على من نلقي باللائمة في قضايا إهمال الموتى والتنكيل بجثامين رجال سياسة وفن ورياضة، هل ندين المؤسسات الرسمية الحكومية التي لها علاقة مباشرة بحرمة المقابر؟ أم نلوم هيئات حقوق الإنسان التي تصر على الاهتمام بالإنسان في حياته قبل مماته؟، أم نلوم أنفسنا لأننا لا نتذكر موتانا إلا إذا حلت ذكرى أو قادتنا الصدف إلى «تجزئة الآخرة». صحيح أن الطرف الرئيسي الذي يتحمل مسؤولية الدفاع عن حرمة المقابر ضد العبث أو إساءات أو نبش للرفات، هو مصالح ومندوبيات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي من مهامها أيضا تدبير إشكالية استغلال وإعادة استغلال المقابر القديمة من جديد، وتدبير الوعاء العقاري الذي يحتضن المقابر، لكن المقبرة ليست مرفقا تابعا لهذه الوزارة بل هي مرفق عمومي جماعي، «يُعد تدبير شؤونها وصيانتها من المهام الملقاة على عاتق الجماعات المحلية بالمغرب، وفق الميثاق الجماعي الجديد المنظم للجماعات المحلية». هذا حين يتعلق الأمر بقبر مواطن عادي يحتاج إلى حفرة وشاهد وصلاة جنازة، لكن تدخل مصالح وزارة الثقافة على الخط وتصبح مطالبة بالاعتناء بالقبور التاريخية أو القبور التي تقع في مزارات، فيما يعهد لوزارة السياحة بالاعتناء بالقبور التي تتواجد في مرافقها السياحية بتعاون مع وزارة الثقافة والمجالس المنتخبة. يقول المحامي محمد الصغير، بأن المشرع خصص نصوصا من القانون الجنائي المغربي للحفاظ على حرمة القبور، فالقانون يميز بين هدم وتلويث المقابر، وارتكاب أفعال مشينة ضد الموتى. والفصل 268 من القانون الجنائي يعاقب بالحبس من سنة إلى سنتين، وغرامة من 200 إلى 500 درهم مغربي «كل من هدم، أو امتهن أو لوث المقابر بأية وسيلة من الوسائل، ويدخل في حكم التلويث التغوط، أو التبول على المقابر، والأمر يتعلق بمقابر المسلمين، وغير المسلمين». كما يعاقب الفصل 269 كل شخص «ارتكب عملا من شأنه الإخلال بالاحترام الواجب للموتى في مقبرة، أو في أي مكان آخر للدفن بالحبس من شهر إلى 3 أشهر، وغرامة من 200 إلى 250 درهما».أما الفصل 271 من القانون الجنائي فيعاقب «كل من لوّث جثة أو مثّل بها وارتكب عليها عملا وحشيا أو بذيئا بعقوبة حبسية تصل إلى 5 سنوات». أما وصف الفعل بأنه وحشي أو بذيء فيدخل في اختصاصات السلطة التقديرية للمحكمة. لكن المشرع سكت عن الحق في دفن المواطن في تربة بلاده بغض النظر عن مواقفه السياسية أو انتماءاته الدينية أو المذهبية. اليوم هناك مشاهير سواء الذين ماتوا على كفر مع النظام أو الذين ماتوا ولفهم النظام في كفن الإهمال، يرقدون في مقابر منسية داهمتها عوامل التعرية وحولتها إلى حفر بلا عناوين، أغلب رموز الفن والكرة والسياسة والأدب والمقاومة ماتوا مرتين، حين عاشوا ضروب التنكر قبيل مماتهم وحين زج بهم في مقابر منسية بعد الوفاة، وأغلبهم يرقدون في مقابر أصبح ولوجها في واضحة النهار «مخاطرة»، إذ يصعب التمييز بين قُطاع الطرق والمتسولين، حينها قد تصبح زيارة قبر مقدّمة ل«حجز» قبر آخر.. بل إنه، وفي ظل غياب صيانة