استضافت شوارع وساحات مدينة تولوز الفرنسية تظاهرة فنية ضخمة لفرقة " La Machine " بعنوان "حارس المعبد" وهي عبارة عن ملحمة تتناول الأسطورة الإغريقية "أستريون" وذلك بواسطة آلات وربوتات عملاقة تجسد الشخصيات الرئيسية للملحمة، واتخذت الفرقة من الفضاءات العمومية لمدينة تولوز مسرحا لفصول الملحمة طيلة أربعة أيام (من فاتح نونبر 2018 إلى الرابع منه ). الملحمة المكونة من أربعة فصول، يشخصها الروبوتان العملاقان أوستريون وأريان، وهما آلتان من صنع وابتكار فرقة "Machine" نفسها. تستحضر الفرقة إذن في هذه التظاهر الفنية الأسطورة وتعيد صناعة أطوارها أمام ساكنة وزوار مدينة تولوز في مشهد عمومي مباشر. فأي أبعاد إستيطيقية لهذا الدمج بين الأسطورة والتقنية في الفن المعاصر؟ وماهي الرهانات التي تدفع الفن المعاصر إلى جعل الفضاء العمومي مسرحا له؟ نبذة عن فرقة " La Machine " فرقة " La Machine " ؛ فرقة مسرحية تأسست عام 1999 بقيادة فرونسوا دولاروزيير François Delarozière ، اشتغلت الفرقة طيلة مدة نشاطها وفق تصور يسعى إلى إدماج الفن في الفضاء العمومي، وجعله عاملا رئيسا في إضفاء الطابع الحضاري على المدينة. لذلك لم تنحصر أعمال الفرقة في المسرح فقط، بل اشتغلت أيضا على المنشآت والمنحوتات الضخمة المثبتة بالساحات والحدائق العمومية، كما أنها كانت شريكا مهما في العديد من خطط التهيئة الحضرية لمدن أوربية عديدة. وبالإضافة إلى رهان إخراج الفن إلى الفضاء العمومي، ففرقة "الآلة" تراهن كذلك على الاستفادة من التطور الصناعي والتكنولوجي في الفن، ومن تم ابتكار أعمال فنية معاصرة بطابع تقني وآلي، وهذا الرهان يبدو واضحا من الاسم الذي اختاره الأعضاء المؤسسون للفرقة، وهو ما يجعل الفريق لا يتألف فقط من فنانين بل يضم أيضا ميكانيكيين وتقنيين ومهندسين وخبراء ديكور وكتاب سيناريو ومخرجين... الفرقة منذ تأسيسها جعلت لنفسها شعارا طموحا يسعى إلى تغيير نظرة المواطنين إلى مدنهم، نحو نظرة استيطيقية للفضاء ذات حمولة شاعرية عوض النظرة الأداتية المحنطة والعدمية اتجاه الفضاء. معنى الإبداع في تجربة "Machine" الفنية: تذوب فرقة ماشين الحدود بين مختلف الأجناس الفنية والعلمية والتقنية، وتحطم التقابل القائم بين الفنان والتقني وبين الفن والصناعة. وإذا أمكننا القول؛ ففرقة La Machine تستعيد الدلالة القديمة "للفن" عندما كان يحيل على مختلف المهارات والصنائع، وتجسد بشكل ملموس تجربة الدمج بين الفن والحرفة. إن الابتكار بالنسبة لفرقة Machine أقرب إلى الصناعة منه إلى الإبداع بمفهومه الرومانسي، وهو ما تبرزه بشكل واضح طريقة اشتغال الفريق وكذلك الورشات والمحترفات التي تتم داخلها صناعة المنشآت والمنحوتات العملاقة سواء بورشة Nantes وكذلك Tournefeuille. لا نتحدث هنا إذن عن الإبتكار بمعناه الرومانسي والفردي حيث يكون يكون العمل الفني نتاج عبقرية الفرد ونتاج عواطفه وتجاربه الوجدانية، بل إننا أمام نموذج آخر للإبتكار مخالف للنموذج الحديث. إنه ابتكار فني معاصر لا