إن المتتبع للنقاش المفتوح على الفضائيات حول " تطبيق الشريعة " بين الفاعلين السياسيين، يتبين له بوضوح، أن المتحاورين غير مدركين لمفاهيم الألفاظ و المصطلحات التي يوظفونها في نقاشهم السياسي، و بخاصة؛ أصحاب الخطاب السياسي الإسلامي، و منهم بالأخص بعض " الجماعات السلفية " التي آمنت بالمشاركة السياسية متأخرة، كما هو الحال في مصر على سبيل المثال لا الحصر. و مما يزيد النقاش تعقيدا، أن أغلب المحاورين لدعاة هذه الجماعات، هم صحفيون حظهم في علوم الشريعة ضحل، ويعانون من هزال معرفي لا يمكنهم من فهم الخطاب الإسلامي المعاصر. وفي أحسن الأحوال يناقشهم، أصحاب تخصصات علمية لا علاقة لها بموضوع النقاش، و إن انبرى في ساحة النقاش من له دراية بالخلفية المعرفية لهذه الجماعات، يظلم في التحليل و الحكم، أما من يجيب فيصيب، فقليل ماهم. أمام هذه الحالة الجدالية؛ لا ترى إلا لغطا في لغط، و يدور الحوار في حلقة مفرغة، و يتخلل النقاش الكثير من الاستنطاق و الاستهزاء، لا يخلو من نشوة الانتصار على المحاور و إفحامه. بهذا تتحدد الإشكالية؛ في التصورات المفاهيمية للمصطلحات، و ما ينبني عليها من تعريفات، و ما يصدر عنها من أحكام، لأن الحكم على الشيء، فرع عن تصوره كما قال المناطقة. وقد قيل الكثير عن "تطبيق الشريعة" و كتب حوله الغزير، بعد نجاح بعض الثورات العربية، فتحول "تطبيق الشريعة" إلى شعار مخيف لجماعات تنشد "الليبرالية"، و أصبح هذا الشعار عند بعض دعاة " السلفية" مطلبا تأخر تطبيقه، فبات المشهد السياسي العربي، يخيم عليه حالة الخوف و الترقب و الحماسة، دون أن يقف كل هؤلاء وقفة تبصر علمية تجلي الغشاوات. إذا كانت هذه الضميمة الاصطلاحية" تطبيق الشريعة " عربية النطق و الكتابة، فما على الباحث إلا أن يرجع إلى المعاجم اللغوية العربية، كخطوة أولى لتلمس بعض المعاني التي تنير الفهم، و تسهم في الإفهام، فما معنى تطبيق؟ و ما معنى الشريعة؟ بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، نكتشف معنى التطبيق كما يلي: - في مقاييس اللغة لابن فارس 395ه، التطبيق مشتق من مادة " الطاء و الباء و القاف " وهذا الأصل يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه، من ذلك الطبق. - في لسان العرب لابن منظور 711ه، طبق الغيم تطبيقا: أصاب مطره جميع الأرض، التطبيق وضع الكف اليمنى على اليسرى في الصلاة، التطبيق أن يثب البعير فتقع قوائمه بالأرض معا. أما المعنى اللغوي للشريعة في المعاجم، فنستخلص ما يلي: - في مقاييس اللغة لابن فارس، الشريعة مشتق من مادة " الشين والراء و العين " وهي أصل واحد يدل على شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكون فيه. من ذلك الشريعة، وهي مورد الشَّارِبة الماء. - في لسان العرب لابن منظور ، الشِّرْعةُ و الشريعة في كلام العرب: مَشْرَعةُ الماء وهي مَوْرِدُ الشاربةِ التي يَشْرَعُها الناس فيشربون منها ويَسْتَقُونَ، وفي المثل: أَهْوَنُ السَّقْيِ التَّشْريعُ، وذلك لأَن مُورِدَ الإِبل إِذا وَرَدَ بها الشريعة لم يَتْعَبْ في إِسْقاءِ الماء لها كما يتعب إِذا كان الماء بعيداً. وقال الفراء في قوله تعالى ثم جعلناك على شريعة: على دين ومِلَّة ومنهاج. بالمقارنة بين معاني " التطبيق" و "الشريعة" نستنتج ما يلي: - يتضح أن "الشريعة" لا تضم إلى لفظة " التطبيق"، بل التطبيق، يضم إليه؛ الغيم، و الكف، و البعير.. - ما يضم إلى " التطبيق " هي محسوسات مادية عينية، الغيم، الكف، البعير، و لا نجد غيرها، كالمعاني و الأفكار و القيم، كأن نقوم مثلا؛ تطبيق الصدق!. - التطبيق يرجع إلى أصل يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه، أم الشريعة ترجع إلى أصل يدل على شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكون فيه، و من هذا نستنتج ، أن الأول له دلالة الحصر و الحدية، أما الثاني فله دلالة الاستمرارية و الامتداد. - دلالة الحصر و الحدية التي ينطوي عليها معنى التطبيق، تجعله يضاف و يضم إلى الماديات و المحسوسات، باعتبارها أجساما لها مساحة محصورة، يوضع من فوقها أجساما آخرى، طبقا عن طبق. - الشريعة هي منهاج و فكرة وقيم ممتدة في الزمان و المكان، وعلى هذا المعنى، فالشريعة يجب أن يضم إليها، فعل يدل على الاستمرارية و الامتداد و الانفتاح، ولذلك فالقول بتطبيق الشريعة من الناحية اللغوية في رأيي، ظلم للشريعة نفسها. إذا كان هذا التركيب المصطلحي يقدح فيه من جهة أن المعنى اللغوي للتطبيق يضر بالمعنى اللغوي و الاصطلاحي للشريعة، فهل يمكن طرح بعض الفرضيات، التي تبين ما يضر بمفهوم الشريعة ؟ أولا: يرد الحديث عن " تطبيق الشريعة " في سياق خطاب الدعاية و النضال المطلبي، أثناء الحديث عن تعديل الدستور و الانتخابات البرلمانية ، بمعنى أن السياق، سياسي بامتياز، وهذه المطالبة الشديدة وراءها إيمان عميق بأهمية الشريعة الإسلامية في صلاح المجتمع و تقدمه، واعتقاد جازم بأن عدم تطبيق الشريعة هو تخلف و انحطاط و انهيار، فالمسألة مسألة إيمان و اعتقاد، و التنازل عن ذلك، يشكك في ثبات المعتقد الديني، وهذه المطالبة أيضا، دافعها توظيف وسائل أخرى غير المساجد و الندوات الدعوية..، وسائل لها قوة كبيرة في تنزيل المعتقدات و البرامج، كالمجالس التأسيسية و البرلمانات و البلديات..، فالمجال التداولي/السياسي لمفهوم " تطبيق الشريعة " يكسبه دلالة معينة، وهذه الأخيرة مشحونة بكل قيم التواصل السياسي الحزبي/ الطائفي، المبني على الصراع الحاد، و الغموض، و المناورة .. ثانيا: يتصور أصحاب هذا الخطاب، أن الشريعة غير " مطبقة "في مجتمعهم، و يستدلون على ذلك، بكثرة الخمارات و الكازينوهات، و السياحة غير الشرعية، و انتشار الربا في البنوك ، وعدم تطبيق حدود الشريعة، كقتل المرتد و قطع يد السارق و جلد الزاني ..، فرؤيتهم لهذا الواقع، يؤكد لهم أن الشريعة غير " مطبقة " ، فيعممون ذلك ، على كل المجتمع بطريقة لاشعورية، مع أن المجتمع يقيم جزءا كبيرا من الشريعة، صلاة و زكاة و صياما و حجا، فيصبح المجتمع مقسم بين مجتمع الشريعة و مجتمع اللاشريعة، فيعيشون بين واقع مرفوض و مثال منشود، يعملون بجهد جهيد لتحقيقه و العيش فيه، و علموا أن الفرص السياسية يمكن أن تحقق هذا الانتقال من اللاشريعة إلى الشريعة. ثالثا: إن معنى التطبيق عند أصحاب هذا الخطاب، كأنه يرادف معنى التنفيذ، و تشكُل هذا المعنى، ينسجم مع الخطاب السياسي الذي يستند إلى البرامج التنفيذية لحل مشاكل الناس اليومية، فتأثر هذا الخطاب - المنحاز إلى المرجعية الإسلامية- " بالمجال السياسي "، و تصور كأن الشريعة الإسلامية برنامج تنفيذي، يضم مجموعة من الوسائل الإجرائية، تجيب على الإشكالات اليومية للمواطنين، ولذلك قال هذا الخطاب " بتطبيق الشريعة "، و لم يسوق مثلا، لمثل هذه المفاهيم، كتجديد الشريعة، أو الاجتهاد في الشريعة، أو تأويل و تفسير الشريعة، و عدم تسويقه لهذه المفاهيم، يعطي انطباعا لدى المخالفين، أن هذا الخطاب يريد تطبيق فهم أحادي للشريعة، بطريقة دكتاتورية لا تراعي فهومات الآخرين، ويريد أن "يطبق الشريعة" دون حضور للإنسان، كجسر بين النص الشرعي و الواقع، و هذا الانطباع قد يكون صحيحا، إذا ما اعتقد أصحاب هذا الخطاب أن الشريعة لا تحتاج إلى بيان و تفسير فهي واضحة، و ما على الإنسان المسلم سوى التطبيق. ختاما، أرى لو أن بعض أصحاب الخطاب الإسلامي بشروا " بتجديد الشريعة " في برامجهم السياسية، في مجال إصلاح القضاء و الفتوى و التعليم الديني و الدعوة الإرشادية، لوضعت الحرب الكلامية أوزارها، لأن الدعوة إلى تجديد الشريعة، تضم معاني الإشراك و ليس الإكراه، كما أنها تلهم بالاستمرارية و الامتداد، و في الأخير إنها بشرى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". [email protected]