مارس 1985..داخل المكتب المركزي لوزارة الداخلية، يجلس عبد الرحمان بنعاشور منتظرا اتصالا من أعلى مستوى، وهو المكلف بمعاينة سير الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، في غياب الرجل القوي إدريس البصري في مهمة مستعجلة.. استعداد تام واطلاع على كل البرامج وتفاصيل الأخبار العالمية، في أفق اتصال للاستفسار حول الأوضاع..الهاتف يرن، البصري على الخط: "كم نتيجة النهضة السطاتية لهذا الأسبوع؟". يرد عاشور الذي لم يتوقع سؤالا كذاك: "بصراحة، لا أعرف"، أجاب البصري: "أنت ما حاضي والو". أقفل الخط وانتهت المكالمة. بوح مُقَرَبٍ لخص تعلق "أب الوزارات" بمدينته سطات، التي افترشت زينة بدون تفاصيل ولا جديد، أمام زمن عات محا مرور عقد كامل على وفاة البصري من شوارع مدينة استكانت إلى صمت قرباني ذات صيفية سنة 2007، وهي تودع ابنها الذي حظي بإجماع فريد داخل المدينة وفي أحوازها، التي ظل سكانها حاملين لذكراه، مصورين إياه بطلا قوميا، زفه التاريخ إلى المنطقة على خيلها المنتصب وحيدا في المدار هناك، بعد سقوط الفارس الوفي. هسبريس تنقلت إلى سطات، والمناصرة والبصاصرة، وعين علي مومن، أمكنة فتح فيها البصري عينيه، ومرغت طفولته ترابها، والتقت بعائلته وجيرانه وأصدقائه، في ذكرى وفاته الحادية عشرة، فحكوا عن الرجل، ونفوا عنه صفة "المتغطرس" التي التصقت به على الدوام، حتى واسمه لم يعد سوى صداَ مناسباتي خافت يزور الشاشات والصحف في مرات قليلة، دون أن يكُف ذلك أبناء دواره عن التشبث بتكرار تجربة "ولد سطات فالسلطة". صداقة لم تمحها الداخلية دوار المناصرة، خارج المدار الحضري لسطات.. لا شيء ينافس السكينة المُطبقة على المكان سوى صياح ديكة متفرقة في الأفق الشاسع لدواوير الشاوية الأصيلة، طريق معبدة وسيارات مارة يتفرس فيها الصغار بشغف طفولي..هنا كانت بداية حكاية البصري مع سطات وأهلها، الذين لم يخمنوا يوما أن طفلا صامتا وملازما للكتب سيُصبح في يوم من الأيام الرجل الثاني في هرم الدولة ل25 سنة. بملامح رسمتها الجغرافيا القاسية للمناصرة يأتينا جمال الدين بن الكبير، مقتادا ماشيته صوب حظيرتها؛ استوقفناه باعتباره صديقا حميما ل"سي دريس"، كما يسميه، ليحكي أن "البصري رأى النور في منطقة البصاصرة ضواحي سطات، ودرس في عين علي مومن، بحكم اشتغال والده كسجان بالسجن المحلي هناك"، ثم يضيف باندفاع سكان الشاوية: "بعدها جاء الأب وبنا منزلا هنا في منطقة المناصرة، بعد أن انتقل ادريس وأخوه محمد إلى سطات من أجل الدراسة في مدرسة بنعباد". بن الكبير، يضيف مصرا على قوله بتحريك أصابعه الدالة: "أطفال الدوار كانوا جميعا يلعبون، باستثناء ادريس، كان طوال الوقت حاملا للقلم والكتاب، وذلك ما مكنه من تبوء المناصب، التي لم تنسه دواره وأهله بشكل عجيب، فهو من بنى مسجد الدوار بعد وفاة أمه، وهو من دشن المستشفى، وصاح حينها في سكان الدوار: زيدو أ لمناصرة زيدو، هادشي را ديالكوم، ثم نادى أحد وجهاء القبيلة ضاحكا: "هاك ها الفانيد -الدواء- هاك ما تغزز"". "دراسة البصري في مدينة سطات ستدفع بالأب إلى شراء منزل في الباطوار، بعد أن كان طفلاه يتنقلان على الأرجل لمسافة طويلة إلى ثانوية بنعباد"، يقول بن الكبير، ويسترسل طالبا الانتباه: "نقطة التحول كانت امتحانا تبوأ فيه البصري المرتبة الأولى، ليعين بالرباط كاتبا عاما مساعدا لمدير الأمن الوطني محمد الغزاوي، ثم بعد ذلك سيذهب في مهمة صوب الصحراء، نجح فيها لينال رضا الملك، فحُوِّلَ أنذاك على وزارة الداخلية، التي سيتدرج فيها، إلى أن تمكن من الاستوزار باسمها سنة 1979". جمال الدين بن الكبير، الذي بدا متعلقا بذكرى البصري، أَضاف أن "علاقة البصري مع سطات كانت استثنائية جدا، وخصوصا فريق النهضة السطاتية، الذي كان محبا شغوفا له ومتابعا دقيقا لكل أخباره"؛ فإبان فوضى انقلاب الصخيرات تنقل إلى الرباط من أجل زيارته وتفقد أحواله، ففاجأه البصري وهو طريح الفراش: "في حالة ما مت فستبقى غصتان في قلبي، الأولى فراق النهضة، والثانية فراق الأبناء". بقي بن الكبير مندهشا أمام حب الرجل للفريق، ثم عاد أدراجه إلى سطات، وفكرة "النهضة والبصري" لا تفارق باله. الستيني، الذي يقول إنه "يكتفي برعي أغنامه ولم يستغل قرابته من البصري لتحقيق مآرب شخصية"، يسترسل بأن وفاة إدريس كان لها وقع كبير على الدوار، فبمجرد ذيوع الخبر استقبلته زوجته بسؤال: "تا واش مات الفحل؟"، ليخبرها بن الكبير بأن الرجل "كان متواضعا وتناول بغريرها وطاجينها رغم علو منصبه"، وأردف: "ثقل البصري جعلها تموت مباشرة بعد وفاته بيوم واحد، إذ توفي هو الاثنين وتلته هي يوم الثلاثاء في العاشرة صباحا". طفولة عصامية بالدوار ذاته، التقينا برشيد البصري، ابن أخت ادريس البصري..نظارات سوداء، وبزة شبه رسمية، ترسم للناظر تقاسيم شخصية وقورة، رحبت بنا ببشاشة، ورافقتنا صوب دوار لبصاصرة، الذي ولد فيه البصري..مساحات رحبة من الخلاء يُغطيها تبن يستقوي بالحشائش، أمام زحف عمراني يغتال زرقة السماء الأخاذة في الأفق الشاسع، الذي تقول عنه جارة لأسرة البصري إنه "كان ساحة يلعب فيها إدريس لما كان طفلا، كما ضمت منزل ولادته، قبل أن ينهار ويصبح أرضا مُسطحة دون ملامح". "منزل أسرة إدريس كان عاديا جدا، مثل بقية المنازل، مبني من حجر ويحيط به سور؛ هنا كان يلعب مع أصدقائه، هذا هو دواره"، تحكي جارة عائلة إدريس، وتسترسل: "كان مرضي الواليدين..حسنَ التعامل مع أبيه وأمه.. وكيدير الخاطر لكاع الناس..حتى لما تقلد زمام وزارة الداخلية لم يكن يوما متكبرا، يُسلم على الناس بشكل عاد، لا فرق بالنسبة إليه بين غني أو فقير، يسأل عن الأهل جميعا، وذلك سر هرولة الجميع صوبه كلما جاء إلى الدوار لزيارة قبر والديه المدفونين في منطقة مجاورة". غير بعيد عن دوار البصاصرة، تقود طريق قروية غير معبدة صوب "الروضة". قبران متقاربان يرتفعان، يدرك من اسمهما أنهما يعودان إلى والد ووالدة إدريس البصري؛ يقف أمامهما رشيد باحترام شديد. ويسرد: "انتشرت إشاعات تقول إن البصري بنى ضريحا كبيرا لوالديه بالمنطقة، لكن الحقيقية أمامكم، قبور عادية مثل قبور جميع المسلمين..الإنسان ملي كيموت كيولي بحال بحال"، ثم يضيف: "البصري كان يتمنى أن يُدفن جوارهما بسطات، لكن بعد تواصل الملك والجهات العليا مع العائلة تقرر دفنه في مقبرة الشهداء بالرباط، والحمد الله أرض الله واحدة". دوار عين علي مومن كان له الوقع الكبير على حياة إدريس البصري، بحكم دراسته به واشتغال والده في سجنه المحلي، حيث كان يرافقه من دوار البصاصرة إلى مدرسة عين علي مومن سابقا وآسية الوديع حاليا، مشيا على الأقدام. يدخل البصري فصله الذي لازال يحتفظ بشيء من الحنين إلى عراقة التعليم الفرنسي، ويلج الأب الفضاء السجني قصد الحراسة، ثم يخرجان معا ويعودان إلى المنزل مشيا على الأقدام طوال خمس سنوات دون كلل. "كان يأتي مشيا على الأقدام قاطعا مسافة طويلة من أجل الدراسة الابتدائية بالعين..كيجي من المناصرة مع جدي في بدايات الأربعينيات..