يراهن على طابع الأصالة، وليس له نبع واحد ولا سلطة مرجعية ممركزة في طرف معين. منابع الإلهام فيه مشتتة ومختلفة الطابع، بحيث يتداخل فيها إلهام الكاتب مع إلهام المسرحي، والتقني والمهندس والميكانيكي. كل ذلك ؛ داخل الورشة – المصنع. يكون العمل الفني وفق تجربة Machine نتاج عمل جماعي يمر عبر مراحل عديدة وكأنه يمر من سلسلة إنتاج، بدءا بتصور دقيق وخطة محكمة، مفصلة على شكل تصاميم هندسية ورياضية ( الأمر أشبه ببناء برج أو طائرة) كما أنه يصنع بطريقة مفككة ومجزأة، بحيث تصنع كل قطعة على حدى في وحدة إنتاج منفصلة، ليتألف في الأخير العمل الفني من مجموع الوحدات الصناعية التي تكمل بعضها البعض، إذ لا معنى هنا للجزء إلا داخل الكل. لا مجال إذن للخطأ أو الصدفة في العمل الفني، فمنهجية العمل تقتضي الصرامة العلمية والدقة التكنولوجية. أما في حالة وقوع أي خطأ أو تفاوت في النسب مهما كان دقيقا، فهذا سيؤدي إلى حوادث مدمرة وخسائر غير مرغوب فيها، وهذا يعتبر من بين الأسباب التي تجعل العمل الفني يستغرق مدة طويلة قد تصل إلى سنوات، كما تكون تكلفته الإنتاجية باهظة الثمن. أغلب الأعمال الفنية التي ينتجها فريق Machine تكون ذات طابع عمومي، أي أنها تثبت أو تعرض بالفضاء العمومي وفي الوقت نفسه تكون ملكيتها عمومية، أي أن عملية إنتاجها منذ البداية تكون وفق تصور فني يستحضر مفهوم العمومية وهو ما يوجه مختلف مراحل إنتاج العمل، من التصميم إلى التثبيت أو العرض. لذا نرى أن الجماهيرية رهان مؤسس للفرقة ولعملها الفني، فهي لا تراهن على النخبة أو الأقلية في تلقي أعمالها، بقدر ما تراهن على الجماهير الغفيرة، كونها تستهدف إعادة صياغة تمثل الإنسان للفضاء العمومي من منظور إستيطيقي، وهو ما لا يمكن ان يتأتى إلا إذا نجحت الفرقة في استمالة الجماهير وجذبهم داخل الفضاء العمومي. ليس من الممكن إذن أن يقبع الفنان في مرسمه أو أن يدعو الناس إلى معرضه أو إلى أحد الأروقه أو المتاحف، بل إنه ملزم اليوم إلى الخروج والتحرر من قيود المؤسسة والنسق. يصير دوره حيويا في الفضاء العمومي في ظل نزوح الفن نحو الفضاء الافتراضي، في مقابل نزوح الفضاء العمومي نحو الخوصصة وتعرضه للاحتلال التجاري والتقني، وهذا من شأنه أن يؤثر في منظومة القيم التي تتولد عن هذا الفضاء العمومي، وكذلك علاقة الإنسان بالفضاء، التي أصبحت علاقة عبور مفرغ من كل حمولة وجدانية أو جمالية. نبذة عن أسطورة المينوتور: تشخص ملحمة "حارس المعبد" لفرقة Machine الأسطورة الإغريقية "ماينوتور" أو "أستيريون"، لكن بشكل مطور ومبتكر. وهي أسطورة ثور بجسد آدمي، مسجون داخل متاهة، كان قد ولد إثر علاقة غير شرعية بين باسيفاي زوجة الحاكم ماينوس وثور جميل فائق البياض. تحكي الأسطورة أنه بعد اعتلاء ماينوس العرش في كريت، كان يناضل مع إخوته على فرض سلطته في جميع أرجاء البلاد، ومن أجل تحقيق هدفه تضرع ل بوسيدون (إله الأعماق والبحار عند الإغريق) فندر له أضحية منقطعة النظير، تتمثل في دبح ثور أبيض كبياض الثلج حالما يوافق