تعتبر جلسات اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ الأمريكي؛ التي جرت طيلة الأسبوع الماضي بشأن ترشيح الرئيس الأمريكي ضمن صلاحياته الدستورية للقاضي "بريت كافانو" لعضوية بالمحكمة العليا الأمريكية؛ فرصة مهمة لاطلاع عن قرب على العمل المهم الذي تقوم به اللجان بالغرفة العليا "مجلس الشيوخ" الأمريكي، فالنظام الرئاسي الأمريكي قائم على الفصل الكبير بين السلط تماما كما نادى بذلك جون لوك، وبالتالي فإن الكونجرس بغرفتيه يتمتع بصلاحيات تشريعية ورقابية هائلة، وإذا كان مجلس النواب يعتبر المتخصص بشكل كبير في إقرار الموازنة، فإن من بين أهم مميزات مجلس الشيوخ التصويت على التعيينات في الإدارة الأمريكية الفدرالية، حيث يتمتع الرئيس الأمريكي بصلاحيات تسمية ما يقارب 3500 موظف بداية من أعضاء إدارته مرورا بالقضاة الفدراليين واعضاء المحكمة العليا وصولا للسفراء والقناصل والمسئولين عن الوكالات والمؤسسات الوطنية ... إلخ، وفي هذا الإطار ميز الدستور الأمريكي بين فئتين من الوظائف التي يمكن للرئيس التسمية فيها، بحيث تحتاج الفئة الأولى إلى موافقة مجلس الشيوخ على التعيين، بينما ينفرد الرئيس بتسمية وتعيين الفئة الثانية. ومنذ أن استقال عضو المحكمة العليا الأمريكية القاضي "أنتوني كينيدي" الذي بلغ 81 سنة من عمره قضى منها 30 سنة كعضو بالمحكمة العليا، وهو الذي كان وسطا بين الليبراليين والمحافظين وصوت مرارا لكل من الطرفين، جاءت الفرصة للرئيس دونالد ترامب لكي يعين قاضيا محافظا لكي تميل الكفة بشكل جلي ولزمن طويل لصالح المحافظين في هذه المحكمة الأهم والتي تؤثر قراراتها بشكل كبير على قضايا الاجهاض والسلاح (تضم حاليا 4 ليبراليين و4 محافظين وتنتظر العضو الجديد)، فقام الرئيس الأمريكي بتسمية القاضي المحافظ والمتدين "بريت كافانو"، وقام البيت الأبيض بإرسال ملف عن المرشح وهو الملف الذي بلغت عدد صفحاته 42 الف وثيقة حول فترة اشتغاله بالبيت الأبيض خلال عهدة الرئيس الأسبق جورج وولكر بوش / الإبن، وتمت إحالة الملف على اللجنة القضائية الدائمة بالمجلس، وللإشارة فإن مجلس الشيوخ يتكون من 24 لجنة دائمة وتتكون كل منها من عدد من اللجان الفرعية. وتعتبر اللجنة القضائية من بين اقدم اللجان بمجلس الشيوخ فقد تم إنشاؤها سنة 1816، وتختص بشكل أساسي في التصويت على تعيينات الرئيس للقضاة الفدراليين ومن بينهم قضاة المحكمة العليا، وتتكون هذه اللجنة الدائمة من 21 عضوا: 11 جمهوريا من بينهم رئيس اللجنة و 10 ديمقراطيين، وتضم هده اللجنة الدائمة 6 لجان فرعية وهي: لجنة مكافحة الاحتكار، وسياسة المنافسة وحقوق المستهلك، لجنة الدستور، لجنة الجريمة والإرهاب، لجنة الهجرة والمصلحة الوطنية، لجنة الرقابة وعمل الوكالة وحقوق الاتحادية والمحاكم الاتحادية ولجنة الخصوصية والتكنولوجيا والقانون، كما تختص بالمسائل المتعلقة بمكتب التحقيقات الفدرالي FBI والقوانين المتعلقة بالهجرة والجنسية وحقوق الانسان والقانون الجنائي الفدرالي. فعندما قدم الرئيس ترامب مرشحه لعضوية المحكمة العليا للولايات المتحدةالأمريكية كان يظن ان الطريق معبدة امام القاضي "بريت كافانو" بناء على الغالبية العددية التي يتمتع بها الجمهورون بمجلس الشيوخ والذين يسيطرون على 51 مقعدا من اصل 100 مقعد فيما يشغل الديمقراطيون 47 مقعدا ومقعدين مستقلين متحالفين مع الديمقراطيين. لكن الديمقراطيين الذين يمثلون الأقلية كانوا اكثر شراسة في مهاجمة هذا الإختيار الذي يعني لهم أن الكفة ستميل ولزمن طويل لصالح المحافظين بالمحكمة العليا، فأوباما سبق له أن عين عضوين خلال ولايتيه اللتين إمتدتا لثماني سنوات، وترامب عين عضوا واحد لحد الآن وإذا تم التصويت على قبول ترشيحه للقاضي كافانو فإنه يكون قد عين عضوين في أقل من سنتين، في أفق شغور مقاعد أخرى من جانب الليبراليين حيث يوجد قاضيين عينهما الرئيس كلينتون يبلغان على التوالي 80 و 85 سنة، لذلك يحاول الديمقراطيون عرقلة هذا التعيين في انتظار الانتخابات النصفية في نونبر المقبل والتي ستهم 33 مقعدا بمجلس الشيوخ على أمل أن يستعيدوا سيطرتهم على المجلس. وغداة انعقاد جلسات الاستماع بدأت معالم هذا الصراع تتضح، فقد اشتكى الديمقراطيون من كثرة الملفات المقدمة لهم، ومن ثمة شرعوا في النبش في تاريخ الرجل الذي عمل إلى جانب الرئيس جورج بوش الابن وإلى جانب القاضي المستقيل كينيدي، ثم جاءت إدعاءات بشأن اعتداءات جنسية فتمسك بها الديمقراطيون بشدة ودعمتهم في ذلك وسائل الإعلام الكبرى في أمريكا وعلى رأسها قناة CNN، ودافع الرئيس ترامب عن مرشحه بقوة ضد من أسماهم باليسار الأمريكي والليبراليين الذين يهاجمون مرشحه الرجل الصالح القاضي كافانو، وكان دعمه واضحا وعلنيا طوال هذه الفترة لأنه يعلم أنه سيربح العديد من النقط بعد تعيين مرشحه، فالمحافظون سوف يرون فيه الرجل الذي ثبّت تفوق المحافظين في المحكمة العليا وتمسك بتعيين رجل مسيحي متدين في هذا المنصب الكبير، كما أنهم سوف يهبون لمنحه أصواتهم بكثافة في التجديد النصفي لمجلس الشيوخ وسيدعمونه في رئاسيات 2020. وقد عقدت اللجنة القضائية جلست استماع للمرشح القاضي كافانو، وهي جلسة خاصة بالتعيين والإطلاع على مواقفه وأفكاره قبل إحالة ملفه على الجلسة العامة للمجلس ككل من أجل التصويت على ترشيح الرئيس له، لكن الجلسة أصبحت الأكثر شهرة منذ الحقبة "الماكارثية" إبان ذروة الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وذلك بعد الاستجابة لطلب الأقلية الديمقراطية بالاستماع إلى إحدى المصرحات بالتعرض لإعتداء جنسي وهي الدكتورة فورد، التي اتهمت القاضي المرشح بأنه حاول الاعتداء الجنسي عليها خلال مرحلة الدراسة الثانوية، وقدمت وصفا دقيقا للحدث الذي مر عليه 36 سنة، ولقيت دعما كبيرا وعلنيا حتى خلال جلسة الاستماع من أعضاء اللجنة الديمقراطيين الذين وصفوها بالشجاعة ومن وسائل الإعلام المعادية لترامب وأيضا من الجمعيات والهيئات المقربة من الليبراليين، ووجهت إدعاءاتها بهجوم عنيف من أعضاء اللجنة الجمهوريين الذين أوكلوا مهمة التدقيق في ما صرحت به إلى مدعية مختصة في قضايا العنف الجنسي، ونفى القاضي المرشح الأمر جملة وتفصيلا وأكد أنه كمسيحي كاثوليكي متدين لم يرتكب هذا الفعل ولم يسبق له أن شرب حتى الثمالة، وأجهش بالبكاء مرارا خلال جلسات الاستماع. أظهرت هذه الجلسات مدى القوة التي تتمتع بها اللجان البرلمانية في الولاياتالمتحدة وقدرتها على فحص ترشيحات الرئيس والتأثير عليها وعرقلتها، كما أظهرت هذه الجلسات أن اللجان تتحول في وقت معين إلى ما يشبه المحكمة من خلال أداء اليمين القانونية أمامها قبل التصريح وهو ما يعرض صاحبها للمساءلة القانونية عند اكتشاف كذبه، كذلك أظهرت أن الانتماء الأيديولوجي والحزبي يؤثر بشكل كبير على عمل اللجنة، فرئيس اللجنة السيناتور الجمهوري "تشوك غراسلي" ظل متشبثا بتقييد الاستجواب وتقييد شهادة المدعية حين بعث مساعدوه إلى محاميها برسالة يستفسرون منها إذا كانت موكلته تقبل الشروط المقترحة للاستماع إلى شهادتها. لكن مع نظام أمريكي ديمقراطي عريق، لا يمكن توقع ما قد يحدث خلال جلسات اللجان، وهذا ما حدث خلال جلسة التصويت على الترشيح باللجنة القضائية حين كان الجمهوريون متأكدين من تفوقهم العددي 11 مقابل 10، ومع بدأ المداخلات التي كانت قوية ومثقلة بحمولات الأيديولوجيا والدين وحقوق النساء وضمان نزاهة وحسن سيرة قضاة المحكمة العليا، وخلال هذه الجلسة تبادل أعضاء اللجنة من الحزبين الكثير من الرسائل التي كانت تهدف إلى استمالت الرأي العام والناخبين في أفق الانتخابات النصفية شهر نونبر القادم، وقام السيناتورات الديمقراطيون بمسيرات خارج القاعة وفي ساحة الكابيتول في محاولة للضغط على الجمهوريين لتأجيل التصويت إلى غاية إجراء بحث من طرف جهاز المباحث الفدرالي FBI وهو ما يرفضه الجمهوريون بحجة أن هذا النوع من الجرائم من اختصاص الشرطة المحلية. لكن "تشوك غراسلي" زعيم الجمهوريين باللجنة ورئيسها فوجئ قبيل انطلاق التصويت بتدخل السيناتور الجمهوري عن ولاية اريزونا "جيف فليك" الذي طالب بإرجاء التصويت أسبوعا واحدا على الأقل لغاية إجراء تحقيق سريع ومحدد المدة من طرف FBI، وهو ما دعمه الديمقراطيون، مما يؤكد بأن السيناتور الأمريكي يصوت بناء على قناعاته وعلى الرأي العام في دائرته وأن صوته ليس محسوما لحزبه ولا لرئيس البلاد المنتمي لحزبه حتى، فالسيناتور فليك تم الضغط عليه بشدة من خلال الاتصالات التي تلقاها شخصيا وتلك التي تلقاها مكتبه ومساعدوه، كما أنه عندما كان متوجها لقاعة التصويت تم اعتراضه من طرف ناشطات نسائيات يطالبن بفتح تحقيق في إدعاءات الدكتورة فورد، وخاطبته إحداهن: "أنت الآن تمتلك السلطة، ... وهي امرأة بدون سلطة"، ومن بين أسباب تحرر السيناتور فليك انه قرر أن لا يترشح مرة أخرى للمجلس وهو على خصام دائم مع الرئيس ترامب، لكنه صوت إلى جانب الجمهوريين على إحالة ملف القاضي كافانو على الجلسة العامة لمجلس الشيوخ من أجل التصويت عليه، مع الموافقة على طلبه بتأجيل التصويت وهو ما جر عليه انتقادات قوية من زملائه الجمهوريين ومن الناخبين الجمهوريين. إن السلطة التي منحها الدستور الأمريكي لمجلس الشيوخ بخصوص التعيين في الإدارة الفدرالية والقضاء هي أداة لمراقبة تصرفات الرئيس وتعييناته التي تمنحها له صلاحياته الدستورية الكبيرة وذلك في إطار ما يصطلح عليه ب "توازي الأسلحة"، بحث يراقب كل جهاز الآخر من أجل منع الطغيان أو إساءة التصرف، كما أن جلسات الاستماع المفتوحة تسمح للعموم بمتابعة العملية وتتبع تدخلات ومواقف الشيوخ ومحاسبتهم عليها فيما بعد. في حالة البرلمان المغربي فإن اللجان النيابية غير معنية بالتعيينات في المناصب العليا، فالبرلمان قام فقط بالتصويت على القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا تطبيقا للفصلين 49 و92 من الدستور، ويبقى دور البرلمان متمثلا في التصويت على أي تغيير يطرأ على الجدولين المضمنين في القانون التنظيمي، دون أن يعني ذلك أي دور للبرلمان في إقرار تعيين أي منهم، ويبقى دور البرلمان الوحيد في مجال المناصب العليا محصورا في التصويت على 6 أعضاء بالمحكمة الدستورية، بحيث تنتخب كل غرفة 3 أعضاء، وهو ما تم بالفعل على أن يجدد ثلثهم كل 3 سنوات. وعلى العموم ينص الدستور المغربي لفاتح يوليوز 2011 في الفقرة الثالثة من الفصل 68 على أن: "جلسات لجان البرلمان سرية، ويحدد النظام الداخلي لمجلسي البرلمان الحالات والضوابط التي يمكن أن تعقد فيها اللجان بصفة علنية" وهو ما يحرم المواطنين والمتتبعين من متابعة النقاشات التي تعرفها هذه اللجان لو تم نقلها على المباشر، لأن اللجان تشتغل تقريبا على مدار الأسبوع في اجتماعات تشريعية وأخرى للمراقبة من خلال دراسة مواضيع معينة أو في إطار المهام الاستطلاعية أو لجان تقصي الحقائق إن وجدت، بالإضافة إلى المعطى الجديد المتعلق بمجموعات العمل الموضوعاتية المحدثة لدراسة موضوع أو قضية معينة، مع أنه كان من الممكن أن تحظى اللجان البرلمانية بمتابعة قياسية على التلفزيون إذا تم نقلها خلال انعقاد اللجنة الاستطلاعية حول أسعار المحروقات، أو خلال انعقاد لجنة المالية لتدارس موضوع تقاعد النواب، وكذلك الأمر خلال جلسات اللجان بشأن مشروع القانون المالي، وهو ما كان من شانه أن يشرك العموم في النقاشات التي لا تظهر إلى العلن إلا خلال الجلسات العامة أسبوعيا بخصوص الأسئلة الشفوية أو شهريا خلال مساءلة رئيس الحكومة. *باحث في العلاقات الدولية.جامعة محمد الخامس أكدال.