تطل من نافذة بيتك في حي القدس... في ساحة الأقصى المواجهة لبيتك يعلو ضجيج أطفال صغار يهرولون خلف كرة تعاونوا على شرائها من متجر الحاج إسماعيل في شارع غزة... يعود بك مشهد الأطفال إلى ذكريات الصبا هناك في حي طولكرم، حيث كانت عائلتك تسكن سابقا؛ لكن صوت بائع متجول -قادم من زنقة خان يونس- يقطع شريط ذكرياتك... آه... إنها الخامسة مساء، لا تنس موعدك مع صديقك أبي نادر في مقهى بيت لحم بشارع دير ياسين.. أنت الآن في فلسطين؛ عفوا في أكادير. هكذا بدا لي المشهد في أكادير بعد قرار المجلس البلدي هناك بإطلاق أكثر من أربعين اسما فلسطينيا على مجموعة من الشوارع والأزقة في أحد أحياء المدينة. وهكذا، علقتُ على الخبر في صفحتي الفيسبوكية.. كان من الطبيعي أن يثير القرار المذكور ردود فعل غاضبة من لدن نشطاء الحركة الأمازيغية، وكان حريا بجميع القوى الديمقراطية والحقوقية في البلد أن ترفض هذه الخطوة التي اتفق كثير من المعلقين على تسميتها ب"فلسطنة أكادير"؛ لأن الأمر يتجاوز مبدأ التضامن مع الفلسطينيين ليتحول إلى مس واضح بالهوية المغربية. في كل بقاع الدنيا، يتم إطلاق أسماء الشوارع والأزقة والمدارس والمستشفيات والمركبات الثقافية والفنية والرياضية ومختلف المؤسسات، من وحي الذاكرة الجماعية للشعوب. لذلك، يتم الاحتفال بالشخصيات والأماكن التاريخية التي تحتفظ بها تلك الذاكرة، سواء كانت تحمل دلالة ورمزية محلية أو كونية. وهذا يعني أن وسم شوارع وأزقة ومرافق المدن بأسماء لأماكن أو أحداث أو شخصيات لها بصمتها وحضورها في التاريخ الخاص والعام يعد أمرا محمودا ومعمولا به في كل بقاع العالم؛ لكن عندما يتحول الأمر إلى عملية استيراد بالجملة لأسماء مدن وقرى وأحياء فلسطينية وتوطينها في شوارع وأزقة مدينة لها تاريخها ومعالمها وشخصياتها، التي تستحق الاحتفاء والتخليد الرمزيين قبل غيرها، فإن ذلك يؤكد أن المسألة تتجاوز منطق الشعور العاطفي تجاه القضية الفلسطينية إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك، فعندما تعج شوارع أكادير الأمازيغية بيافطات تحتفي بأماكن غريبة عن المجال والوجدان وغير معبرة عن الانتماء والهوية والأرض، فذلك يعني أن سياسة التعريب (تعريب اللسان والمكان) ما زالت تمضي قدما في طريقها المرسوم منذ الاستقلال، وهي هذه المرة تكتسي مشروعية شعبية من خلال تبرير قرار تغيير أسماء الشوارع والأزقة بكونه جاء استجابة لمطالب رفعتها هيئات مدنية جمعوية تنشط في المدينة. المجلس الجماعي بأكادير يعتبر أن إطلاق الأسماء الفلسطينية يخص حيا واحدا هو "حي القدس"، وذلك حتى تكون أسماء الأزقة والشوارع منسجمة مع خصوصية الحي المذكور. وتبعا لهذا المنطق العجيب، ينبغي على المجالس المنتخبة في كل المدن المغربية التي توجد بها أحياء سكنية تحت مسمى "القدس" (وهي كثيرة على كل حال) أن تحذو حذو مجلس أكادير حتى تعبر كل أسماء شوارعها وساحاتها ودروبها عن خصوصية أقداسها.. كما ينبغي، تأسيسا على ذلك أيضا، أن تعيد كل المجالس البلدية التي تسير الشأن المحلي في المدن المغربية تسمية أزقتها وشوارعها ومعالمها السياحية والثقافية والاجتماعية بما ينسجم مع خصوصية أسماء الأحياء التي توجد بها... أما إذا صدرنا هذه القاعدة إلى الخارج، فإن مسيري مدينة نيويوركالأمريكية مثلا مطالبون بتغيير كل الأسماء واليافطات في الحي الصيني الشهير الذي يضج بكل تفاصيل الثقافة الصينية.. ومع ذلك فإن المعالم الأمريكية لم يتم طمسها وتغييرها في أسماء الشوارع والجسور والمسارح والمنتزهات التي توجد في الحي المذكور... هل إطلاق اسم "تيزنيت" أو "مراكش" أو "إداوتنان "مثلا على شارع صغير في حي "القدس" يسيء إلى خصوصية هذا الحي؟. أليس غريبا أن ينتبه هؤلاء إلى ضرورة الحفاظ على خصوصية مزعومة لحي باسم مستورد دون أن ينتبهوا إلى أهمية الحفاظ على الموروث التاريخي والانتماء الهوياتي للمدينة؟. ولماذا يسعى المجلس إلى تحويل حي بأكمله إلى مستوطنة لأسماء فلسطينية؟. سيكون المنظر مثيرا بالتأكيد عندما تسمى أزقة قدس أكادير بأسماء مدن وقرى فلسطينية من قبيل: طولكرم ونابلس ويافا وغزة وبئر السبع... وهي مكتوبة بحروف عربية وأمازيغية (تيفناغ) على لوحات التشوير. أليس هذا دليلا على أن فلسطين تسكن وجداننا عربا وأمازيغ؟. ثم أليست كتابة اسم فلسطيني بحروف التيفناغ شرفا للأمازيغية وتطبيعا معها؟؟. إن ما أقدم عليه المجلس الجماعي لمدينة أكادير يعد تحديا واضحا لمساعي المصالحة الهوياتية التي دشنها المغرب، منذ إقرار ترسيم الأمازيغية بموجب دستور 2011. ويبدو أن "فلسطنة أكادير" تعد خطوة جديدة في سياق التأجيل الممنهج لترجمة هذه المصالحة على أرض الواقع في ظل التعثر الذي يعرفه تنزيل مضامين الوثيقة الدستورية وتفعيلها. وليس بغريب أن يكون قرار طمس معالم أكادير صادرا عن مجلس يقوده حزب العدالة والتنمية الذي نعرف جيدا مواقفه من الأمازيغية لغة وثقافة وهوية. ولن يكون الأمر مفاجئا لو سمعنا مجلس أكادير يتبنى اسما جديدا للمدينة، وتبدو تسمية "الغدير" كما علق أحد الظرفاء ساخرا مناسبة جدا للسياق.