بوسيدون على تحقيق رغبة مينوس. وعندما تحقق له ما تمناه كان عليه أن يضحي بالثور الأبيض على شرف بوسيدون لكنه قرر الاحتفاظ به إذ راقه جماله ووقع في إغرائه. وكان على ماينوس أن يتحمل العقاب لعدم إيفائه بوعده ل بوسيدون فجعلت آلهة الحب أفروديت زوجته باسيفاي تقع بشكل جنوني في حب الثور الكريتي الأبيض. فطلبت باسيفاي من المهندس البارع ديدالوس أن يصنع لها نموذجاً لبقرة من الخشب مجوفة من الداخل، حتى تتنكر داخله فتشبع رغبتها الجنسية مع الثور الأبيض، وقد نتج عن هذه العلاقة ماينوتور؛ الوحش الأسطوري الذي قامت باسيفاي برعايته خلال فترة طفولته. سرعان ما نمى ماينوتور وأصبح مفترساً وكان أمراً غير عادي أن يجمع بين الإنسان والوحش كما لم يكن لغذائه مصدر طبيعي إذ كان يفترس البشر ويأكل لحومهم ليسد جوعه. فحصل الملك ماينوس على المشورة من الوحي أوراكل عند معبد دلفي بأن يبني اللابيرنث Labyrinth أو المتاهة العملاقة لتكون مسكناً ل ماينوتور، فقام ديدالوس ببنائها بالقرب من قصر ماينوس في مدينة كونوسوس، وتم احتجاز المينوتور في هذا المكان ليركض بين ممراته عاجزاً عن الخروج. بدأت المأساة عندما فاز ابن الملك (ماينوس) ببطولة الألعاب الأوليمبية التي تقام دائماً في أثينا فحصل على الكثير من الهدايا والجوائز مما جعل ابن ملك أثينا يستشيط حقداً وغضباً فقام بإرسال بعض قطاع الطرق لكي يهاجموا ابن ملك كريت ويمزقوه إرباً. وكانت هذه الجريمة كافية لكي يثور ملك كريت الذي علم ما حدث لابنه بالتفصيل فقام بتجهيز جيش جرار وزحف به نحو أثينا وقام بذبح الكثير من الأثينيين بل ولم يكتفِ بهذا القدر فقام بحصار المدينة ليجبر جميع أهلها على الاستسلام. وقد كان هذا الحصار مرهقاً بالنسبة لأهل أثينا فقد شح عنهم الماء ونفد الطعام لفترة طويلة، فما كان من إيجوس ملك أثينا إلا أن ارسل إلى ماينوس ليعرض عليه الصلح، لكن الاب المكلوم رفض الصلح وقال إن أثينا كلها لا تعوضه عن ابنه ومع ذلك قبل الصلح على أن يعود إلى كريت ومعه 7 فتيان اقوياء وسبع فتيات عذارى ليلقى بهم إلى المينوتور ولم يجد ملك اثينا إلا أن يوافق على هذا العرض الذي كان يتكرر كل عام وفي روايات أخرى كل تسع سنوات، وإلا سيواجه حرباً أمام حضارة كريت القوية آنذاك. مرت السنون وأهل اثينا يدفعون هذه الضريبة الغالية من أبنائهم الشبان إلى ان ظهر ثيسيوس وهو ابن ملك اثينا من امرأة ريفية والذي ألح على والده أن يرسله إلى كريت مع مجموعة الشبان والفتيات ليلاقي المينوتور، كان ثيسيوس يشعر بمذلة شعبه وكان لديه أمل في أن يصرع المينوتور ليخلص شعبه من هذا الثمن الباهظ وينهي عهد الذل، وبعد مجهود كبير اقنع ثيسيوس أباه بأن يذهب فركب السفينة مع رفاقه ماخرين البحر إلى جزيرة كريت، وكان ثيسيوس قد وعد أباه بأن ينزل الشراع الأسود للسفينة ويرفع الشراع الأبيض بدلاً عنه كإشارة لأبيه بأنه عاد حياً بينما يكون أبوه يراقب عودة السفينة من الأفق وهو على الشاطئ، وإن لم تتحقق النجاة فسيظل الشراع أسودَ وبذلك يعلم أنه لاقى