هذه المقابر، تحولت غالبيتها إلى نقط جذب للمتسولين والمشردين، الذين يبرمون مع السلطات «معاهدة هدنة» تنتهي بإجلائهم كلما حل موكب جنائزي لمسؤول رفيع المستوى.. حينها، يحال المتسولون والمشردون على إجازة قصيرة على أن يسمح لهم باستئناف نشاطهم بعد انسحاب المسؤولين، بل إن مقابر المملكة أصبحت تستقطب متسولين من دول جنوب الصحراء، لا علم لهم برموز هذا الوطن الذين يرقدون في أحشاء تربة المقبرة. نادت إحدى الجمعيات بتخصيص أول جمعة من كل رمضان واعتباره «يوما وطنيا للحفاظ على حرمة المقابر والقيام بحملات إعلامية للتحسيس بضرورة الحفاظ على كرامة الأموات»، لكن لا أحد اعترف بهذه المناسبة لأنها تهم كرامة الأموات ولا تعني الأحياء في شيء. بل إن وزارة الداخلية نظمت في يونيو من سنة 2010، يوما دراسيا حول حرمة المقابر أفرز عددا من التوصيات الرامية إلى الاهتمام بالقبور خاصة قبور رموز هذا الوطن، أرسلت التوصيات إلى العمال ورؤساء الجماعات مُذيلة بعبارة «قصد التنفيذ»، لكن القائمين على الشأن المحلي حولوها إلى مقررات مؤجلة التنفيذ. في مراسيم دفن شخصيات هذا الوطن يحضر الهاجس الأمني، وتحدد طبيعة المعاملة من خلال شخصية الراقد في النعش، فإذا كان فنانا أو رياضيا أو أديبا أو إعلاميا يتناوب رؤساء التنظيمات النقابية في تأبين متأخر للفقيد أمام كاميرات التلفزيون، لكن حين تقول صحيفة سوابقه إن الميت كان يحمل في قلبه عداء للنظام، حينها ينتشر المخبرون في بهو المقبرة وتغيب الكاميرا والتلفزيون ويتقلص حشد المشيعين ويختزل صديق أسرة الراحل كلمات التأبين إلى الأدنى. في مقابر المملكة يحظى الأغنياء بقبور لا فرق بينها وبين غرف الصالونات المخملية، هناك يحجزون قطعا أرضية يبنون مساكن لقبورهم بعيدا عن القبور الشعبية مكرسين الطبقية في فضاء لا فرق فيه بين ثري وفقير، لكن باسم «التجمع» العائلي يدفن علية القوم في أماكن محمية من غارات المشردين الذين لا يكتفون بنبش جيوب الزائرين إلى نبش عظام القبور، في هذه الفيلات يسهل الاهتداء للقبر ويتجنب الميسورون البحث عن قبور متناثرة في أكثر من مقبرة.
متسكعون يتبولون بالقرب من قبر مؤسس الدولة المرابطية
حين أطلق موقع إلكتروني مراكشي استفتاء تساءل فيه حول مكان وجود قبر مؤسس مدينة مراكش، تبين أن أكثر من ثلثي المشاركين في الاستفتاء يجهلون مكان ضريح الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين، وهو ما يكرس القطيعة الإبستيمولوجية بين المغاربة وتاريخهم، رغم أن أغلب المشاركين في الاستفتاء يمرون يوميا بالقرب من القبر دون أن يلتفتوا إليه أو يثير اهتمامهم، بل إن وزارة السياحة "متواطئة" إلى حد كبير في هذا الغبن الذي يطال ملكا صنع تاريخ المغرب، حين ألغت من مطوياتها السياحية ودليلها الترويجي إشارة إلى ضريح هذا الرجل، الذي قدر له أن يعيش كريما، ويدفن بعد مماته بالقرب من نفايات وصخب وسط المدينة، بل إن القبر أصبح ملتقى للمشردين والمخمورين الذين لا يجدون حرجا في التبول على جنباته كلما اعتصرت