كان متقد الذهن متفوقا ومملاهيش باللعب، منذ صغره يحب الاجتهاد والمعقول، والله وفقه إلى ما يريد"، يقول رشيد البصري. علاقة البصري بعين علي مومن استمرت رغم الكبر والوزارة، إذ يسرد رشيد أنه يتذكر "الزيارات المتكررة لإدريس البصري إلى منزل العائلة بالمنطقة وهو في عمر الثلاثين"، موردا: "يأتي من الرباط كل يوم سبت، يستيقظ في الصباح الباكر، ثم يجمع الجيران ليلعبوا كرة القدم في الملعب المجاور. كانت أجواء عائلية رائعة.. بعدها يستحم، ويخرج ليلتقي الناس..كيتهلا فيهوم ويرضيهم ولو بكلمة طيبة، ثم يعود أدراجه صوب الرباط"، ويزيد: "ما يقال عن البصري غير صحيح.. من يقولون عنه ذلك لم يعاشروه ولم يعرفوه عن قرب". "مكابدة البصري للمحن من أجل مواصلة الدراسة ستتواصل بنجاحه في الابتدائية، ليتحتم عليه التنقل صوب سطات، حيث بدأ مشوارا جديدا في الثانوية الإسلامية - ابن عباد حاليا - إلى أن حصل على شهادة الكفاءة. كان يأتي من المناصرة إلى سطات، وفي فترة الاستراحة يمكث أمام الثانوية حتى يحين وقت الفترة المسائية، ويدرس مجددا؛ لا يعود أدراجه حتى يسدل الليل ظلامه بحكم بعد المسافة"، يسرد رشيد، مشددا على أنه "كان شغوفا بالدراسة ولا تهمه معاناته في سبيلها". الأقارب والوفاة الزيارات المتكررة للبصري إلى سطات، ومنزل أبويه، جعلت علاقاته متشعبة ومليئة بالذكريات والاسترجاعات، التي ينطق بها الغنيمي، حارس منزل "سي ادريس" بسطات، قائلا: "كان ليعمرها دار". ويضيف الستيني: "ملي كيجي كيدور معايا ب160 170 ألف، وأكثر..فقط يحمل كومة نقود من المحفظة ويسلمني إياها..معندو غرض..عندما يزور المنزل يأتي الناس من كل منطقة، ينتظرون خروجه لتسليمه شكاواهم وتظلماتهم، وكان يتسلمها بصدر رحب". "في أيام العيد الكبير يُفرق النقود على المارة، شي اعطيه 8 آلاف شي 20 ألف، بدون حساب، لكن بعد وفاته أصبح كل شيء مغايرا، حتى فريق المدينة سقط إلى أقسام الهواة، في وقته كان مهلي فاللعابا والمدرب، والجمهور..كان يشرف على إدخال جميع المشجعين إلى الملعب، حتى من لا يملك تذكرة"، يضيف الغنيمي، وهو أمام المنزل الذي أصبح مهجورا بعد وفاة البصري. رشيد البصري أكد أن "خبر الوفاة كان غير متوقع"، مردفا: "تواصل سي إدريس مع العائلة وإخوته يوم الخميس، قال إن الأمر يتعلق بتعب عاد وألا شيء يدعو إلى القلق، قبل أن يأتي اتصال مبكر صباح الاثنين 27 غشت من سنة 2007: "سي ادريس توفى"..وهو الخبر الذي زكاه شريط إخباري في إحدى القنوات يقول: "وزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري في عداد الموتى"". "كان الجميع في صدمة، لم يكن أحد يتوقع الوفاة، خصوصا أننا لم نلتق به لسنتين، كنا نتواصل معه فقط عبر الهاتف، كان الأمر محزنا، لكن هذا هو قدر الله، عندما يتعلق الأمر بالوفاة فالجميع يتقبل"، يقول رشيد، ويسترسل: "خيره على أهل المدينة كان كثيرا، أعطى الشيء الكثير لسطات، إيجابياته عليها أكثر من سلبياته. من ينتقد البصري عليه أن يدرك أن سي ادريس ليس ملاكا، وليس شيطانا، له أخطاؤه كجميع البشر. لا وجود لحياة مثالية". "كان سيدفن في سطات، جيء بجثمانه يوم الثلاثاء، وتلقينا اتصالات تفيد بأن دفنه سيكون فالرباط؛ تقبلنا الأمر، لكن سطات حينها كانت شاردة.. الكل كان ينتظره، كولشي تلف، أراد الناس بشدة اللحاق بالجنازة، لكن السلطات منعت الحافلات من الذهاب آنذاك. دخلت سطات بعدها في حزن عميق لأكثر من أسبوع، أحست الساكنة بحجم الخسارة"، مضيفا بتحسر قلب ملآن: "كان دائم الزيارة، كلما جاء عادت فيه الروح، متعلق بسطات، وبالمؤسسة الملكية: "تمس ليه فعينو ومتمسش فالملك"".