بعث أحد أمراء الصين بعض رجاله إلى الحكيم "تشوان– تسو" فأخبروه برغبة الأمير في أن يتولى الحكيم منصبا رفيعا في الدولة..وبعد صمت طويل صرخ الحكيم في رجال الأمير قائلا: «إنني اختار أن أجرجر أذيالي في الأوحال كما تفعل السلحفاة..». وتنطوي هذه الحكاية على ألغاز كثيرة أبرزها وأقربها إلى التناول أن الحكمة تأبى القيود، وإن كانت من الذهب.. ذكرتني هذه الحكاية للحكيم الصيني الذي عاش في القرن الرابع قبل ميلاد المسيح عيه السلام بقصة الكاتب الصحافي (المختفي) «جمال خاشقجي»، الذي خرج من بلاده، حيث تبوأ مكانة مرموقة وتقلد مسؤوليات هامة جعلته مقربا من السلطان الحاكم والمحيطين به من الأمراء النافذين؛ ثم فجأة جاءه أمر من ولي الأمر الجديد بالتوقف عن الكتابة، فضاقت به الأرض بما رحبت..فخرج إلى أرض الله الواسعة، طلبا للحرية التي تمكنه بأن يقول رأيه ويمشي، دون حسيب أو رقيب من أحد مهما كانت سطوته وجبروته وطغيانه.. بعيدا عن السياسة وما يلابسها من مداهنة ومواربة وزلفى، والسلطان وما يرافقه من غطرسة وتهديد..وكل ما يتنافى مع الفكر الحر الذي ينبض بالحياة والصدق ويدعو إلى يقظة الفكر والثورة على الظلم والطغيان والاستبداد..فرسالة الفكر تستنير بالحرية..والكتاب الأحرار هم الذين يلتزمون بالقيم والمثل البانية للإرادات الحرة. والحرية تعبير عن قدرة الإرادة على الفعل ووسيلة يحقق بها الفرد والمجتمع أهدافه في التحرر والانعتاق والتقدم.. مسالة الحرية جوهرية في الاجتماع الإنساني عامة، وأيضا في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة.. وكلمة الحرية من أكثر الكلمات استعمالا في القاموس السياسي الحديث..وتستعمل مرادفة للاستقلال والديمقراطية والتنمية.. ولمفهوم الحرية أهداف متباينة: حرية الفرد وحرية الطبقة وحرية الأقلية في مقاومة الأغلبية والأمة في مصارعة أعدائها..والمطالب بالحرية يلجأ إلى مبررات دينية أو تاريخية أو فلسفية يتوخى منها إثبات المطلب من الحرية.. فالذي ينشد الحرية يتطلع إلى التحرر والانعتاق من الخضوع لسلطان مطلق يكرس حكم الفرد أو حكم أجهزة أو عصبية أو طبقة.. وأساس الحرية الاختيار وأول مظهرها الإرادة، ومنها تطل كل الحريات الأخرى..فالشعور الفطري هو إثبات للوجود الذي هو عين الحرية..ومن هنا كان المفهوم الإسلامي للحرية عند التطبيق واجب التحقيق، وليس مجرد حق من الحقوق فقط.. والواجب قانون عقلي تأمر به الإرادة في شخص فاعل أخلاقي..والعمل الأخلاقي الذي ترمي إليه الحرية عن طريق الاستقلال الذاتي إنما هو المواءمة بين العقل وبين الإرادة..وغني عن القول إن الإنسان يتحرر بإرادته واختياراته..فعملية الإصلاح والتقدم تعبر عن إرادة الناس من أجل العمل على تحقيق أمانيهم وآمالهم.. والحرية تشمل تحرير العقل وتحرير الفكر والإرادة والعمل..لكي تكون السيادة للقانون الذي يعبر عن إرادة المواطنين ويدين له المجتمع بالولاء المطلق..