الديمقراطية هي القبول بالاختلاف، والقدرة على تدبير الاختلاف، بقوة الحجة لا حجة القوة، وأهم مؤشر للديمقراطية هو إشاعة حرية التعبير في الفضاء العمومي. الدولة التي تغتال حرية التعبير، تغتال الديمقراطية، بمعنى أنها تسحق الاختلاف، وتصنع القطيع الذي لا يفكر ولا ينتقد ولا يبدع.. والنتيجة أن هذه الدولة، تحرم نفسها من الكفاءات وتظل دولة عاجزة قاصرة، وتتكاثر في جسدها العليل الطفيليات التي تستنزفها وتعمق ضعفها. تفي آخر مقال كتبه الشهيد جمال خاشقجي في صحيفة "واشنطن بوست" وصف بحرقة إجهاز معظم الحكومات العربية على حرية التعبير، مع استثناءات هامشية تؤكد ولا تستثني قاعدة سحق الأنظمة العربية لحرية الرأي، فلا رأي إلا ما يرى الحاكم (ما أريكم إلا ما أرى)، أما الشعوب ما هي إلا قطعان من الخراف الضالة، عليها السمع والطاعة والخضوع، وإلا فمصيرها هو مصير خاشقجي التنكيل والتعذيب، الذبح والتقطيع.. لقد لعبت بعض الدول دورا مركزيا في وأد الربيع العربي بتمويل الثورة المضادة بملايير الدولارات، لتيئيس الشعوب من الديمقراطية، والديمقراطية هي الأم الشرعية للحرية.. والدولة الديمقراطية هي دولة المؤسسات، أما الدول العربية فهي دول الأشخاص (الحكام)، لا مجال للمقارنة بين دُولٍ ديمقراطية تقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، وتقدير الكفاءات، ودول سائبة يمكن للحاكم فيها أن يقتل برعونة مفكرا كبيرا، ويُجزل العطاء لعاهرة.. لقد وضع الشهيد خاشقجي أصبعه على مكمن الجرح النازف في الوطن العربي، وهو خيانة النخب لرسالتها، وتحديدا خيانة الكثير من الصحفيين في هذا الوطن الجريح لرسالتهم في قول الحقيقة بشجاعة وجرأة، مما يجعلهم شركاء في الفساد، حين يعتقل ناشط حقوقي أو يغتال سياسي معارض أو تدوس سيارة صحفيا حُرّا.. وتقوم أغلب المنابر الإعلامية بدفن رأسها في الفساد، وقلب الحقائق أو تغطية مهرجان تافه.. حتما ستخسر جماهيرها، وهذا ما يجعل جل المواطنين يهجرون إعلام بلدانهم ويبحثون عن إعلام بديل يعكف على المتابعة المستمرة لاختطاف صحفي استثنائي في دولة مستبدة.. حين اختار الشهيد خاشقجي أن يفضح كارثة حقوق الإنسان في السعودية، وقسوة تكميم الأفواه، وحجم الفقر في أغنى دولة عربية، وجريمة الحرب على اليمن، وسفاهة جزية الملايير الممنوحة للبيت الأبيض، وانتقاده لسياسة ولي العهد السعودي..كان يقوم بدور الإعلامي الحر النزيه، الذي ينحاز للحقيقة ولا ينحاز إلى مصلحته الشخصية، ولو أراد أن يكون ماسح أحذية لتلميع صورة بلاده لحصل على ثروة طائلة وامتيازات خيالية، وهذه رسالة لبعض الصحفيين غير السعوديين الذين دبجوا مقالات تشتم خاشقجي وتنعته بالمتآمر على وطنه، هؤلاء الصحفيين الذين كتبوا على ظهورهم "مقالات للبيع".. الشهيد خاشقجي يقول لهؤلاء "الحقيقة ليست للبيع". إعلان السعودية مقتل خاشقجي وفق سيناريو ردئ الإخراج، بدعوى شجار حدث بينه وبين مواطنين سعوديين في "الحي الشعبي" داخل القنصلية السعوية بتركيا، هي رواية ضعيفة كتبها البيت الأبيض وقٍرأتها الرياض..أمريكا طبعا تضع المزيد من الفخاخ والشراك لحليفتها، قصد المزيد من الابتزاز ..لأنها لا ترى في الوطن العربي إلا بقرة حلوبا، والحل الحقيقي هو الرهان على الشعوب، لا الاعتصام بالحبل الإمبريالي، باختصار الحل هو دمقرطة الأنظمة العربية. أول خطوة نحو الديمقراطية والمصالحة مع الشعوب، هو إطلاق سراح جميع سجناء الرأي والمعارضين السياسيين، لأن تكميم الأفواه وإخراس الأصوات بالاعتقالات والاغتيالات، هو مؤشر خطير على خروج قطار الدولة عن سكته، والمآل سيكون كارثيا، وليبيا وسوريا مجرد عينتين عن فواجع سحق حقوق الإنسان، لأن ماهية الإنسان هي الكلام.. وهذا معنى قول الفيلسوف أرسطو "الإنسان حيوان ناطق" فصفة النطق وحرية التعبير هي ما يجعل الإنسان إنسانا، وإذا حُرم من هذه الصفة سيصبح مجرد حيوان.. وحذار من الإنسان حين يتحول إلى حيوان. [email protected]