مصرعه أمام المينوتور. ووصلت السفينة إلى كونوسوس ونزل منها ضحايا المينوتور ليلقوا مصيرهم البشع، وكان من الطبيعي أن يمر هؤلاء الضحايا على الملك ليرى كم هم شباب أقوياء وكم هن فتيات حسناوات لكن اريادني ابنة الملك ماينوس أعجبت كثيراً بالبطل الاثيني ثيسيوس الوسيم مفتول العضلات كشأن الابطال الاغريق، وقد وعدها انه سيتزوجها إن ساعدته في التخلص من ذلك الوحش الدموي الذي يكون في الأصل اخيها من جهة الأم وتناست أن أخ ثيسيوس هو قاتل شقيقها فقررت ان تنقذه من براثن المينوتور، فقدمت له كرة من الخيطان وسيفاً بتاراً وفي لحظة دخول الضحايا إلى اللابيرنث قام ثيسيوس بربط الخيط عند المدخل، ليعود مسترشداً به بعد أن يقتل المينوتور وانتظر ثيسيوس حتى جن الليل وتسلل بين الممرات باحثاً في حذر عن غريمه المرعب، وحانت المواجهة عندما وجد الوحش نائماً فبادره بعدة طعنات قضت عليه واخمدت أنفاسه إلى الابد ونجح ثيسيوس في قتل المينوتور وعاد ليتزوج من ابنة الملك كما وعدها ويفر معها من جزيرة كريت برفقة بقية الشبان الذين أنقذهم من المصير المحتم على يد ماينوتور، لكن لسبب ما نسي (ثيسيوس) خلال رحلة عودته على السفينة أن يرفع الشراع الأبيض فظن الأب الذي يراقب قدوم السفينة بأن ابنه لاقى حتفه فرمى نفسه في البحر حزناً عليه ليموت غرقاً. ملحمة " حارس المعبد" بفضاءات تولوز: لطالما كانت أسطور المينوتور مصدر إلهام للفنانين في الشعر والمسرح والسينما والغناء أيضا، بمن فيهم دانتي في "الكوميديا الإلهية"، والمغنية الفرنسية باربرا في أغنيتها Le Minotaure (1973)، وغيرهم. كذلك ألهمت هذه الأسطورة فريق La Machine وقام بتشخيصها في أرجاء الفضاء العمومي، على شكل ملحمة تقنية وآلية جد متطورة. بيد أن المينوتور هذه المرة لم يمت كما جاء في الأسطورة الإغريقية، بل لا زال على قيد الحياة، وسيستيقظ ذات صباح ليعاود تجواله بين ردهات وجدران المتاهة، التي ليست هذه المرة سوى أزقة وشوارع مدينة تولوز العريقة. ولعل إعادة إحياء هذا الكائن الأسطوري ليس من باب تمديد عمر الحكاية وتمطيطها، بل إنه إحالة إلى استمرار الأسطوري في الزمن المعاصر وفق أشكال أخرى ليست بالضرورة ذات طابع ميتولوجي أو تيولوجي، والتقنية الذكية أكبر تجل لهذا الأسطوري في زمننا، بها نحيا وبها نموت، هي قدرنا ومصيرنا، هي المطلق الذي لطالما كيفنا صورته وفق صورتنا ومنطق رغباتنا. لهذا فشخوص الأسطورة لم يعودوا بشرا، ولا آلهة ولا أنصاف آلهة، بل هم ربوتات آلية عملاقة، يقودها وينسق حركاتها تقنيون ومهندسون من مختلف التخصصات: الميكانيكا، المعلوميات، الصوت، كيميائيون وفزيائيون، تقنيو الإضاءة، بالإضافة إلى مخرجين وموسيقيين... لكن هؤلاء جنود خفاء ليس إلا. في حين أن الشخصيات الرئيسية والأبطال الأسطوريين هم الروبوتات العملاقة، التي ليست آلات لتأدية وظائف أو مهام يومية بسيطة، كنقل البشر، أو غسل ملابسهم وصحونهم، بل هي آلات لتجسيد أدوار شخصيات أسطورية من الميتولوجية الإغريقية، أي آلات لها القدرة على