لم تكن الثقافة، في يوم من الأيام، عنصر ترف داخل البناء التنموي الحديثّ، أعني به ذلك الذي ينطلق من كُلّ المحاور الحيوية والتي لها ارتباط جوهري وأساسي بالإنسان، باعتباره من حيث المبدأ محرّك العملية الإنتاجية والمستهدف منها في الوقت نفسه. في مدينة طانطانبجنوب المغرب، يقامُ موسم "ثقافي" ضخم، وهو في حقيقة الأمر ملتقى تراثي ببصمة ثقافية تاريخية. ولقد سبق لمنظمة اليونيسكو أن صنفته صيف 2004 مركزا عالميا للتراث اللامادي. حينها، قُصَّ شريطُ عن دورته الأولى بطبعتها الرسمية، بعد توقف طال ثلاثين عاما من النسيان؛ فالمنطقة -كما هو معروف- تقع جنوب المغرب وهي بذلك تُعدّ البوابة الشمالية لمجتمع الصحراء، بكل ما يزخر به هذه الفضاء البشري الممتد فوق سواحل الأطلسي من موروث حضاري تاريخي وثقافي متنوع منفتح ومتواتر. ولقد كرّس التلاقح بين العناصر الأمازيغية الأصيلة والهجرات الوافدة من جزيرة العرب خليطًا غنيّا من التبادلِ الحي بين الحضارات، تمخّض عنه في الأخير هذا المجتمع الذي يسمونهُ اليوم في منطقة الصحراء وموريتانيا وغرب ماليوالجزائر بمجتمع البيظان (تسمية تطلق اليوم على الناطقين باللهجة العربية الحسانية في صحراء جنوب المغرب وموريتانيا وجنوب غرب الجزائر وغرب شمال مالي). وفي الواقع، لم يكن اختيار منظمة اليونيسكو لمدينة طانطان محضَ صدفة عابرة؛ بل كان العمق التاريخي الذي يميز هذه المدينة الصغيرة عن غيرها هو المحدِّدُ الأساسي في هذا القرار الهام والتاريخي، كما كان للتناقضات السياسية وإرث النزاع في المنطقة دورهُ الحاسم في استدعاء الجانب الثقافي علّه بذلك يكون غُصنا نافعا من شجرة السلام الذي يتمنى الجميع غرسها وتثميرها في المنطقة. الموسمُ أيضا كان فرصة لإماطة اللثام عن مجال طبيعي وبشري فسيح، تتراكم فيه العناصر الثقافية على نحو يجعل الاستثمارَ قريبا جدا في شقه النظري على الأقل من طرق أبواب المنطقة؛ فالاستثمار في التراث الثقافي للمناطق التاريخية أو تلك التي تحمل بصمة إنسانية خاصة ونادرة هو اليوم مسلكٌ رئيسي من المسالك المحببة والأكثر رواجا لدى الفاعلين الاقتصاديين، بغية بناء لبنات التنمية الثقافية الشاملة والمستدامة. وممّا كان لافتا للنظر، بعد أن استوفى الموسم الثقافي "أمكّار" بحلته الجديدة عقده الأول أو كاد، تَمكُّنُه من استقطاب جهات خارجية وازنة وتثبيتُها كشريك وضيف دائم الحضور والمساهمة، يتعلق الأمر بإمارة أبوظبي ممثلةً في هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة، وهي الهيئة التي عُرفت بأياديها البيضاء على الثقافة العربية بكافة أجناسها ومن مختلف ألوان الطيف الإبداعية التي تُجسّدها الفعاليات الثقافية والأدبية والفنية المتنوعة على امتداد الأقطار العربية مترامية الأطراف خليجًا ومُحيطًا. الحضور الرسمي للهيئة الإماراتية والرِّعايةُ السامية للمؤسسة الملكية في المغرب وشهادةُ التصنيف العالمي من اليونيسكو كلها مقوماتُ عمل تحلم بها أيُّ فعالية ثقافية في أي منطقة، والمفترض أن يكون النجاح هو النتيجة المتوخاة والمنتظرة والمُنجزة في المحصّلة، وهو ما لم يحدث في مدينة طانطان، على الأقل على المستويين الاقتصادي والسياسي فضلا عن الصعيد الثقافي، إذ ظلت عديدُ الطاقات الإبداعية في المنطقة –وهي كثيرة- مغيبةً عنه ومتحفظةً بشدة على الكثير من فقراته طوال المواسم البعيدة والقريبة، فأين يكمن الخلل يا تُرى؟ إنّ الموسم الثقافي "أمكّار" ليس مهرجانا فنيا وليس معرضا سطحيا للفولكلور الشعبي ولا يمكن له أن يكون كذلك، وإن حدث وحاول البعض دفعه نحو هذا الاتجاه فهو يقوم بشكل معلن وغير مسؤول بعمل لا تقبله ساكنة المنطقة ولا مثقفوها، ولا ترضى عنه الثقافة الحسانية ولا تُقّرهُ، وهي التي نصّ الخطاب الملكي في المغرب بشكل صريح على إيلائها جانبا كبيرا من الأهمية والعناية والاحترام باعتبارها عنصرا ثقافيا قائما بذاته ومكونا أساسيا من مكونات الهوّية المغربية بمشاربها المتعددة. تبضيعُ الفولكلور الشعبي على شكل لوحات معزولة هنا وهناك، والإساءة بشكل مقصود أو غير مقصود إلى مكونات الهوية الثقافية للصحراويين في جنوب المغرب هو أمر خطير ولا يمكن أن يمرّ مرور الكرام دون أثر على النفسية الجماعية لساكنة المنطقة، خاصة إذا ما أشرنا في هذا الجانب إلى طبيعة العلاقة الحميمية التي تربط المجتمع الحسّاني بتراثه الشعبي، وهي علاقة مفهومة جدا في سياق انتقال حديث من البداوة للمدينة شهده هذا المجتمع ولم يتجاوز بعد عتبة الخمسين سنة، وهي فترة قصيرة جدا بمقاييس العارفين بالحقل السوسيولوجي. الإساءة أو الإهانة بمفهومها الاجتماعي لا تأتي دائما على هيئة المواقف الجانبية المحدودة والتي قد تحدث على حين غِرّة بين عُنصريْن متنافرين حالَ بينها طارئٌ ما، بل قد تكون في كثير من الأحيان موقفا مُسيئا تبنّاه مسؤول ما وألبسه عن عمد عباءة الرسمية كي يشرعن به سوءَ ما اقترفه. ومن هنا، كانت معظم الفقرات المبرمجة في موسم طانطان بنسخته الأخيرة 2018 محلّ امتعاض ورفض وإدانة من لدن ساكنة المنطقة، شيبها قبل شبابها وبسطائها قبل مثقفيها ومهاجريها قبل مقيميها، ذلك أنها حملت هذه المرة سمة الحُرمة في التجاوز على ما لا يُقبلُ تجاوزه عادة في الصحراء، وسقط المشرفون فيها سقطةً لا تُغتفر، فكيف يمكن اختزال الجانب التراثي الثري لمجتمع الصحراء ولساكنة البدو في بضع لوحات من الموسيقى الحسانية والتي شابها ما شابها من سوء التنظيم والتدبير، وفي خيمة شعر لم تخرج يوما عن نطاق الشعبي منه وكأن المنطقة لم تتغير ولا تزال حبيسة أدراج الماضي وعلب الزمن الغابر، وكأنّ لا شيء حدث في ثقافة أهل الصحراء ولا استجد إلا حفل العريسين وإلا استعراض أزياء النساء التقليدية لكي تشرف عليه المؤسسة المنظمة، والتي كان مقرّها من عجائب الصدف بعيدا جدا هناك في الرباط، فما أبعد الرباط جغرافيًّا عن طانطان وما أبعد المؤسسة المشرفة عن ثقافة المنطقة وتراث أهلها !! إقصاء الثقافة الحديثة والقفز على كلّ ما تحرّك في بحر المجتمع الصحراوي في الجنوب هو جزء من هذا التجاوز الذي ما زال المسؤولون على الشأن الثقافي يصرّون عليه، بالرغم من كل النداءات التي صدرت من هنا وهناك، ما زالت الثقافة في منطقة الصحراء في نظر هؤلاء تُختزل في خيمة ودَرّاعَة (اللباس التقليدي للرجل في المجتمع الحساني) ومَلْحْفَة (اللباس التقليدي للمرأة في المجتمع الحساني) وفي موكبٍ للهجن وآخر للخيل، لا شيء تغير في الصحراء ولا أقلامَ تكتب، كل شيء شعبي وكل تراثنا شفهي. يبدو أنّ أشياء كثيرة قد فاتتِ المنظمين ويا للغرابة حقا! الشعر الفصيح لا وجود له في مجمل الأنشطة الرسمية في كل ملتقيات الصحراء، وأبرزها موسم طانطان، لا حضور لحديث يذكر عن الرواية ولا عن المسرح ولا رائحة للفكر ولا لندوات النقاش، كلُّ ما طفى على السطح مهرجاناتٌ صاخبة لموسيقى قد لا تتناسب كثيرا مع هيئة الموسم والذي هو روحي وثقافي بالأساس، وحفلاتٌ ومسابقاتٌ للطبخ والرقص واستعراضٌ مخزٍ للأجساد في إطار ما سُمّي زورًا بعرض الأزياء الحسانية، والغريب هو أنّها كانت أنثوية ركّزت على الملحفة حصرًا وغابت الدَّرّاعة، تماما كما غابت الثقافة عن برامج هذا الموسم، بعلم المسؤولين وبإشراف من المؤسسة المنظمة. السؤال التنموي في حصيلة الموسم الثقافي بطانطان حاضرٌ وبقوة في أبجديات المساءلة في مستواها الأكاديمي المستقل، وغائبةٌ حتما على الطاولة الرسمية؛ ذلك أن الوتيرة السنوية والتي تميزت بها نشاطات هذا الموسم كان من المفترض أن تُستَغلّ بشكل صحيح ومُنتج على نحو يجعل الفترة الفاصلة بين النسخة والنسخة على امتداد سنة كاملة مرحلةً سانحة لتدارس النتائج المحصل عليها واستشراف الآفاق التي يجب الانفتاحُ عليها وخلقُها في قادم الدّورات، وكُلُّها أشياء لم تتغير. المليارات الكثيرة التي صُرفت وتُصرف تحت أعين المؤسسة المشرفة وبحضور السلطات الوصية بالإقليم وعلى امتداد سنوات طويلة، لم تحرّك شيئًا يذكر في مياه التنمية الراكدة بإقليمطانطان وبكل الجهة، فالأزمة الاجتماعية ظلت بعيدة عن محاور الموسم، لا أوراش سياحية استفادت من قيمة الإنفاق الذي كان ولا فرص استثمارية تم جذبها لداخل الإقليم، وقد ظل العنصر الثقافي كما كان دوما مُغيبا وبعيدا عن دائرة التنمية، وبقيت بذلك التنمية المستدامة هي الأخرى حلمًا بعيدا جدا عن منال الساكنة ورواد الإقليم. إنّ العناية بالجانب الثقافي ليست عنصر ترف، ولا يجب أن يتم النظر إليها على هذا النحو، خاصة ونحن بصدد التأسيس لدورات مقبلة من هذه التظاهرة الثقافية الأكبر على صعيد جهات المغرب الجنوبية، إذ ينبغي أن تكون التنمية هي البوصلة التي تُحرّك اتجاه البناء في المشهد الثقافي، لا نحتاج إلى ندوات شكلية تستعرض السؤال التنموي على هيئة فرضيات وعروض للاستهلاك الإعلامي، ولا نحتاج كذلك إلى لوحات وفقرات من عروض الفولكلور الشعبي بصيغة التبضيع والتسطيح، ولا نحتاج في الوقت نفسه إلى شوط جديد من البيروقراطية والاحتكار الإداري في التعاطي مع هذه الفعاليات الثقافية؛ بل نحن مجبرون جميعا على سلك مسار جديد من التشاركية والتماهي مع مطالب المعنيين من ساكنة الاقليم والمنطقة – وكلُّهم معنيون بالمناسبة-، ومحتاجون في الوقت ذاته إلى النهوض بالقيمة الفنية والثقافية للموسم عبر اعتماد خطة عمل جماعية لا يُقصى فيها طرف من معادلة البناء، بغيةَ الرجوع إلى النقطة التي تعيدنا إلى روح الموسم ومعناه الحقيقي، لا ذاك الذي وقعنا فيه اليوم. إنّ تجاهلَ الجانب المعرفي في موسم طانطان الثقافي لم يعد مقبولا أبدا، ولا بد من إعادة الاعتبار للعقل في دائرة التراث، نحن ملزمون اليوم بتبني مقاربة معرفية تكون في صلب الموسم ولا تُستضافُ شكليًّا على الهامش. وكمْ يشدّني في هذا الإطار نموذج منتدى أصيلة شمال المغرب، وهو الذي أصبح اليوم بعد أربعين نسخة من العطاء مثالا حيا من أمثلة الاحتفاء المُنتج بالثقافة والفكر المحلي والوطني والكوني دون أن يُغرّبَ التراثَ المحلي لمنطقته، ودون أن يكون السؤال التنموي غائبا عنه. نحن اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى إعادة النظر في برنامج موسم طانطان، وتغليب الرؤية المنطقية لخلق التصور المثالي والأكثر نجاعة لنسخه القادمة، بغية الرفع أولا من مستوى إنتاجيتها ثقافيا وفنيا، وبالموازاة ثانيا مع زيادة حجم المردودية الاقتصادية وهو ما يجب أن نسير به في منحى مستقيم صوب هدف أسمى هو التنمية الحقيقية الشاملة والمستدامة في إقليمطانطان ومنطقة الصحراء عموما. *شاعر وباحث في الاقتصاد