"المؤمنون بالحياة، وبسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبدًا"- جبران خليل حبران في صيرورة الإجماع والإعلان الصريح عن فشل النموذج التنموي بالبلاد، والمناداة الرسمية إلى التفكير في بلورة نموذج تنموي جديد، أضحت وزارة الاقتصاد والمالية الوزارة الأم، بحكم ثقلها المالي والبشري والمهني مطالبة اليوم، بجانب كل القطاعات الحكومية وباقي الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، بالمشاركة في تصور هذا النموذج الجديد وإعماله - فلسفيا وعمليا - بكامل المعرفة والمهنية، في أفق تكريس قيم المنافسة الحرة والمساءلة والشفافية ونجاعة الأداء، في الاقتصاد والمالية العمومية، بالمغرب، وفق قيم الاستحقاق والكفاءة؛ غير أن وزارة المالية نفسها لم يسبق لها، في اعتقادي، أن خضعت أو كانت موضوع تقييم علمي موضوعي مهني شامل، تنظيمي وإستراتيجي، لهياكلها وأدائها وإنجازاتها ومعيقاتها في مجال التنمية الإدارية والاقتصادية، يعني مستحضرا المكتسبات والإخفاقات، عبر الفحص والتأكد من مجموعة من الفرضيات المنهجية التي نجملها في الآتي: أولا = الرؤية الإستراتيجية والقدرات القيادية والتاطيرية، وهامش المناورة، التي يتوفر عليها القيمون عليها، منذ الاستقلال إلى اليوم، عبر تقييم ودراسة لأصولهم الاجتماعية ولظروف ولوجهم دواليب الإدارة والمهام المسندة إليهم، والتجارب المكتسبة والكفاءات والمؤهلات العلمية والمهنية المحصل عليها والترقيات، وإلى أي حد هي تتلاءم مع المهام المنوطة بهم؟، والأثر الملموس الذي خلفته تقلد هذه المسؤوليات الجسيمة على تعبئة الموظفين داخلها وعلى تجويد المرافق والخدمات المقدمة، خارجيا، للمواطنين والمقاولة وكافة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، على حد السواء؟ ثانيا= فحص منظومة التنظيم والإعلام والتواصل في كافة برامج وأعمال الوزارة وعلاقتها مع العموم، والبرلمان، والجامعة، والبحث العلمي وقضايا التألق والإبداع الإداري. ثالثا= فحص منظومة الموارد البشرية وتحفيز وتكوين الكفاءات (وهي كثيرة، والمنظمات تقاس بقيمة رجالها ونسائها) التي هي رهن إشارتها، وضمان تألقها وإبداعها، وطنيا وإقليميا ودوليا، من خلال دعمها، على قدم المساواة، في شغل مهام إدارية قيادية، أو دبلوماسية اقتصادية ومالية عالمية، بناء على الاستحقاق، ومدى قدرة هذه الوزارة، وهذا هو الأساس، على إنتاج الخبرة والمعرفة المالية والإدارية وتقاسمها مع الإدارات، والمواطنين، والبرلمان، والجامعة، ومؤسسات البحث العلمي والابتكار، وتبادلها، أو توارثها من لدن الأجيال الشابة الصاعدة، من خلال تدوينها للتجارب الجيدة الناجحة، ونشرها في العموم. رابعا= فحص منظومة المراقبة الداخلية وتقييم المخاطر داخل القطاع، وفق مدونة سلوك ومواثيق الشرف موثوق فيها، مثل وقوفها على تضارب المصالح، والتهرب الضريبي، والتفتيش الشامل والفعال. خامسا= مدى قدرتها على تنمية قدرات المساءلة والمراقبة وتقييم السياسات العمومية، وضرب المثال في ذلك. على ضوء إعفاء الوزير السابق لوزارة المالية، وتعيين محله وزيرا جديدا، يحق للمتتبع أن يتساءل: هل حان الوقت لهيكلة هذه الوزارة هيكلة بنيوية، ووظيفية، وإستراتيجية شاملة؟ وما هو برنامج الوزير الجديد، بناء على المستجدات الوطنية والدولية والجهوية، في صياغة هيكلة قطاع استراتيجي كبير؟ . ومما لاشك فيه أن هيكلة هذا القطاع الطلائعي لن يتم ويكتب له النجاح بدون التفكير في بلورة رؤية استراتيجية واضحة، حول هيكلة وإصلاح الدولة برمتها، وفي شتى القطاعات الحكومية – فكرا وممارسة، الشيء الذي يتطلب قيام حكومة قوية متماسكة، لها رؤية بعيدة الأمد، وتتوفر على برنامج عمل متكامل، مندمج، واضح، وهادف. في هذا السياق، يطمح هذا المقال، على ضوء تعيين وزير جديد للاقتصاد والمالية، إلى إبداء بعض الآراء والملاحظات الأساسية التي من شأن بسطها المساهمة في إثراء النقاش حول بعض مظاهر إصلاح وزارة المالية الجانب باقي القطاعات الحكومية الإستراتيجية الأخرى، في أفق بلورة نموذج تنموي جديد وبناء ميزانية مفتوحة ومواطنة بالمغرب قوامها نجاعة الأداء والشفافية، على غرار التجارب والتطبيقات الفضلى في هذا المجال. وفي اعتقادي، مع فشل النموذج التنموي بالمغرب، هناك عدة دواع وعوامل مركبة تستدعي إصلاح هذه الوزارة الإستراتيجية في أفق تقوية الحكامة التنموية والديمقراطية في البلاد والتي تتجلى في العناصر الجوهرية الآتية: تقادم وتجاوز النصوص التنظيمية المنظمة لوزارة المالية (التي على غرار نصوص تشريعية كثيرة تكتسي صفة قانونية تنظيمية وليس قانونية في المحاسبة المالية والصفقات ولم يتم مناقشتها في البرلمان) والتي بقيت تحكم (برفع التاء)، وفق روح مرسوم رقم 2 78 539، الصادر في 2 نونبر 1978، وبالرغم من مرور مياه كثيرة تحت الجسر (إصلاحات دستورية، المناداة بربط المسؤولية بالمحاسبة، اتفاقيات التبادل الحر، تأخر المغرب في مجال التنمية البشرية والشفافية، تنامي البطالة في أوساط الشباب، العجز التجاري، هجرة الكفاءات والأدمغة، التصريح الرسمي بفشل النموذج التنموي، رجوع المغرب إلى حظيرة الاتحاد الإفريقي، وترشحه لدخول منظمة سيداو ومنظمة تنسيق قانون الأعمالOHADA، البدء العمل بالقانون التنظيمي الجديد للمالية، وضع الميزانية الثلاثية بشان نجاعة الأداء) ظلت التعديلات الشكلية التي عرفها تنظيم هذا القطاع الحكومي غير كافية (بالرغم من إيماننا الكامل بأن التغيير لا تصنعه المراسيم، بل البشر) على تأمين والمحافظة على موارد وممتلكات الدولة، تم الملاءمة والتكيف مع متطلبات التطورات والمستجدات التي تعرفها البلاد، في أفق تحقيق التنمية الشاملة، وضمان جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، لا سيما في مجال الصحة والتعليم والثقافة والفنون والبحث العلمي ليلج المغرب مجتمع المعرفة والإبداع من بابه الواسع، حيث نجد أنه بمقتضى مرسوم رقم 2.06.52، الصادر في 13 فبراير 2006، تم إلحاق المراقبة العامة للالتزام بنفقات الدولة (اقتباسا من النظام الفرنسي) إلى الخزينة العامة للمملكة، وتحويل اختصاصات المراقب العام للالتزام بنفقات الدولة إلى الخازن العام للمملكة. كما أوضح مرسوم رقم 2.07.995، الصادر في أكتوبر 2008 اختصاصات وتنظيم وزارة الاقتصاد والمالية مبرزا أن هذه الوزارة "تتولى إعداد سياسة الدولة في المجالات المالية والنقدية والقرض والمالية الخارجية وترشيد القطاع العام وخوصصة المنشآت العامة وتتبع تنفيذها، وفقا للنصوص التشريعية والتنظيمية المعمول بها، مع مراعاة الاختصاصات المنوطة بالوزير الأول بشأن تنسيق وتتبع تنفيذ السياسة الحكومية في مجال العلاقات مع المؤسسات التابعة لمجموعة البنك الدولي" وتركيزه، أساسا، على التوازن الاقتصادي والمالي (بدون نصه على التوازن الاجتماعي في إعداد قوانين المالية) – مع تحديد شروط التوازن المالي الداخلي والخارجي، وضمان تعبئة الموارد الضرورية لهذه الغاية، وإعداد سياسة الدين، وتنفيذها. كما ينبغي التذكير كذلك بالمقررات وبالرسائل التنظيمية الوزارية التي تسير في الاتجاه نفسه، ولا سيما الإصلاح الأخير التي قضى بتحويل مديرية التأمينات والاحتياط الاجتماعي بمقتضى ظهير 64.12 صادر في 6 مارس 2014 إلى هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي. وعلى الرغم من وضع القانون التنظيمي الجديد للمالية وإعداد مشاريع ميزانياتية ثلاثية حول نجاعة الأداء برسم سنوات - 2019 2021، ظلت وزارة المالية محكومة بمرسوم تجاوز عمره أربعين سنة بدون تغيير جوهري يذكر. فمن الذي جعل الوزارة، والحالة هاته، تقوم بضم المراقبة المالية إلى الخزينة العامة، عام 2008، ولا تفكر بتاتا (على غرار النموذج الفرنسي دائما) بضم بعض المديريات لبعضها البعض؟ وفق منطق علمي ووظيفي معين، على غرار ما قامت به فرنسا، نفس العام، (فرنسا التي اقتبسنا منها كل شيء، يرتبط أساسا بالقانون التنظيمي للمالية والميزانية والمحاسبة المالية) بخلق مديرية عامة للمالية العمومية تشمل مجموعة من المديريات، سعيا وراء بلورة رؤية واضحة في التدبير وترشيد المال العام، ونشر قيم المنافسة، والإبداع الإداري والشفافية، وسط الوزارة وخارجها؟ ضرورة إحداث مديرية عامة للمالية العمومية استجابة لمستلزمات الترشيد ونجاعة الأداء. والواقع ينبغي أن تضرب هذه الوزارة المثال في مجال ترشيد المال العام وإعمال الممارسات الجيدة في الأداء في القطاع، أولا عبر بلورة إصلاح شامل لمرافق الوزارة، يتجلى في تصور منطقي لدمج المديريات التالية، ضمن قطب استراتيجي واحد تدعى المديرية العامة للمالية العمومية لتجنب مقولة "دولة داخل دولة" لتشمل إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة؛ الخزينة العامة للمملكة؛ المديرية العامة للضرائب؛ مديرية الميزانية؛ مديرية الخزينة والمالية الخارجية؛ مديرية المنشآت العامة والخوصصة؛ مديرية أملاك الدولة ومديرية الدراسات والتوقعات المالية؛ لكن هل باستطاعة رئيس الحكومة تزكية هذا المشروع الطموح؟ وهل بإمكان الوزير الجديد خوض هذا البرنامج الذي إن تبنته الحكومة ستربح ميزانية الدولة من ورائه اعتمادات وأموالا طائلة، في سبيل توطيد قيم نجاعة الأداء داخل الحكومة؟ إن من شأن هذا الدمج بلورة إستراتيجية واضحة، سواء عند الحكومة، عند تدبير نجاعة الأداء أو عند الجهاز التشريعي، أو عند المواطن والمجتمع المدني، لا سيما عند تقييم السياسات العامة المالية والاقتصادية والاجتماعية ودراسة الأثر، خاصة أن ترتيب المغرب دوليا يعد ضعيفا فيما يتعلق بميزانية المفتوحة على المواطن، كما سبق أن تناولنا سابقا. ومن المفارقة أن وزارة المالية أعدت مشاريع نجاعة الأداء لكل القطاعات، ولا أحد يعلم إستراتيجيتها ومشروع نجاعة أدائها، طيلة الميزانية الثلاثية المقبلة، علاوة على ذلك سيتيح هذا الدمج توفير الأجور والعلاوات السنوية ونصف سنوية العالية المؤداة إلى مختلف المديريات ونواب المديرين، ثم العمل على توحيد هذه العلاوات وإعادة انتشارها على كافة المديريات المنتمية للوزارة، وكافة موظفي القطاع العام، حسب المردودية والنجاعة، بطبيعة الحال، عبر حذف منصب نائب المدير، على غرار ما هو معمول به في الوظيفة العمومية، اعتبارا لتعدد هذا المنصب وكلفتها العالية على المال العام. ضرورة استثمار الوزارة في اقتصاد المعرفة من بحث علمي وإبداع إداري وتقني، ضمانا للمنافسة المبنية على الكفاءة والاستحقاق والنقاش المهني بين الموظفين وكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين حول تدبير المال العام والحكامة والشفافية والمساءلة والمراقبة الداخلية والميزانية المفتوحة، تفاديا لكل مظاهر وسلوكيات الزبوبية والعائلية والعلاقات الشخصية التي عامة ما تطبع تدبير الوظيفة العمومية، عبر الاجتهاد في اشتراط تقديم المرشح للمسؤولية لمشروع مهني وعلمي حول تطوير وتنمية المرفق الذي هو مرشح له أمام لجنة محايدة لتقييم قدراته المهنية والتواصلية والإنساني، والإبداعية في مجال الحكامة، ثم من خلال التفتح على القطاعات المعنية بالدراسات العلمية والنشر والتدوين، ثم العمل على خلق وكالة للمعلوميات تربط مباشرة مع البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات وباقي الوزارات المعنية، تطبيقا لتوصيات