التشخيص وإثارة مشاعر المتفرج وتحفيز خياله. الملحمة الآلية لا تدور أحداثها في مسرح واحد، بل تجوب شوارع المدينة، وهي تؤدي أشواطا وفصولا مختلفة من الأسطورة مصحوبة بالموسيقى، والأصوات التي تصدرها الروبوتات والآلات العملاقة، ومشاهد النيران والبخار التي تنفثها في الهواء، مشكلة بذلك مشهدا أسطوريا محسوسا مبهرا يشد الناظرين ويدمجهم في الحدث، ما يتيح لنا الحديث عن مبدأ أساسي من مبادئ الفن العمومي المعاصر، ألا وهو "المباشرة": يتيح هذا المبدأ للمتفرج أن يكون طرفا في الحدث الفني نظرا لغياب أي وسيط بينه وبين العمل الفني لا على مستوى الفضاء ولا على مستوى الزمن، أي أن المتفرج يتلقى العمل الفني بشكل آني ولحظي ويعيش كل تفاصيل تشكل العمل كحدث يقع لحظة تلقيه Happening، وما إن ينتهي العمل الفني من التشكل حتى يعلن زواله أمام المتفرج، ليتوقف بدوره عن التلقي. وهو ما يجعلنا نتحدث عن خاصية الزوال والانمحاء في العمل الفني المعاصر. لأن ما يستدعيه هذا العمل ليس البقاء أو الخلود بل الفرجة وخلق الحدث مع إدماج المتلقي داخل التجربة- الأثر، وما تتركه هذه التجربة في المتفرج من تمثلات حسية عابرة، تجيش عواطفه وأحاسيسه، وتتركه في حالة انبهار بالعمل الفني، لكنه انبهار قصير المفعول، وسرعان ما يتبدد هو نفسه. يمكن القول أن هذه الملحمة المعاصرة، تستحق حمل لقب أبرز تظاهرة فنية عمومية معاصرة في عصرنا الحالي. وهذا التوصيف يستند على مجموعة من المقومات التي نرى أنها مفصلية في هذا الحدث الفني، الذي يشكل من جهة لحظة توليف بين الأسطورة والآلة (الروبوت)، ومن جهة أخرى لحظة اندماج بين الفن المعاصر والفضاء العمومي. ومن جهة ثالثة لحظة لقاء بين الفنان والمهندس - التقني. ومن المفارقات التي يثيرها هذا الحدث الفني، أننا نكون في قلب فرجة من فعل الآلة أو لنقل أن الآلة هي محورها. وهنا يحضرنا التساؤل حول علاقة التقنية بالفن؟ والتي لطالما تم مقاربتها كعلاقة نفي واستبعاد خصوصا مع هيدغر؛ فبقدرما تحضر التقنية يُستبعد الفن، وبقدرما يحضر الفن تُستبعد التقنية. لكن ربما في حالتنا هته يجب أن نفتح أمامنا أفقا آخر يؤمن بالتقاء التقني بالفني، والآلي بالإبداعي. فالآلة وإن كانت كومة من المادة، تم ترتيب أجزائها وفق خطة محكمة وصارمة لتأدية وظيفة من الوظائف، فيمكن لها أن تكون سندا رئيسا في تأدية أدوار فنية فائقة الواقعية أو فائقة الخيال، قد لا يستطيع الإنسان تأديتها مهما بلغت شاعريته. ما يعني أن الآلة قد توسع أفق الإبداع الإنساني وتفتحه على المطلق واللامتناهي. أوليست التقنية هي ميتافيزيقا العصر أو روحه المطلق؟ قد نستطيع التوفيق بين عناصر هذه المفارقة إذا استحضرنا إحالة هايدغر إلى أحد أبيات الشاعر فردريش هولدرلين"حيثما يوجد الخطر، فهناك النجاة ". ربوتات تولوز الملحمية تجسد قدرة هذا الخطر الآلي على الإبداع الفني، يكفي الآن أن نستوعب أن الآلة قدرنا المحتوم وأنه لابد من التفكير في أبعادها الإستيطيقية عوض النظر إليها نظرة نفور رومانسي. * باحث جمالي