضايا والمواضيع اعتمادا على قوة الحجة لا حجة القوة، مناقشة علنية، وليس في جلسات سرية huis clos محاكمات سرية، اجتماع حكومي مغلق، قرارات سياسية سرية.. لهذا فالصحافة الحرة هي الصوت الذي يقوم بتنوير الرأي العام، حتى يتسنى للمواطنين معرفة الحقائق في شتى الميادين، وهذا ما يجعل الحصول على المعلومة حقا من حقوق المواطنين لمعرفة حقيقة ما يحدث في الوطن، وإشراكهم في الترافع في مختلف القضايا بتداول الآراء والمطارحة لا بفرض الأفكار والمناطحة. حرية التعبير مدرسة لصناعة المواطن المتمدن، الذي يستخدم عقله ويعبر عن رأيه بالحجج القاطعة والأدلة الساطعة والبراهين الدامغة، وهو مواطن يرفض العنف، مواطن منْفتِحُ على الآراء المعارضة، يناقشها بهدوء، دون التعرُّض لأصحابها بالشتم والاستفزاز، أو التفكير في تصفيتهم.. لأنه مواطن تربى على مناقشة الأفكار لا الأشخاص..ختاما الصحافة الحرة هي الرئة الطبيعية لتنفس هواء الحياة الحرة.. الصحافة ليست جريمة.