إن كان انهيار المعسكر الاشتراكي رسميا، بداية تسعينيات القرن الماضي، دشن لحقبة جديدة أو لنظام دولي جديد أنهى النظام الدولي أو العالمي، الذي وضعت أسسه اتفاقية يالطا في فبراير 1945، فإن التطورات داخل المعسكر الغربي وعلاقته بالإدارة الأمريكية، بزعامة دونالد ترامب، تؤسس لنظام دولي جديد يتجاوز ويتعارض مع جديد (النظام الدولي الجديد) السابق. وقبل الحديث عن ملامح ومؤشرات النظام الدولي الجديد، الذي يسعى الرئيس ترامب إلى فرضه، نستحضر أهم المتغيرات والتحولات، التي كانت وراء الحديث عن النظام الدولي الجديد، بعد حقبة الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، وهي كما يلي: الانتقال من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية، بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، مع مؤشرات على تعددية قطبية مرنة. انهيار المعسكر الاشتراكي، وتحوَّل روسيا الاتحادية إلى مجرد دولة كبيرة كغيرها من الدول الكبرى. استمرار، بل زيادة قوة المعسكر الغربي - الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي- بعد انضواء غالبية دول أوروبا الشرقية إليه. وجود الولاياتالمتحدةالأمريكية على رأس العالم الغربي/ الحر. الانسجام والتوافق بين دول أوروبا وواشنطن، وإقرار الأولى بالزعامة الأمريكية بدون منازع، والانسجام والتوافق بين دول الاتحاد الأوروبي. كانت المراهنة على أن العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وفي ظل النظام الدولي الجديد، سيصبح أكثر أمنا واستقرارا، خصوصا أن انهيار المعسكر الاشتراكي أوجد حالة من نشوة الانتصار - انتصار بدون حرب - والطمأنينة بأن الخطر النووي والعقائدي الاستراتيجي، الذي كان يهدد الغرب عسكريا وحضاريا، قد زال، وما عزز حالة الطمأنينة تزامن ذلك مع انتشار ظاهرة العولمة، التي بشرت بإزالة الحدود والحواجز والانفتاح بين دول العالم، بل وصل الأمر حد أن البعض بشر بنهاية زمن الصراعات والتَسيّد الأبدي للغرب، بزعامة واشنطن، على العالم (نظرية نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما). عدة أحداث عززت حالة الثقة بالنظام الدولي الجديد، والثقة بقدرة واشنطن على قيادته، فخلال العقدين المواليين لانهيار المعسكر الاشتراكي، انضمت عدة دول من أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلسي، إضافة إلى حرب الخليج الثانية، ونجاح التحالف الغربي في إجبار جيش صدام حسين على الانسحاب من الكويت، ولاحقا احتلال العراق سنة 2003، وعقد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، ثم اتفاقية أوسلو سنة 1993 بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تلتها اتفاقية وادي عربة مع الأردن سنة 1994، وتدخل حلف الأطلسي لحسم الحرب في البوسنة والهرسك سنة 1992، والخروج بأقل الخسائر من الأزمة الاقتصادية سنة 2008 مع أسعار متوازنة للنفط، وبعدها فوضى الربيع العربي ونتائجها الكارثية على العرب، والإيجابية على الغرب، وخصوصا واشنطن، وتوقيع اتفاقية الملف النووي مع إيران 2015، بالإضافة إلى نشوة الانتصار لدى حلفاء الغرب التقليديين، خصوصا إسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج العربي. كل شيء أخذ بالتغير داخل الحلف أو المعسكر الغربي، وعلى مستوى النظام العالمي بكامله، مع فوز الرئيس الأمريكي ترامب في انتخابات 2016. لم يكن فوز الرئيس الأمريكي ترامب مجرد تحول وانتقال ديمقراطي داخلي من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري، بل كانت لسياساته الخارجية تأثيرات على النظام الدولي لا تقل أهمية عن انهيار المعسكر الاشتراكي، وهي تأثيرات مست كل المناحي، التي كانت تشكل معالم أو مرتكزات النظام الدولي، الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والعسكرية والإستراتيجية. وقد تزامن هذا مع متغيرات داخل أوروبا نفسها كاتحاد وكدول تشبه حالة التفكك، مع العودة القوية لروسيا الاتحادية إلى المشهد العالمي. في عهد الرئيس ترامب لم يعد الحديث يدور عن الصراعات التقليدية بين الغرب والشرق أو بين حلف الأطلسي وروسيا الاتحادية، بل عن صراعات وخلافات داخل المعسكر الغربي أو العالم الحر ذاته، مما ينذر بتحولات جدية على المعسكر أو الحلف الغربي، وعلى النظام الدولي. ومن أهم هذه المتغيرات أو مؤشرات التحول: رفع الرئيس ترامب منذ حملته الانتخابية شعار: أمريكا أولا. الخلافات بين إدارة ترامب وأوروبا حول مسألة أو اتفاقية المناخ، وانسحاب واشنطن من الاتفاقية. خلافات أمريكية أوروبية حول اتفاقية التجارة الحرة وفرض الرسوم. خلافات أمريكية أوروبية حول الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، وتشكيك ترامب في جدوى وجود هاتين المؤسستين. الموقف الأمريكي المعادي للقانون الدولي والأمم المتحدة. تباين المواقف حول عملية التسوية السياسية في الشرق الأوسط، وحول صفقة القرن الأمريكية. خلافات حول الهجرة واللاجئين. التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي "Brexit"، وتهديد دول أخرى بخطوات شبيهة. أزمات اقتصادية تضرب أكثر من دولة أوروبية، آخرها اليونان. خلافات حول ملف الهجرة، خصوصا بين إيطاليا من جهة، وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى. تصاعد الشعوبية لدرجة مطالبة بعض الأقاليم بالانفصال عن الدولة الأم، كما هو حال إقليم كاتالونيا بإسبانيا، واسكتلندا مع بريطانيا.. لم تعد أوروبا تنظر إلى واشنطن كزعيمة للمعسكر الغربي. خلافات أمريكية أوروبية حول اتفاقية الملف النووي الإيراني. عودة روسيا بقوة إلى المشهد الدولي عسكريا وسياسيا واقتصاديا. ما يؤكد التحولات في النظام الدولي، وفي العلاقات داخل ما يسمى المعسكر الغربي، أن القمة القادمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والروسي بوتين، في السادس عشر من يوليوز الجاري، تثير تخوفات حتى لدى الدول الأوروبية نفسها، التي لم تعد تشعر في عهد ترامب بأن واشنطن زعيمة للعالم الحر ومدافعة عن مصالحه، فخلافات ترامب مع أوروبا تثير خشية الأوروبيين من أن يكون التفاهم الروسي مع ترامب على حساب مصالحهم. كما أن اللقاء يثير قلق حلفاء آخرين كاليابان وكوريا الجنوبية وحلفاء في الشرق الأوسط. فماذا تبقى من المعسكر أو الحلف الغربي؟. [email protected]