أحشاءهم سيول الخمرة، كما أن المجلس الجماعي للمدينة متهم بدوره بإهمال معلمة تاريخية، حين رفض وضع علامات تشوير ترشد السكان والسياح، على حد سواء، لضريح أحد بناة حاضر المملكة الشريفة. لعب يوسف بن تاشفين دورا كبيرا في إعمار مراكش، التي حولها من منطقة خلاء إلى حاضرة وعاصمة لملكه، لكن الأقدار شاءت أن يرمي القائمون على الشأن الثقافي والسياسي والسياحي بهذا الرصيد الحافل بالإنجازات في مزبلة التاريخ، في موقع لا يمكن أن ينام فيه الملك هادئا قرير العين، وسط صخب منبهات صوت الحافلات المتراصة وفضاء لمطاردات الشرطة السياحية للصوص والمشردين التي لا تتوقف بالقرب من القبر، وصراخ الباعة المتجولين الذي يملأ الفضاء معلنا الحرب على السكينة التي يفترض أن تحف الفضاء. يعيش دفين مراكش محنة حقيقية وسط هذا البلاء الذي يقض مضجعه ويحوله بعد مماته من رمز إلى قطعة متلاشية من الزمن، في الوقت الذي كان فيه ذكر بطل موقعة الزلاقة كافيا لزعزعة كيان أكبر القوى العسكرية، بل إن اسمه كان حاضرا في أدعية خطب الجمعة في بلدان الأندلس والمغرب والصحراء لأن ملكه كان يبدأ من "مدينة افراغة أول بلاد الإفرنج قاصية شرق بلاد الأندلس إلى آخر الاشبونة على البحر المحيط من بلاد غرب الأندلس، وبالمغرب من جزائر بني مزغنة (الجزائر العاصمة) إلى طنجة وإلى آخر سوس الأقصى، ثم إلى جبل الذهب من بلاد السودان"، حسب كتب التاريخ التي تحكي عن الرجل بقلم مرتجف. دارت الأيام وتحول "مول لبلاد" كما تسميه "لحفيضة"، المرأة التي تشرف على نظافة الضريح وتتلقى صدقات الزوار على قلتهم، إلى ما يشبه السكن العشوائي، دون أدنى اعتبار لصاحبه الذي صال وجال في الأمصار، بل إن بعض المارة لا يكلفون أنفسهم مجرد إلقاء نظرة أسى على ضريح مؤسس المدينة في القرن الحادي عشر الميلادي، ليعيش في مماته داخل قبو يسع بالكاد لجثة عليها رداء قديم يتصدق به المحسنون، والأنكى من ذلك أن مجلس المدينة حرم الراحل في قبره من نعمة الماء والكهرباء حتى بات الضريح مقفرا، لا يرقى إلى أضرحة أولياء "صالحين" نكرة لكنهم يحظون في مماتهم بالحد الأدنى من الكرامة.
قبر مجهول ل«سلطان الاستعمار»
رفض الملك الراحل الحسن الثاني عودة محمد بن عرفة إلى المغرب رغم استعطافه ورغم محاولات جهات وسيطة خاصة من فرنسا، حاولت قدر الإمكان انتزاع صفح ملك على ملك، عبر تقديم تفسيرات تفيد بأن قبوله الجلوس على العرش كان مفيدا للأسرة الملكية لأنه فوت الفرصة على الحماية الفرنسية التي كان أقطابها يسعون إلى إقامة نظام جمهوري بالمغرب مكان النظام الملكي. رفض الملك الحسن الثاني استقرار ابن عرفة البكر بالمغرب، لكنه خلافا لذلك، سمح لبنات بن عرفة بالبقاء بالبلاد والقصر الملكي، وقد قيل إن الملك محمد الخامس كان على وشك العفو على محمد بن عرفة غير أن المنية وافته قبل القيام بذلك. توفي بن عرفة في صيف 1976 ورفض الملك الحسن الثاني مقترح أسرته الرامي بدفنه في المغرب، حيث قال لمن توسطوا له في الأمر: «وخا نبغي أنا، أرض المغرب غادي ترفضو»، وبذلك