"كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {آل عمران:37}".. توجت التلميذة الطفلة مريم امجون ذات التسع سنوات (أصغر مشاركة في المسابقة) بجائزة "تحدي القراءة العربي" لعام 2018، بدبي، متفوقة على 300 ألف مشارك من كافة البلدان العربية، بعدما استطاعت من خلال مشاركتها قراءة 200 كتاب، وشاركت ب60 منها في المسابقة. فضلا عن ذلك، أبرزت التلميذة المتوجة قدرات عالية في التواصل وحسن الإنصات والتفاعل مع عدة قنوات تلفزية بلسان عربي فصيح، خلال كل مراحل استجوابها، أثناء حفلات التكريم والتتويج؛ لتكون مثالا صادقا ينبغي أن يحتذي به كل متعلم عصامي يطمح إلى المعالي. ولقد صدق من قال: "من يقرأ يفكر ومن يفكر يبرهن". في اعتقادي يطرح تتويج مريم بجائزة تحدي القراءة ثلاث ملاحظات، بيداغوجية وعلمية جوهرية، على كافة المتعلمين والمعلمين في مختلف الدرجات التعليمية في بلادنا، بشأن فن الكلمة وسلطة القراءة ودورهما الفعال في صقل قدرات النشء في بلادنا، تتمثل في الآتي: مدى فشل برامجنا ومقرراتنا الرسمية المهووسة بالتلقين والحشو الكمي على حساب تنمية الفكر النقدي والإبداعي وبناء متعة القراءة وبهجتها عند المتعلمين والطلبة، والتركيز المبالغ فيه على متطلبات سوق الشغل (بدون توفر إستراتيجية تنموية حقيقية لضمان فرص الشغل)، بدل الاعتدال بين المطلبين من خلال الإنصات لهم وتوجيههم للارتقاء بمواهبهم وتهذيب إحساسهم وشعورهم الإنساني، وتكوينهم في الإنسانيات وعلوم الديمقراطية، مع التركيز على ضمان الثقة في أنفسهم وعلى الاستثمار في العمق المعماري الشعري والإنساني والفكري الذي يسكن ذواتهم. لكن لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات في تكوين القدرات؟..كما أبرزت الكاتبة الأمريكية "مارتا نوسبوم"، هناك حاجة ماسة، اليوم، إلى أفكار وتجربة الشاعر والفيلسوف الهندي طاغور، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1913، والذي لعب دورا أساسيا في قيادة وتجديد التربية والتكوين في العالم، إذ كان له الأثر العميق في المناداة بتقوية قدرات المتعلم / الطالب عبر الاعتماد على تطبيقات حجج سقراط/ (أو المنهج السقراطي في توليد المعرفة، لأن أم سقراط كانت مولدة) في تلقين الفلسفة والموسيقى والفنون والمسرح والرقص في كل مراحل التعليم، ما التقطته الدول من هذا الفيلسوف المشرقي ونشرته في كل بقاع العالم، لاسيما في أوروبا، واليابان والولايات المتحدةالأمريكية. بناء عليه، أسس طاغور عام 1901 مدرسة تجريبية في شانتينكايتان، سعى من خلالها إلى تطبيق نظرياته الجديدة في التربية والتعليم، وذلك عبر مزج التقاليد الهندية العريقة بتلك الغربية الحديثة. المدرسة التي تحولت عام 1921 إلى الجامعة الهندية للتعليم العالمي. إلى جانب عبقرية طاغور الأدبية والتربوية بدأ يرسم، وهو في الستين من عمره، وهو يقول: "عندما بدأت أرسم لاحظت تغيراً كبيراً في نفسي، بدأت اكتشف الأشجار في حضورها البصري، بدأت أرى الأغصان والأوراق من جديد، وبدأت أتخيل خلق وإبداع الأنواع المخلفة منها، وكأنني لم أر هذه الأشجار مطلقا من قبل، أنا فقط كنت أرى الربيع، الأزهار تنبثق في كل فرع من فروعها.. بدأت اكتشف هذه الثروات البصرية الهائلة الكامنة في الأشجار والأزهار التي تحيط بالإنسان على مدى اتساع نموه". 2- دور التكوين الذاتي، يعني المطالعة الشخصية في بناء شخصية الطفل والمراهق والشاب- فكرا وفلسفة – وتقوية قدراتهم جميعا من خلال توسيع خيالهم السوسيولوجي والإبداعي في فصل الخطاب وسبر أغواره ومعانيه. فكما قالت مريم إن القراءة تحصن الفكر ضد الجهل والبلادة والتفاهة... 3- أنسنة المتعلم والرقي به إلى مستوى الذوق الرفيع في تلمس عذوبة وجمال وصدق الكلمة والإبداع، عبر اكتساب فن القول وسلطته وقيم التسامح. كما أبرزت مريم مدى إعجابها بشجاعة وإقدام الأسطورة عنترة ابن شداد وبقصة بحبه لابنة عمه عبلة ابنة مالك، وكذا افتخاره بقبيلته ونسبه، وهي القارئة النبيهة التي تعرفت بدون شك على خيباته ومآسيه، حين رددت بعض أشعاره، عند استضافتها من طرف بعض القنوات العربية، لتعرب عن حس أدبي إنساني رفيع مرددة من القصيدة التي مطلعها: لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ العربُ لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ. ويبدو أن مريم لم تلتقط إحساس لسان حال الشاعر المصري الشاب مصطفى الجزار، اليوم، زمن التردي، عندما خاطب عنترة عبر القصيدة الشعرية الملحمية التي قدمها ضمن مسابقة أمير الشعراء في أبو ظبي، مؤخرا، والتي لم تحظ بشرف التتويج، إذ رفضت من طرف لجنة التحكيم، والسبب الذي عللت به هذا الرفض هو أن موضوعها لا يخدم الشعر الفصيح.. كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرَة لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يوماً، فقدْ سقطَت من العِقدِ الثمينِ الجوهرة. تحية إكبار وإعجاب إلى الطفلة مريم امجون التي، كما كتب الإعلامي المقتدر الأستاذ أحمد زايد في "تدوينته": "عانقت الكتاب وجعلت منه شجرتها الوارفة"، وتحية خالصة لوالديها ولمدرسيها...وإلى كل المربين الملهمين الذين يحرصون دائما على زراعة متعة وبهجة فعل القراءة وسلطتها، في نفوس أبناء المغاربة، كافة، منذ الصغر، من أجل ولوج محراب الكلمة الطيبة، وفن القول، وفصل الخطاب، من بابه الواسع. وقيل قديما: "زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون".