خلال السنوات الأخيرة، باتت تشكل التقارير التي تصدرها تباعا المؤسسات الدولية المهتمة بمجال التنمية البشرية، مصدر إزعاج حقيقي للحكومة المغربية، إذ تصنف هذه التقارير المغرب في مراتب جد متدنية، لا تعكس بالمرة، حقيقة المجهودات الكبيرة التي تبذلها المملكة، خاصة بعد وضع مخططات كبرى تروم الارتقاء بجودة مؤشرات التنمية البشرية، كما هو متعارف عليها دوليا. ويبدو أن بعض المؤسسات الوطنية نفسها، خاصة الدستورية منها، بدأت تسير في نفس المسار، مشيرة إلى أن المغرب مازال يعيش عجزا حقيقيا في تحقيق تنمية بشرية حقيقية، رغم الميزانيات غير المسبوقة التي خصصتها المملكة لتنفيذ بعض البرامج التنموية. في هذا السياق، سنكتفي بسرد نماذج ثلاثة، لمخططات تشكل الأضلاع الرئيسية للتنمية البشرية في جميع دول العالم: "محاربة الفقر والهشاشة"، "التعليم" و"الصحة". هي مخططات كلفت الدولة موارد بشرية و مالية و لوجسيتكية هائلة، دون أن تحقق الأهداف المنشودة. أكثر من ذلك، فقد ساهم سوء تدبيرها في تخلف المغرب أكثر فأكثر في مؤشرات التنمية البشرية على المستوى العالمي. فيما يتعلق بمحاربة الفقر والهشاشة، شكلت "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" التي تم إرساؤها سنة 2005، المخطط الأبرز من أجل محاربة الفقر والهشاشة، وكذا الإقصاء الاجتماعي في المغرب. بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على انطلاقتها، يبدو أن النتائج لم تكن مقنعة، ولم ترق لا إلى مستوى تطلعات الفئة الهشة، ولا الميزانية الضخمة التي تم تخصيصها على مدى سنوات عديدة. في مجال التعليم، فتح المغرب أوراشا كبرى للإصلاح، كان آخرها "البرنامج الإستعجالي"، خلال الفترة الممتدة من 2009 إلى 2012. هذا الورش كلف خزينة الدولة 33 مليار درهم. اليوم، لا أحد يعرف الحصيلة الحقيقية لهذا البرنامج. المفارقة الغريبة، أن حصيلة التقرير الأخير الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، يشير إلى تراجع كبير في مؤشرات الأداء بالنسبة للمدرسة والجامعة المغربيتين، خاصة خلال الفترة التي كان فيها المغرب يطبق فيها "البرنامج الإستعجالي. " في مجال الصحة، شكل تحسين وتعميم نظام التغطية الصحية أحد البرامج الطموحة لسياسة التنمية الاجتماعية، حيث علق عليه المواطن المغربي، آمالا كبيرة لضمان الحق في العلاج. خلال المراحل الأولى من التطبيق، ظهرت تعقيدات كبيرة في المساطر، كما أن النظام الجديد لم يحمل جديدا في ما يتعلق بمضمون الخدمات الصحية نفسها. الإشكال أن العدوى ستنتقل إلى القطاع الخاص، الذي بات هو الآخر يعاني من الضغط و الإكتظاظ، بعدما أصبح يختلق الأسباب الحقيقية و غير الحقيقية من أجل مجابهة تحديات الاستثمار في القطاع الصحي، هنا أصبح المواطن المغربي حائرا في قطاع حساس، لا يحق فيه للإنسان أن يحتار كثيرا... فلماذا يفشل المغرب في تنزيل مخططات التنمية البشرية، بينما نجح في تنزيل أوراش قطاعية أخرى لا تقل أهمية؟ ولربما في هذا السياق، كانت دعوة الملك محمد السادس في خطاب العرش الأخير، الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين، للقيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال الدعم والحماية الاجتماعية. من وجهة نظرنا هناك خمسة عوامل رئيسية تجعل صناع القرار بالمغرب، أمام عجز مزمن في تنزيل المخططات الكبرى، والتي تروم الارتقاء بجودة الخدمات المقدمة للإنسان المغربي. العامل الأول يتعلق بالمشاكل البنيوية والهيكلية التي تعيشها الإدارة المغربية، خاصة تلك التي تهم القطاعات المتعلقة بالتنمية البشرية. ويبدو أن الحكومة الحالية، عاجزة عن وضع تصور واضح لإصلاح الإدارة، وربما هي الآن بصدد وضع "اجراءات استعجالية" لإصلاح الإدارة، في محاولة لامتصاص الانتقادات الملكية المتتالية. نعتقد أن رهان الحكومة على ربح المزيد من الوقت في هذا الشأن، وعدم التصدي بحزم وشجاعة لاختلالات الإدارة، سيحد من نجاح البرامج الحالية وحتى المستقبلية منها... العامل الثاني هو الآخر ذو طبيعة بنيوية، ويرتبط ارتبطا وثيقا بالعامل الأول، الأمر يتعلق بالفساد المالي والإداري. فالطبيعة الإستعجالية لبعض البرامج التنموية، تشكل فرصة مواتية للنهب والاختلاس، خاصة وأن أغلب هذه البرامج تستدعي صرف ميزانيات كبيرة، وداخل غلاف زمني محدد. ورغم تبوث حالات الفساد المالي والإداري في تنفيذ بعض البرامج، بقيت تقارير المجلس الأعلى للحسابات حبيسة الرفوف. وبالتالي، فمن السهل أن نتكهن، بمآل البرامج في الحاضر و المستقبل... العامل الثالث، يتعلق بتسييس القطاعات الوزارية التي تشرف على تنفيذ برامج التنمية البشرية. وللأسف الشديد، يعتبر هو الآخر مشكلا بنيويا داخل المغرب، لا يقتصر تأثيره السلبي فقط على مجال التنمية البشرية، بل يتعداه إلى مجالات أخرى. فعوض أن ينكب الوزير السياسي، على أجرأة برنامج معين، بشكل مهني وموضوعي، يضع أولوياته وفق أجندة الحزب الذي ينتمي إليه، وكيفما كانت النتائج. كما قد يتعاقب وزيرين أو أكثر على تنفيذ نفس البرنامج، وربما تتداخل البرامج بين قديم وجديد دون، محاولة الربط بينهما، فتضيع الحقيقة، ويضيع المال العام، ويستحيل تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة... العامل الرابع يتعلق بالطبيعة الإرتجالية التي تتسم بها مرحلة إعداد ووضع هذه البرامج التنموية. ففي ظل غياب أو تغييب تشخيص دقيق وعميق للمشاكل الحقيقية المراد معالجتها، يتم وضع الخطوط العريضة للبرامج دون إشراك حقيقي للأطراف الفاعلة داخل الميدان. وبالتالي، فالمخططات يتم رسمها داخل مكاتب للدراسات، إما داخل المغرب وغالبا خارجه، بعيدا عن تصورات الفاعلين، وانتظارات المواطنين، فتصطدم هذه المخططات أثناء التنزيل بالواقع، وغالبا ما تكون مؤشرات الأداء التي يتم وضعها لمتابعة التنفيذ، بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقي... العامل الخامس و الأخير، يتعلق بنظرية المؤامرة التي ظلت تطبع تعامل الحكومة المغربية مع منتقديها، سواء مع مضامين التقارير الدولية، ومع المعارضة، ومع النقابات وبشكل مباشر مع الشارع. ويبدو أن هذا الأمر جعل الحكومة السابقة، تتعامل بتوجس كبير مع كل الانتقادات التي تتوجه لها، وعوض أن تقوم بتحليل المعطيات ودراستها، أرست في المقابل، أسلوبا للردع، يبتعد كل البعد عن أسلوب "رجال الدولة". وعلى نفس المنوال، سارت الحكومة الحالية ، التي أحدثت قبل أشهر قليلة، لجنة وزارية يناط بها "مواجهة تقارير المنظمات الدولية التي تتهم عبر تصنيفاتها المغرب"، في مجالات من بينها التنمية البشرية. فشل الدولة في تنزيل برامج التنمية البشرية لا يعفي بالمرة مسؤولية الأفراد بمختلف درجاتهم، والمهام التي يمارسونها، سواء في القطاعين الخاص أو العام. هم أيضا يتحملون قسطا وافرا من المسؤولية. المفارقة أن تجد بعضا من هؤلاء الأفراد، يتظاهرون في الشارع، من أجل تحقيق مطالبهم الاجتماعية التي يعتبرونها عادلة. صحيح أن الدولة تتحمل المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية، في السهر على تنفيذ سياساتها وبرامجها التنموية، لكن الموارد البشرية، بمقاربتها الفردية والجماعية، تعتبر الركيزة الأساسية، والضمانة الحقيقية لتحقيق الإصلاح المنشود. كتابة هدا المقال لايروم الإجابة بشكل مباشر وشاف على السؤال المطروح، فالأمر أكثر تعقيدا من ذلك. فهو لا يعدو أن يكون مجرد فسحة للتأمل، تهدف إلى حث الحكومة الحالية على التفكير بشكل عميق، في مواجهة التحديات الحقيقية للتنمية البشرية، والتي بدأت تأخذ في السنوات الأخيرة أبعادا جديدة، في "أفق القيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال التنمية البشرية". هو تفكير عميق، يتمناه المواطن المغربي أن يكون قريبا كل القرب من ألآلامه و آماله، وبعيدا كل البعد عن المزايدات السياسوية الضيقة التي تربط الممارسة الحكومية بالاستحقاقات الانتخابية القادمة. *أستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش [email protected]m