تم دفنه بالديار الفرنسية، لكن الدفن كان مؤقتا إلى حين نجاح المساعي التي أثمرت موافقة الحسن الثاني على استقبال الجثمان ودفنه من جديد في تربة المغرب خلال الثمانينيات أي بعد مرور عشر سنوات على موت الملك «الاحتياطي». نقل رفات محمد بن عرفة إلى مدينة فاس، وهي المدينة التي ولد فيها سنة 1886، إذ دفن في قبر مجهول لا يحمل أي لقب بمقبرة باب المكينة العتيقة، وقد تكلف الراحل إدريس البصري حينها، بإجراءات النقل والدفن في سرية تامة, حيث عومل في مماته كمواطن خان العرش بعد أن ساهمت عودة محمد الخامس من منفاه في كنس بن عرفة من الأذهان بالرغم من الدعم والسند الذي قدمه له الباشا لكلاوي وكثير من القياد والباشوات. أصر أفراد أسرة بن عرفة على انتزاع عفو عن السلطان الذي جيء به من طرف المستعمر، ليخلف محمد الخامس وينهي النظام الملكي، لكن لا أحد من سلالة هذا الملك البديل كان يعلم أن نهايته لن تكون كبدايته حين حمل إلى السلطة بالدف والمزمار والبيعة، ليوارى الثرى غريبا قبل أن يدفن في قبر مهجور يصعب الوصول إليه أو حتى الاقتراب منه خوفا من عدوى الخيانة التي لم تمت.
الوزير القوي الذي دفن بعيدا عن «قلعته»
حين كان ساكنة مدينة سطات ينتظرون دفن جثمان الوزير الطريد ادريس البصري في تلال عاصمة الشاوية بناء على وصيته، تلقى أفراد أسرة الراحل مكالمة هاتفية من العاصمة تخبرهم بتغيير مكان الدفن، حينها تبين لزوجته ولأبنائه وأشقائه أن وصية السي ادريس لن تتحقق ورغبته في أن يدفن في الشاوية قد اصطدمت بموقف المخزن. في مقبرة الشهداء بالعاصمة قدر للبصري أن يوارى الثرى بحضور رمزي للسلطة وبعض «الصداقات القديمة التي لم تنل منها الأيام». يقول محمد بروكسي عضو ديوانه ورفيق دربه إن البصري كان يوصي بدفن جثمانه في مدينة سطات التي لم تكن مجرد مسقط رأس لوزير بل كانت مزارا يتبرك به، «هناك يتخلص الوزير من سلطاته يجالس البسطاء يصغي إليهم يقبل رؤوس الشيوخ الذين يمسكون بيده وهم يشحذونه بوصايا من الماضي، وهناك يصر على أن يدفن رفاته، لكن الرجل لم تسعفه الأقدار في أن يحتفل بعيد ميلاده التاسع والستين داخل بلاده، أو في المنطقة التي ظل يحن إلى العودة إليها، إنها الشاوية التي دفن بعيدا عن هضباتها وتموجات مزارعها وحقولها وأنهارها وهذا أكبر عقاب لسي ادريس». ورغم أن عائلته في سطات نصبت فور علمها بالوفاة خيمة كبيرة لتلقي العزاء، إلا أن السلطات الأمنية ارتأت دفنه في الرباط، على أن تتلقى زوجته فتيحة وأبناؤه عبارات العزاء والمواساة في بيته بالعاصمة، مما اضطر معه عدد كبير من السطاتيين إلى التنقل صوب الرباط لحضور مراسيم الدفن وحفل التأبين، ولأن الفقيد اسم مثير للجدل في عز سلطته وجبروته وفي غياهب عزلته، فإن إشاعات تناسلت عن صدور أصوات غريبة من قبره شبهتها بعض المنابر بأنين العذاب، كما تعرض شاهد قبره للتلف، قبل أن تنتدب ولاية أمن الرباط رجلي أمن لحراسته وهو ميت في قبره، وتعلن في ما بعد عن ضلوع مشرد في الواقعة لتحفظ القضية في دهاليز النسيان.