ويجعل من الحاكمين مجرد موظفين وخدام لمصلحة المحكومين.. فرسالة الفكر هي إرساء لقواعد الحرية، والدفاع عن مبادئها، وقيمها الإنسانية الخالدة.. وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الحرية، لأنها الغاية التي تسعى إليها لبلوغ أعلى المراتب في المدنية والتحضر والعمران البشري واطراد التقدم. ويسجل التاريخ أن الصراع في المجتمعات التقليدية بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص يستند على الأفكار لمواجهة الاستبداد والحكم الديكتاتوري الذي يضطهد المفكرين وقادة الرأي الذين يدافعون عن الحرية باعتبارها الامل في نجاح رسالة الفكر في التنوير ودحض الطغيان.. في هذا الصدد يرى الأستاذ عبد الله العروي في كتابه «مفهوم الحرية» أن اتساع نطاق الدولة في المجتمع العربي الإسلامي أدى إلى اتساع الوعي بضرورة الحرية المجردة المطلقة، وغاب عن الأذهان البدوي كحامل مشعل الحرية والأصالة والمحافظ على المروءة والفصاحة..لذلك أصبحت البداوة مرحلة تجاوزها التاريخ.. (ص.29) وقد نشأ عن تقوية الدولة نزوعها إلى الإطلاق والشمول. كما نتج عن ذلك أيضا الضغط على المجتمع والأفراد.. واعتبر كل فرد حر مستقل عدوا للدولة.. وكلما اتسع نفوذ الدولة ارتبطت الحرية بها وكثرت التشريعات التي تنفي الحقوق الفطرية والكونية للإنسان..ومن المسلم به أن أسوأ نظم الحكم النظام الفردي المطلق..فمن واجب الدولة أن تكون الضامن للحريات الفردية والجماعية، لا أن تكرس العبودية. لقد ترتب عن هذا الوضع رفض الأفراد للحكم الشمولي الذي يمكن الدولة من السيطرة على مناحي الحياة ومقدرات المجتمع..فالفرد يريد أن يكون له دور في الدولة يتيح له المشاركة في الشأن العام باعتباره مواطنا يتحمل مسؤولية في المجتمع.. ويساهم بعلمه وعمله، ويكون له حق التصرف اللامشروط.. والمشاركة في قضايا المجتمع.. إن التطورات السياسية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع العربي الإسلامي ستجعل الدولة التقليدية المركزة في سلطاتها واتساع مجالها غير ملائمة للأوضاع الجديدة المطبوعة بالتطورات الحضرية والعمرانية وانتشار مفهوم الحرية في مجال الإدراك وفي مجالات المخاطبة والتعبير.. ورفع شعار الحرية في جميع ميادين النشاط الإنساني من أجل تحرير الإنسان من الأساليب العتيقة.. ومن هنا جاءت الدعوة الإصلاحية باسم الحق والمصلحة، لأن الأمر مرتبط بإصلاح سياسات الدولة ونظامها لكي تتلاءم مع التطورات الاجتماعية..فلا بد من ربط التطور الاجتماعي بالتطور السياسي، والخروج من بنية الدولة والمجتمع التقليدين..لأنهما يعيقان حركة التطور والتقدم. فدعوة الحرية مرتبطة بالإصلاح الذي يهدف إلى الانعتاق من الاستبداد..ومشاركة الشعب في الحكم.. ومن نافلة القول إن حاجات المجتمع تولد من صميمه.. إذا ما وجدت منظومة فكرية منبثقة عن مفهوم الحرية.. وهذا ما أدركه المرحوم «جمال خاشقجي» عندما هرب من الاستبداد بحثا عن فضاء يفكر فيه بحرية.. إن شرط الرجل المثقف في كل عصر أن يطبع عصره ويلازمه في تفكيره وعمله، كما يلازمه في نظرته إلى العالم من حوله، فلا يعيش في الزمن الحاضر بعقل الزمن الماضي، ولا يترجم الواقع بلغة الوهم والخرافة..