الانتوساي في الموضوع، لأن منصة التدبير المندمج للنفقات والتدبير المندمج للموارد لم تحظ بالدراسات اللازمة بشأن الربط المعلومياتي العصري. وبالتالي، فالمنصة لم تستجيب لما فيه الكفاية لمتطلبات الميزانية المفتوحة. تجاوز غلبة المراقبة التقليدية في عمل الوزارة على ثقافة التقييم والتتبع للمشاريع والسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية للبلاد، من خلال العمل على بلورة منظومة جديدة للمراقبة الداخلية للوزارة تضمن الفصل بين المهام التدبيرية والمهام المتعلقة بالرقابة الأفقية والعمودية والمساءلة وتقديم الحساب كما هو جار به العمل بفرنسا، على سبيل المثال، حيث يتم توضيح مسؤوليات الخازن العام للمجتمع المدني في المساءلة المالية، بصفته أعلى محاسب في المملكة، في تقديم حسابه إلى المجلس الأعلى للحسابات، وفق المرسوم الملكي 21 أبريل 1967 المتعلق بالمحاسبة العمومية وسهر الوزارة على التقييم الاستراتيجي الشامل للمشاريع الاقتصادية والمالية والنقدية، مع ضرب المثال في ترشيد الموارد المتاحة ودعم الخلق والابتكار وتنمية قيم الاستشارة والدراسة المهنية داخل القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية برمته. بناء مجلس أعلى استشاري للضريبة للتداول حول تجويد أداء الموارد المالية، وخلق جدل فقهي فيما يخص الوعاء الضريبي والتحصيل والإعفاءات ومسؤوليات المحاسبين العموميين والمساطر المتبعة أمام المحاكم والاجتهادات المذهبية والأحكام الصادرة بشأن المنازعات الضريبية. إن من شان بناء هذا المجلس على أساس الكفاءة والشفافية والمساءلة والمعرفة (يقال المعرفة قبل الرأي) دعم النقاش والحوار الوطني بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والأكاديميين والمجتمع المدني، من خلال تنظيم لقاءات علمية وندوات هادفة وإحداث دورية مختصة في المجال لتنوير الرأي العام والمواطنين وتكوين الباحثين، بغية توجيه الضريبة نحو خدمة القطاعات الإستراتيجية في البلاد (بطالة الشباب، الاستثمار، اقتصاد المعرفة والابتكار). المساهمة في تكوين المجتمع المدني ووسائل الإعلام وباقي الآمرين بالصرف، من أجل تقوية قدراتهم في مجال الميزانية المفتوحة والمساءلة المالية وتقييم الأثر في تنفيذ المشاريع والسياسات العمومية، ضمن برنامج الوزارة في مجال توطيد نجاعة الأداء، مع السهر على دعم التقائية المشاريع والسياسات العمومية، عبر دعم القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية، لا سيما الجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية في مجال البحث، وتطوير القدرات الإدارية والمالية للعاملين فيها. وهذا لن يتأتى إلا باحترام وضمان حركية الموظفين في مدة لا تتجاور أربع سنين على رأس المديريات والمهام (كما جاء في رسالة سامية للمغفور له الحسن الثاني في التسعينيات من القرن الماضي)، من أجل إعطاء دينامية خاصة ودم جديد لأعمال المديرين وتفادي الرتابة وخلود المسؤولين عدة سنوات على رأس المؤسسات، بدون رقيب أو حسيب أو تقييم للأثر أو نجاعة أداء تذكر. بلورة برنامج مكثف لخلق مؤسسة الوسيط داخل الوزارة (وكذلك في باقي القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية)، حيث بينت بعض التطبيقات الجيدة في بعض البلدان مدى فعاليتها ونجاعتها في فض النزاعات والنظر في كل القضايا المتعلقة بشكاوى المواطنين وتضارب المصالح داخل القطاع. دعم وتعزيز قدرات الوكالة القضائية بكل الإمكانات المالية والإدارية والبشرية والعلمية والفقهية اللازمة، لتتمكن من القيام بمهامها في أحسن الظروف، علما أن كل تقصير في حق تمثيل الدولة والدفاع عنها أمام القضاء يضر بالمصالح المالية والاعتبارية لهذه الأخيرة. [email protected]