يوماً بعد يوم يتصاعد الضغط الأمريكي على إيران بسبب برنامجها النووي المثير للجدل، وسياساتها التدخلية في شؤون دول المنطقة. وقد بدأ ذلك الضغط بإعلان الولاياتالمتحدة الخروج من الاتفاق النووي في مايو الماضي، وهو الاتفاق الذي كانت طرفاً فيه، ووقعته مع إيران في عام 2015، تحت مظلة مجموعة (5+1). وقد أخذ الاتفاق طريقه إلى التطبيق مطلع عام 2016. وجاء إعلان الإدارة الأمريكية، تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، فرض عقوبات جديدة على إيران، ليزيد من تلك الضغوط، حيث تم الشروع بالفعل في فرض بعض تتلك العقوبات خلال الفترة الماضية، ويتم استكمالها بحلول شهر نوفمبر المقبل. وتشمل العقوبات العديد من البنود، من بينها عقوبات مالية تطال كيانات وشخصيات إيرانية، وكذلك الشركات والكيانات الاقتصادية غير الإيرانية التي لا تلتزم بالعقوبات. كما تشمل عقوبات نفطية، تستهدف تقليص الصادرات النفطية الإيرانية إلى أقصى درجة ممكنة، وصولاً إلى منعها كلياً، وفق الإدارة الأمريكية. وبطبيعة الحال، فإن هذه العقوبات تعيد الاقتصاد الإيراني إلى سابق عهده من العزلة، التي عاشها على مدار عقود ماضية، بداية من اندلاع الثورة الإيرانية، حتى مرحلة العقوبات الدولية في الفترة 2010-2015، والتي تعرضت لها إيران بسبب برنامجها النووي. وتخضع فاعلية العقوبات الجديدة إلى العديد من الاعتبارات، التي على رأسها مدى قدرة إيران على الالتفاف على العقوبات، والتي تتوقف بدورها على موقف المجتمع الدولي من العقوبات، وكذلك موقف الشركات الدولية الكبرى منها أيضاً، وتمثل هذه المواقف موضع هذا التحليل. ماهية العقوبات أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخروج من الاتفاق النووي الإيراني في مطلع شهر مايو 2018، وبادرت الإدارة الأمريكية في حينه بإعلان فرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران، تضمن شقين، أولهما ينطوي على عقوبات مالية وتجارية، والآخر ينطوي على عقوبات نفطية. وقد بدأ تطبيق الشق الأول في شهر أغسطس الماضي، ومن المزمع تطبيق الشق الآخر في نوفمبر المقبل. وتشمل العقوبات المالية والتجارية العديد من البنود، كمنع الحكومة الإيرانية من شراء أو بيع الأصول المالية المقومة بالدولار، وحظر المعاملات الدولية المتعلقة بشراء أو بيع الريال الإيراني، وحظر تجارة إيران في الذهب والمعادن النفيسة، وحظر شراء أو تسهيل إصدار الديون السيادية الإيرانية، ومعاقبة المؤسسات المالية الأجنبية المتعاونة مع المؤسسات المالية الإيرانية، وحظر توفير خدمات التأمين أو إعادة التأمين للكيانات الإيرانية، وحظر التعامل مع قطاع السيارات الإيراني، وإلغاء التراخيص الممنوحة لشركتي بوينج وايرباص لاستكمال صفقات مع الحكومة الإيرانية تتضمن تسليم طائرات بنحو 44 مليار دولار، هذا بجانب إدراج نحو 246 فرداً وكياناً إيرانياً ضمن قوائم الإرهاب، بما يقضي بتجميد أصولهم وحظر التعاملات المالية معهم بشكل تام. أما عن الشق المتعلق بالعقوبات النفطية فهو يشتمل على عدة بنود، أهمها حظر جميع المعاملات النفطية مع إيران، من شراء وبيع وتوسيق النفط الخام ومنتجاته، والمنتجات البتروكيماوية، وحظر