الدين مِلك عام للشعب، ومكسب شائع ومشترك بين جميع المواطنين. ولما كان كذلك، ينبغي للدولة، والدولة وحدها، الإشراف عليه وإدارته، لكي لا يكون محطة مزايدات للقطاع الخاص وتجاذبات بين الساعين إلى احتكار الإسلام، فهو ليس للعبث والمنازعات. لهذا كان الدين أمرا سياديا لا يمكن خوصصته، أو تسليم قطاعه للحكومات المتعاقبة واتجاهاتها المختلفة، لأنه سيصبح مسرحا للتعديلات والتبديلات على طول المسار السياسي، ويصبح مشوها كاريكاتوريا مع الزمن. لذا، كان تحييد الدين عن المنازعات، وإعلاؤه عن الصراعات، حمايةً له من التلون بألوان الاتجاهات السياسية والأيديولوجية المختلفة، واستدامة لاستمرار قدسيته وتعاليه، وتوريثا سليما غير منقوص للأجيال المتعاقبة، وفي ذلك حماية حتى لمختلف المشارب والقناعات التدينية وضمان لحرية الاختيار الديني كيفما كان نوعه، ما دامت لا تعدو عن كونها اختيارات شخصية، وممارسات يومية لا تفضي إلى منافسة الدولة والمزايدة عليها في تدبير الشأن الديني ومضايقتها في رعايته. وإن التأكيد على تفرد الدولة بتدبير الشأن الديني هو ليس من باب احتكار الدين؛ فالدين لله، وهو وحده من يعلم القريب من البعيد، والصادق من الكاذب، وإنما من باب احتكار تسييره لحماية معتقدات الناس واستمرار أمنهم الروحي. فإذا علمنا هذا، حافظت الدولة على هذا السلم الديني؛ بحيث يمارس الجميع شعائر الدين وفق قناعاتهم وبكل حرية، ما دام لا يقع الاعتداء على المجال الشعائري لطائفة من قبل طائفة أخرى، بل حتى أصحاب المعتقدات الأخرى سيكونون سعداء بالعيش في البلاد الإسلامية التي تضمن لهم حرية التدين. ومما يساهم في ذلك هو عدم تعرض الخطباء في خطبهم إلى المجال السياسي، الذي مكان ممارسته هو القبة البرلمانية، ومقرات الأحزاب، لكون السياسة ليست من مهام الخطيب، ولكونه لا يمثل كل شرائح المجتمع المختلفة وإنما إرادة فئة منها، لأن الدولة قطاعات متعددة، كل قطاع يقوم بما أسند إليه من مهام وفق الدستور والمساطر القانونية المنظِّمة. وبهذا نكون قد أبعدنا السياسة المتقلبة عن الدين المقدس. وعليه، إن حماية الإسلام من الاحتكار السياسي والطموحات الطوطاليتارية/الشمولية مطلب عميق وأساس لا يقبل التأخير، لمن قلبه على الوحدة والسلم والاستقرار بحق، وبهذا نكون قد أبعدنا الدين المقدس عن السياسة المتقلبة سواء بسواء. ونحن نتحدث عن تدبير الشأن الديني وإدارته من قِبل الدولة، ينبغي استحضار بعض الإحصائيات المهمة في هذا الشأن؛ ففي المغرب يبلغ عدد المساجد 42000 مسجد، منها حوالي 16500 مسجد جامع، تنفق عليها وزارة الأوقاف. ويبلغ عدد الحفاظ لكتاب الله 464000 حافظ، و35000 طالب يدرسون في مدارس التعليم العتيق، وفيه 14000 كتّاب قرآني. هذه كلها مظاهر ضمان ثبات التدين المغربي، بتوريث رواية ورش عن نافع بطرقها، وفقه مالك عبر شروح العشماية والأخضري ثم المرشد المعين ثم الرسالة ثم متن سيدي خليل وشروحه الذي يعتبر أخصر مختصرات المدونة، والموطأ وشروحه، مع العلوم الأخرى من تفسير وعلومه، وأصول الفقه وفقه الحديث وسيرة نبوية وأصول الدين وتصوف. وكذلك ضمان توريث مظاهر العمران والتراث المغربي الأصيل من زخارف وهندسة وخطوط وقصائد وأصوات جميلة، حتى أصبح القراء المغاربة مضربا للمثل في العالم الإسلامي وهم يحصدون جوائز القرآن الكريم في مختلف المسابقات عبر العالم الإسلامي. وما نسمعه من إغلاق لبعض دور القرآن، فلأنها تخطت تحفيظ القرآن الكريم إلى الأدلجة ونشر الغلو في الدين وإشاعة فكر التكفير. وهذا يوضح أن هناك قياما على الدين بشكل مكثف ودقيق ومستدام والحمد لله، وليس كما يشاع في مواقع التواصل الاجتماعي أن هناك فراغا في الباب؛ إذ لو كان هناك فراغ لوصل الحال بنا إلى ما يجري في بعض البلدان حيث عدم الاستقرار الديني والسياسي، وعشوائيات الفتوى والآراء والتصريحات الرديئة. كما أن تجربتنا الدينية قد نقلت إلى معظم دول الغرب الإفريقي كنموذج ناجع يقتفى، وبريادة مغربية شامخة. إن التدين المغربي اختيار أمة منذ 12 قرنا، يجمع بين اتباع السنة وحب آل البيت عليهم السلام، والتوسط في الاعتقاد وإذاعة الأخلاق الحميدة، وهو الخيار اللاعكوسي، الذي لا يرجع مؤشر ساعته إلى الخلف، والذي يحمي نفسه بنفسه في المغرب الكبير. ومن أراد أن يعرف رسوخ التدين عندنا، فلينظر إلى كبار السن قبيل موعد إقامة الصلاة وهم يتوضؤون في وضع القرفصاء بذلك الإبريق العتيق وبتلك الطريقة الضاربة في جذور التاريخ، قبل أدلجة الدين وتطويعه لخدمة الغايات السياسية، فهم يصلون بدون جدال ولا اعتراض، يركعون ويسجدون، يريدون الله والدار الآخرة. *باحث في الفكر الإسلامي