لكل مجتمع لغته من أجل تواصل طبيعي عام. والتطلع إلى رقي حضاري هو ما يميز بين لغة منضبطة وأخرى طليقة، وهكذا يتكون الفصيح والدارج. فهذا الأخير يصير لهجة غايتها تخاطب اجتماعي شعبي طليق، من أجل تواصل محلي محدود؛ وذلك خلافا للغة المنضبطة المؤهلة بكفاياتها للبحث والمعرفة، وتناول المواضيع النظرية والتقنية، التي تتطلب كلها كفاءة لسانية تلم بجميع الوظائف المعرفية والتعلمية والتصنيفية، من طرق وسبل التحصيل والتبليغ، على المستوى الأكاديمي والمؤسساتي وعلى مستوى الحوار والتناظر... وبهذا تكون هي لغة الدراسة والتدريس. فمسألة اللغة هي مسألة حضارية وتاريخية ومصيرية، ويجري هذا الأمر على لغة كل أمة، ومن ذلك بالنسبة إلينا نحن المغاربة ما يوجد لدينا من هذا القبيل، وهما اللغة العربية واللغة الأمازيغية، لكن "اللغة" التي تستثنى من كل ذلك يمكن، وهذا شيء طبيعي، أن تستعمل كلهجة تساعد على تواصل منفتح، بمنطوقات مرتجلة وتراكمات شاذة بالأخص. وهذا اللهج هو ما ينتج ويدرج باستمرار في مجتمع تتعدد فيه العرقيات أو المناطق المتفرقة، في أقاليم نائية ومتنوعة، فيتم تبني الكثير مما يمر بها من كل اللغات الواردة والمجهولة والدخيلة... ولأن الدارجة لدى كل الشعوب تعتبر لهجة أو لهجات جهوية محدودة في نطاقها، فهي تنبني وتندثر مرحليا، بحيث تستخدم الكلام الحسي الراهن والمعاصر لكل مرحلة له. والمثال على ذلك تمايز الكلمات التي تتغير لدى كل جيل يعيش فترته الجارية؛ فالمرادفات تموت وتنبعث أخرى مختلفة عنها، فهي مجرد خليط لكونها حمولة لكثير من الطفيليات اللفظية، حيث تتمثل كل شيء عار وإباحي بشكل اعتباطي... لذا، فمن الصعب تبنيها كوسيلة للدراسة. أما اللغات المؤطرة فلها قواعدها ومعاييرها وتقنياتها لمسايرة الركب الحضاري، بقدرتها على الترجمة الكفؤة والتثاقف المكين. وكلنا نعرف أن اللغة الإنجليزية كمثال هي السباقة حاليا إلى فرض قيمها اللسانية ومفاهيمها العلمية ومصطلحاتها التقنية والاستكشافية... فتتبناها الأمم الأخرى أو تقتبس منها ما هو جديد وراسخ وجدير بالدراسة والتحصيل والاكتشاف... من هنا فاللغة الحضارية والتاريخية تبقى هي الوسيلة لحمل حضارة الزمن الراهن والأزمنة السابقة واستشراف المقبل. وعلى سبيل المثال اللغات العربية والفرنسية والألمانية واليابانية وهلم جرا... وكل له بالطبع دارجته دون تفريط. وبالتأكيد، ككل اللهجات، فإنه من البديهي أن دارجتنا لها بطبعها دور تقريب المصطلحات التراثية والأنثروبولوجية الخاصة لخدمة البحوث المنمدجة، وكذا الفنون والآداب الشعبية. لكن هنا بيت القصيد، فما دامت الدارجة غير كفؤة لإنتاج العوامل الحضارية، فمجتمعاتنا تبقى مجرد مستهلكة تستقبل المعيش القابع لديها والوارد الكاسح لها. وبهذا فهي، أي الدارجة، لا تتوفر على إمكانية تقوية ذاتها اللغوية، بل وتعدمها كليا. ومن المعروف، في حالة شعوبنا كما قد حصل، أن الاستعمار الإداري والترابي كانت له قوة الهيمنة علينا وعملقة المنتوج الثقافي له هو فقط، حتى صرنا ذيوله التابعة بشكل أعمى، مع الخضوع للأمر الواقع، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. من هنا إذن أقيمت قلعة "الفرنكوفونية"، وهي النسخة الثانية من الاستعمار أو الوجه الآخر له بعد الاستقلال الإداري كما لدينا؛ فه استعمار سلس اقتصاديا وثقافيا كما أشير، تأسست منظومتها لأغراض هادفة، من جملتها الإبقاء على الهيمنة التقليدانية، واستمرارية الاحتلال اللغوي، وتقويته من أجل الاكتساح، ثم استدماج الهوية الأصلية في الهوية المسيطرة التي تغرق كل صغيرة وكبيرة في التيار العارم والقوي لثقافتها. وهذا ما حدث للشعوب الإفريقية التي استغنت بل وتخلت عن لغة الأم، أي اللهجة الشعبية لها، وذلك لعدم صمودها وعدم جدواها؛ ما جعلها تتنكر حتى لوطنيتها الإفريقية، فذابت كهوية وجنس ولغة، وصارت عرضة للاستغلال الاقتصادي لثرواتها والثقافي لتراثها، ومن ثم السياسي لأنظمتها؛ الشيء الذي تركها منغمسة في حروب قبلية، تدفع بها إلى الهجرة والانفصال ثم الضياع. لكن من جانب آخر، وفيما يخص لغتنا العربية كمثال، ومعها اللغة الأمازيغية طبعا، فإنه بفعل عناصر القوة المعززة روحيا بعقيدة الإسلام كتراث مانع، فقد فشلت مغامرة فرنسا في الجزائر لتحويلها إلى إقليم فرنسي تابع لها كليا، حتى لقب الشعب الجزائري ب"لشعب الفرنسي الثاني"، أملا في طمس هوية هذا البلد العربي والأمازيغي، لكن تجربتها أدحضت بفعل التماسك والانتفاض اليقظ، وذلك بمعية الحركات الوطنية المغاربية الشاملة. *باحث سوسيولوجي.