سمعتُ عن الأستاذ أحمد أخشيشن كثيرا (إيجابا وتحفظا)، قبل لقائه؛ لكني تعرفتُ عليه عن قرب خلال الثلاث سنوات الأخيرة، منذ توليه رئاسة جهة مراكشآسفي واضطلاعي بها بمهمة رئاسة لجنة العمل الثقافي. وبما أنني جئت العمل النيابي من آفاق مغايرة رأسمالها الأخلاق فإني اكتشفتُ في الرجل السياسي خصالا تكاد تنعدم اليوم في نخبتنا السياسية، حيث ضعف الطالب والمطلوب. لمست فيه رجل الدولة المحنك والمثقف الرصين والمسؤول المتفاني في مسؤوليته، وقبل هذا وذاك، الإنسان المجد والحكيم، يمتلك مقادير وأوزان العمل السياسي. شخصه يدعوك إلى احترامه من أول وهلة، يشدك بعمق وأناقة وتواضع قلَّما تتوازن بصدق فيمن لم يتحقق كليا بالأخلاق العالية والسلوك الراقية، إذ في الواقع لم تسلبه المراتب السامية والمناصب العليا شيئا من نضاليته؛ فالذين خبروا شخصيته بالتصافي يعلمون مدى حرصه على كفاحه في سبيل الإصلاح رغما عن كل شيء.. ولكم أعجب اليوم من التهجم السافر والمجافي للصواب على شخصيته العامة والخاصة والذي يفتقد إلى أدنى شروط المروءة والتقييم الموضوعي حتى من قبل رهط من رفاق الأمس؛ بل ومن بعض إخوان العلانية أعداء السريرة... نعم، لا يماري عاقل في كون أحمد أخشيشين اليوم مدرسة عليا في الفكر والعمل السياسي في مغربنا، يجهد جهده في إرساء قواعد الدولة المغربية الحديثة على أسس منيعة؛ ولعمري أن العملية شاقة ولا تنصف صاحبها في الحين إلا أن الرجل لا يعبأ بالإكراهات الكبيرة ولا يلتفت إلى البطولات الصغيرة. إن المغرب يستند في تاريخه طويل الأمد إلى دولة قديمة مستمرة الوجود، وما هذا الامتداد والتجذر إلا نتيجة لاستماتة كبار رجال الدولة ونسائها الذين تمرسوا على الاصطبار وتحمل الأذى، علما أنهم غير معصومين من الخطأ وأن اكتمال إنجازاتهم مطبوعة بالنقص. ولعل ما يميز مسار الأستاذ أخشيشين هو أنه من المثقفين المتألقين الذين باشروا أعالي أمور الدولة، وهذا ما يجعله أكثر عرضة لنقمة الحاسدين؛ بيد أن المثقف الذي جمع بين النظر السياسي والممارسة الفعلية للسلطة هو أقوم بكثير من ذلك الذي اكتفى بالنظريات والنقد المغرض في معظم الأحيان. كان لي شخصيا خير سند وعون، تعلمت منه الشيء الكثير.. تعلمتُ منه أن طريق الإصلاح صعب وشائك لا يقطعه إلا الصبر والأناة والتحمل والإنصات، وأن المصلح لا يمكنه أن يكون كذلك إلا إذا كان صالحا لمحيطه، متصالحا مع ذاته، متخففا من أثقال الحقد والتهافت والضغينة.. تعلمتُ منه أن سر الاستمرارية هي وضع الأشياء مواضعها الصحيح.. تعلمتُ منه الأمل والاستمرار وعدم الاستسلام، بالرغم من جسامة المسؤولية.. تعلمت منه أن الغاية من كل فكرة أو مشروع أو إنجاز سياسي هو السعي إلى جانبه الإيجابي وأصله الإنساني الذي هو في نهاية الأمر الكرامة الإنسانية والتعايش. همه الأول هو أن يكرس لدى أعضاء مجلس الجهة الفهم والعمل على إرساء قواعد الجهوية المتقدمة، التي يعتبرها الورش الأساس لترسيخ الديمقراطية.. من الناحية الإجرائية، تتميز منهجيته في العمل بالدقة والصرامة واحترام كل المتدخلين، كيفما كان موقعهم، وتقوم على توزيع المهام وانتداب المسؤولية لمن يرى فيه القدرة على حملها بجدية. تتسم طريقته في تدبير شؤون الجهة، في محطة أساسية كالتي نعيشها اليوم وفي ظل بناء وتأسيس الجهوية المتقدمة، بحرصه الشديد على التأكيد على أن السياسة والأخلاق هما جوهرا ومنطلقا جميع المنجزات النافعة والمستدامة وأن السياسة بلا أخلاق تسفيه والأخلاق بلا سياسة لمن كان مؤتمنا عليها بالانتداب تقصير؛ ولعله أيضا من القلائل الذين تمكنوا بالفعل من تطبيق شعار "السياسة بشكل مغاير".. لذا، استطاع الأستاذ اخشيشن٬ بحرفية عالية وبأخلاق رفيعة، النجاح في تدبير التوافق بشكل نموذجي بين اليمين واليسار من أطياف وحساسيات حزبية ما فتئت تتصارع في جهات أخرى على حساب المصالح العليا للشعب والدولة. ومن ثمّ، يمكن القول إنه أسس لتيار فكري سياسي معتدل. لذلك، فإن السياسة بالنسبة إليه يجب أن تضم ولا تنبذ، أن تفتح ولا تغلق، أن تزيل العراقيل لا أن تضعها. وهذه المنهجية التوافقية التي تميز أداؤه ترجع أيضا إلى تكوينه الأكاديمي وخبرته الكبيرة في علم التواصل. وبالرغم من إدراكنا أن الحسد شعور إنساني ما انفك يحرك التاريخ ومجرياته منذ غابر العصور، ماذا عسانا أن نقول في هذا الظرف العصيب الذي طغت فيه الأحقاد وضاع المعنى واختلط الحابل بالنابل؟ ماذا عسانا أن نقول سوى أننا، نحن أصدقاء الأستاذ أخشيشن ومعاونيه، نقدره ونحترمه، نحيي فيه روح المسؤولية ونعول على حنكته وحكمته وصبره وحسن تدبيره للمضي قدما في إكمال الأوراش الوطنية الكبرى التي يضطلع بها. ولا شك في أن كل إنجاز ونجاح عنوانه وجوده الدائم بيننا وتوجيهاته الحكيمة ونظره الثاقب الذي يستشرف الآفاق مع ثبوته على الأصول.. ماذا عسانا أن نقول سوى أنه مؤتمن على تجربة غير مسبوقة وفي طريقها للنجاح وأنه يمثل نموذجا للإصلاح نقتدي به؟ ماذا عسانا أن نقول سوى "فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"؟..