العنوان التي استقيته سوف يستفز البعض من أعداء اللغة العربية الذين ينسبون إليها كل الموبقات، ويعلقون كل الأخطاء على تلك اللغة الجميلة بتعابيرها وسلاستها وغناها بشهادة غير العرب. ما جعلني أكتب عن هذا الموضوع هو لجوء بعض المؤسسات التعليمية والوزارة المعنية إلى نظام فرنسة التعليم من الباب الخلفي، حيث بدأت بعض المؤسسات ترسل أساتذتها إلى دورات تدريبية استعدادا لطرح برامج التعليم بالفرنسية خلسة. كان من المفروض لأمر كهذا أن يشهد نقاشا في البرلمان، وأن تشارك فيه فعاليات مغربية وكفاءات تعيش بالمهجر حتى تدلي بدلوها في موضوع يضع مستقبل البلاد على المحك. لكني أعود وأطرح سؤالا يعقب السؤال المركزي: هل فعلا طبق التعريب في المغرب حتى نحكم عليه بالفشل؟ و الحقيقة أن ما حصل من ارتجالية واستعجال في موضوع التعريب يحصل الآن في موضوع الفرنسة. وكما لو أننا حين كنا ندرس بالفرنسية استطعنا أن نبلغ القمر و نبدع و نخترع و نطور. لكي أجيب عن هذا السؤال أود أن أورد بعض الملاحظات من خلالي خبرتي المتواضعة: أولا: إن التعريب لم يطبق في المغرب بالمعنى الحقيقي أو كما ينبغي، لأن الأستاذ أو المعلم يتكلم بالدارجة المغربية مع التلاميذ عوض الحديث باللغة العربية الأصيلة. ومن يتابع قناة الرابعة لبعض أساتذة العلوم، مع كل إحترامي وتقديري لفضلهم وفضل كل أساتذتنا علينا، وهم يشرحون تراهم يتكلون بالشكل التالي "إذا كان x ماشي ن l'infini فإن الدالة f(x) غادي تتجه نحو صفر لأن الدالة f(x) ...." ولقد أشفقت كثيرا على الطلاب وتساءلت: كيف سيكتبون ما قاله الأستاذ؟ هل بالعربية أم بالفرنسية أم بالدارجة؟ ثم كيف يطالبون بالإجابة عن الأسئلة في الإمتحان باللغة العربية بينما يتم تدريسهم بلغة هجينة؟ الملاحظة الثانية: لماذا توقف التعريب عند الثانوي ولم يذهب إلى الجامعي؟ والكل يعلم أن هذا قرار سياسي تدخلت فيه لوبيات فرنسية وأخرى موالية لها. وبدون مراعاة المجهودات النفسية للطالب، بمجرد ما يحصل هذا الأخير على الباكالوريا ويلتحق بالتعليم العالي يطلب منه أن يدرس بالفرنسية و في العديد من الأحيان يضطر أستاذ التعليم العالي ليشرح بالدارجة هو الآخر لكي يوصل الفكرة للطلبة. ونتيجة هاته السياسة الغير مدروسة أنشأنا جيلا فاقدا للغة العربية والفرنسية والإنجليزية، اللهم إلا إذا استثنينا بعض المجهودات الفردية للطلبة أو المدرسين. وأخيرا لماذا لم تتم الإستعانة بدول سبقتنا في التعريب مثل سوريا ومصروالعراق؟ هاته الدول التي لولا تآمر الدول الإستعمارية، مع بعض الدول "الشقيقة" الحاقدة، لكانت أبدعت في شتى مجالات العلوم. ويكفي أن نشير إلى أناس عظماء درسوا في هاته الدول باللغة العربية وهاجروا وتأقلموا في الغرب وأبدعوا أمثال: أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، مجدي يعقوب أشهر جراح للقلب في العالم، فاروق الباز عالم الفضاء والفلك ومن بينهم أيضا الدكتور عادل محمود اختصاصي علم الأوبئة ومخترع العديد من الأمصال الذي توفي من حوالي شهر ولم يعلن عنه في الإذاعات العربية إلا حينما نعاه بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت على حسابه في تطبيق التغريدات تويتر. إن التعريب في نظري له أعداء داخليون وخارجيون. ففي الداخل هناك من يعادي اللغة العربية صراحة لأسباب عرقية أو دينية، مع أن القرآن الكريم لم يتكلم عن العرق بل تكلم عن اللسان العربي، فكل من ملك اللسان العربي يسمى عربيا. وهناك من يخجل من إستعمال اللغة العربية بل حتى الدارجة، ومن يتوافد على فنادق الرباط والدار البيضاء سوف يجد أن الموظفين يصرون على إستعمال الفرنسية حتى ولوتكلم الزبون بالعربية وهذه قلة الإحترام. وأغرب من ذلك دعوة بعض دعاة التنوير بإدخال الدارجة في برامج التعليم، ولم أجد أسخف من هكذا دعوة، لكن ما يثلج صدري هو أن معظم هؤلاء المتنورين لايحسنون اللغة العربية لأنهم درسوا في مدارس "ولاد الفشوش" وبالتالي يمكن التماس العذر لهم. على المستوى الخارجي لقد كانت فرنسا دائما العدو اللدود للعربية كما أنها تعتبر دوما المغرب والجزائر وتونس جزءا من حديقتها الخلفية، وبالتالي أي إستقلال لغوي سوف تقاومه ولو بالسلاح. وحتى لو تبنى المغرب إدخال اللغة الإنجليزية كلغة للعلوم سوف تثور ثائرة فرنسا. التعريب لم يفشل وإنما تم إفشاله، والفرنسة لن تنجح في إنقاذ تعليمنا من المستوى الهزيل الذي وصل إليه. الاهتمام الآن يجب أن ينكب على إصلاح الإستراتيجيات الإستعجالية و الترقيعية الفاشلة التي أنتهجت على مدى السنوات الماضية، هاته الخطط الفوضوية التي من كوارثها انها أقبرت المدرسة العمومية على حساب دكاكين تسمى مدارس خاصة. وفي الأخير أوجه ندائي إلى السادة الحاقدين على اللغة العربية: إن هاته اللغة ليست بحاجة أن تثبت نفسها لكم، فهي اللغة الوحيدة التي فعلت مالم تفعله أي لغة أخرى، حينما قام العلماء المسلمون في عصور النهضة الذهبية بترجمة كل الكتب التي وصلت إليهم إلى اللغة العربية. هاته الكتب كانت مكتوبة بلغات صعبة مثل: الآرامية و الإغريقية بأنواعها الستة، والفارسية أيضا بعدد أنواعها السبع و الهندية وغيرها من اللغات. و كانت بذلك أكبر حركة ترجمة في التاريخ استفاد منها العالم إلى الآن. واستطاعت اللغة العربية أن تستوعب كل المفاهيم الواردة في تلك الكتب وتصهرها في بوتقة واحدة لتكون أول حركة معيارية في التاريخ (Standardisation) نتيجة تصميم العلماء الذين، ولله الحمد، لم يكن بينهم من يتهم اللغة العربية بالقصور أو العجز، بل إن العجز عن إستعمال اللغة العربية يعود إلى المستعمل نفسه. *أستاذ البحوث ومدير نظم الأبحاث جامعة تكساس أي أند إم فرع قطر.