تقديم أي شكل من أشكال الدعم (المالي أو التكنولوجي أو العيني) لمؤسسات النفط الإيرانية، وحظر المدفوعات الدولية المتعقلة بمشتريات النفط، وحظر التعاون مع الشركات الإيرانية العاملة في مجالات تشغيل الموانئ وقطاعات الشحن وبناء السفن ذات العلاقة بالقطاع النفطي. وتستهدف العقوبات النفطية الأمريكيةالجديدة من وراء هذه المحظورات الوصول إلى وقف صادرات النفط الإيرانية بشكل كلي في نهاية المطاف. العقوبات الأكثر إيلاماً برغم أهمية العقوبات المالية والتجارية التي تشمل شريحة عريضة من مؤسسات الأعمال والشركات وكذلك الشخصيات الإيرانية، لكنها لا تمثل الجانب الأهم في العقوبات الأمريكيةالجديدة على إيران، بل إن العقوبات النفطية هي الأكثر إيلاماً بالاقتصاد الإيراني، لاسيما مع بداية تطبيق هذه العقوبات في مطلع شهر نوفمبر المقبل، لاسيما أن الصادرات النفطية تعد مصدراً رئيسياً للدخل بالنسبة لإيران. وتجدر الإشارة إلى أنه برغم أن العقوبات النفطية لم يتم الشروع في تطبيقها حتى الآن، لكن بعض مستوري النفط الإيراني شرعوا في تقليص اعتمادهم على وارداتهم النفطية من إيران، والبحث عن بديل آمن للحصول على احتياجاتهم النفطية، لكي تتمكن من تلافي أي مشكلة تتعلق بانقطاع أو عدم استقرار الإمدادات النفطية بداية من نوفمبر المقبل. فوفق بيانات "تومسون رويترز" بلغ إجمالي صادرات إيران من النفط الخام ومنتجاته، نحو 64 مليون برميل في أغسطس 2018، بما يعادل 2.06 مليون برميل يومياً، متراجعاً بنحو 33% عن مستواه الذي بلغ 92.8 مليون برميل في أبريل الماضي، بواقع 3.09 مليون برميل يومياً. وقد بلغت الإيرادات النفطية الإيرانية نحو 70 مليار دولار في عام 2017، ما بين إيرادات تصدير النفط الخام وإيرادات تصدير المنتجات النفطية، بما يمثل نحو 78% من إجمالي إيرادات التصدير الإيرانية التي بلغت 90 مليار دولار في نفس العام. ومع تطبيق العقوبات النفطية الأمريكيةالجديدة على إيران، فإنه من المرجح أن تنخفض الصادرات النفطية الإيرانية إلى نحو 1 مليون برميل فقط، وهو ما يعني أن الإيرادات النفطية الإيرانية سوف تنخفض إلى 22.6 مليار دولار. ويفضي ذلك في الوقت ذاته إلى انخفاض إيرادات التصدير الإيرانية بنسبة 47.4%، كما يقضي ذلك بدوره بتراجع الإيرادات العامة للدولة في إيران بنسبة تصل إلى 36.5%. هل تمتلك إيران فرصة؟ دائماً ما تتراوح المواقف الدولية من العقوبات المفروضة على إيران، أو غيرها من الدول، بين مؤيد للعقوبات، وبالتالي ملتزم ومشارك فيها، من ناحية، ورافض للعقوبات، وغير ملتزم بها، من ناحية أخرى، وينطبق ذلك على العقوبات الأمريكيةالجديدة على إيران. لكن الأمر المختلف هذه المرة، هو أن جبهتي التأييد والمعارضة مختلفتان عما كانتا عليه في المرات السابقة، فهذه المرة يقف الاتحاد الأوروبي، في موقف المعارض للعقوبات، بجانب الصينوروسيا، هذا بجانب حدوث بعض المعطيات الأخرى التي تقرب دول إقليمية من الموقف الإيراني في الوقت الراهن، كتركيا وقطر، بجانب دول أخرى تنظم معاً إلى الجبهة الرافضة للعقوبات. فهل توفر مواقف هذه الدول مجتمعة فرصة لإيران لإيجاد بعض الثغرات التي يمكنها من خلالها الالتفاف على العقوبات الأمريكية؟ وبرغم أن الإجابة ب"نعم" هي أول ما يرد إلى الأذهان بالنسبة لهذا السؤال، لكن الأمر المهم هو أن مواقف هذه الدول الرافضة للعقوبات ليست مواقف ثابتة أو أصيلة، بل إنها ناتجة في الأساس عن توتر علاقة كل منها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، لاسيما منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم في بلاده، والذي دخل في صراعات معظمها تجارية مع القوى الكبرى، ففرض رسوماً جمركية على واردات بلاده من الحديد والألمونيوم، والتي طالت الصين ودول الاتحاد الأوروبي بجانب دول أخرى، كما أنه دخل في حرب تجارية أوسع مع الصين. بجانب ذلك، فرض ترامب عقوبات اقتصادية على روسيا، استمراراً لتوجه الإدارة الأمريكية السابقة، بسبب تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم، وكذلك ما أثير بشأن تدخلها في أوكرانيا. كما دخل ترامب في صراع مع تركيا، ففرض عليها عقوبات تضمنت رسوماً جمركية على واردات بلاده منها. كما أنه برغم الموقف الذي تتبناه دول الاتحاد الأوروبي، وإعلان بعض مسؤوليها مراراً حرص بلدانهم على إنجاح الاتفاق النووي الإيراني، لكن ليس من المرجح أن يكون لهذه الإجراءات تأثير كبير على مسار العقوبات على إيران، لاسيما أن الإجراءات الأوروبية لا توفر بديلاً آمناً لنظم التسويات والنظم المالية الدولية المعتمدة في الأساس على المؤسسات الأمريكية. وبرغم اعتزام الاتحاد الأوروبي استخدام ما يُعرف باسم "التشريع المانع"، الذي يحمي الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية، فإن ذلك لا توفر الحماية للشركات المستثمرة في إيران. وهو ما يبدو منطقياً في ظل ما أعلنته العديد من الشركات الكبرى المستثمرة بالخروج من إيران فور الإعلان من العقوبات الأمريكية. وكان هناك العديد من الشركات الأوروبية التي جاءت ضمن هذا السياق، كشركات "توتال" و"بيجو" ,"رينو" الفرنسية، وشركات "سيمنز" و"دايملر" و"أليانز" الألمانية، وشركة "ايني" الإيطالية، وشركة "ميرسك سيلاند" الدنماركية، وشركة "ساغا إينرجي" النرويجية للطاقة الشمسية، الألمانية للتأمين. وهذه القائمة مرشحة للزيادة خلال الشهور المقبلة، لاسيما أن هناك تقديرات تشير إلى أن العقوبات الأمريكية على إيران قد تطال 160 شركة أوروبية. كل هذه المعطيات، وغيرها، تشير إلى أن إيران لا تمتلك خيارات كبيرة أمام العقوبات الأمريكيةالجديدة، وأن وقع هذه العقوبات على اقتصادها سيكون مشابهاً لتأثير العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها في الفترة 2010-2015. وبالتالي فإن هذه العقوبات سوف تمثل صدمة قوية لإيران خصوصاً أنها تأتي بعدما حقق اقتصادها نمواً بنحو 16.5% في عام 2016، مع بداية تطبيق الاتفاق النووي، الذي أفاده في استرجاع معظم أرصدته النقدية التي كانت محتجزة في ظل العقوبات الدولية السابقة، كما استمر تأثير ذلك في عام 2017، فاستطاع تحقيق نمو بمعدل 3.5%. لكن هذا النمو يتوقع أن يتحول إلى الركود بداية من عام 2018، وقد يتعرض لانكماش صافٍ في عام 2019، في حال استمرت العقوبات مفروضة عليه. *رئيس وحدة الدراسات الاقتصادية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي.