ستتصفحون مجلات وجرائد كثيرة هذه الأيام، حيث ستقرؤون أهم الأحداث التي وقعت خلال السنة التي نودع، وأكثر الشخصيات إثارة للجدل فيها . سترون صور الناجحين في مشاريعهم الذين حققوا حلما من أحلامهم خلال هذا العام الصعب، وسترون صور الفاشلين الذين خانهم الحظ ستقرؤون مئات الصفحات حول الشخصيات التي تركت لمسة وديعة على وجه هذه السنة، والشخصيات التي تركت آثار الصفعة على خدها. "" سيتحدثون لكم عن المقاولين الناجحين الذين شيدوا ثرواتهم بالحديد والاسمنت والطوب. والسياسيين الذين استطاعوا أن يتسلقوا أكتاف الجماهير نحو الهرم العالي للسلطة. سيخبرونكم بكل شيء نحو الفنانين وأنصاف الفنانين، عن مشاريعهم التي أنجزوا و المهرجانات التي حضروها بقفاطينهم و بدلاتهم المكوية بعناية وابتساماتهم الصفراء. سيراجعون معكم أحداث السنة حدثا وراء حدث، مثل معلمين في فصل. سيذكرونكم بالكوارث التي نسيتموها والآلام التي تعودتم على التعايش معها. سيذكرونكم بالأطفال الذين رحلوا فجأة بسبب البرد في أعالي الأطلس، وبالمواليد الجدد الذين جاؤوا إلى العالم هذه السنة، وفي أفواههم ملاعق من ذهب. كلهم سيعددون أمامكم الأحداث والشخصيات التي خلقت الحدث خلال هذه السنة. لكن تأكدوا أن لا أحد بين كل هؤلاء سيقبل أن يعترف بأن الذي خلق الحدث الإعلامي هذه السنة في المغرب هي جريدة يقال لها "المساء". ولذلك فقد قررت أن أصنع ذلك بنفسي هذا الصباح. منذ الاستقلال وإلى الآن لم يحدث في تاريخ المغرب المعاصر أن حققت جريدة يومية مغربية انتشارا واسعا كالذي حققته جريدة "المساء". ففي أقل من سنة استطاعت هذه اليومية التي انطلقت برأسمال متواضع أن تجد لها مكانا فوق مكاتب الوزراء وفوق طاولات المقاهي وبين أروقة الإدارات وتحت معاطف رجال الأمن. وهكذا في ظرف أشهر قليلة أصبحت "المساء" هي الجريدة التي يستطيع أن يقرأها ماسح الأحذية وسائق التاكسي والوزير و البرلماني و المثقف خريج الجامعات والأمي السابق خريج مدارس محاربة الأمية ورجال الأمن والعاهرات و الشواذ والإسلاميون والعلمانيون وبقايا الشيوعيين والسلفيون والسياسيون من كل اتجاه. دون أن ننسى رجال الاستعلامات الخاصة، الذين يقرؤونها أحيانا بالمقلوب. ولو كنا في دولة ديمقراطية فيها إعلام مستقل ونقابات و فيدراليات إعلامية لا يعاني أصحابها من عقد النقص وجنون العظمة، لحصلت "المساء" من طرف هؤلاء على لقب "جريدة السنة". فالجميع يتحدث عنها، وحتى الذين يكرهونها ويتمنون كل صباح أن تنشق الأرض وتبتلع العمارة التي توجد فيها مقراتها، يدمنون على قراءتها كل يوم من الغلاف إلى الغلاف. ومن كثرة ما أصبح يحلم بنا بعض هؤلاء الزملاء صاروا لا يسألون عن أرقام مبيعات جرائدهم، وإنما يسألون عن أرقام مبيعاتنا أكثر مما نسأل عنها نحن. لذلك قررنا أن ننشر ترتيب اليوميات المغربية حسب مبيعات كل واحدة، طبعاً دون أن نذكرها بالأسماء، حتى لا يتابعنا بعضهم بتهمة إفشاء سر من أسرار "دولة الصحافيين المستقلة". ولعل أكبر مفارقة لحظتها منذ أن أصبحت مديراً لهذه الجريدة، هي خوف أغلب مدراء الجرائد من إماطة اللثام عن أرقام مبيعات جرائدهم. وكم اندهش عندما أرى هؤلاء المدراء يدبجون افتتاحياتهم النارية ويطالبون الحكومة والبرلمان بالشفافية وتطبيق قانون التصريح بالممتلكات، حتى يكون الشعب على بينة من ممتلكات من يمثله. وفي مقابل هذا الحماس الزائد المطالب بالشفافية نصدم عندما نكتشف كم يصبحون فاترين وخائفين ومترددين وحساسين، بشكل لا يوصف عندا يتعلق الأمر بالكشف بكل شفافية عن أرقام مبيعات جرائدهم. يريدون الشفافية فقط عند الآخرين، لكنهم يرفضونها لأنفسهم. منذ أن خرجت "المساء" إلى الوجود ارتفعت مبيعاتها شهرا وراء شهر. وبالمقابل تراجعت مبيعات جميع اليوميات الأخرى بدون استثناء، وتوقفت، للأسف يوميات أخرى في الطريق الشاق انطلقت في الوقت نفسه الذي انطلقنا فيها بعد أن فشلت في انتزاع ما يكفي من القراء للاستمرار على قيد الصدور. "كيف تفسر هذا النجاح"، سألتني فلورونس بوجي، الصحافية بجريدة لوموند الفرنسية في قطار السابعة بين الدارالبيضاء والرباط، وهي تسجل ملاحظاتها فوق مذكرتها الصغيرة أجبتها أن الاستقلالية هي سر نجاح هذه الجريدة. وتابعت أسئلتها الماكرة "وهل أنتم مستقلون عن كل الجهات. نظرت إليها وقلت لها "لا يا سيدتي هناك جهة نحن تابعون لها بشكل كلي" عدلت فلورنس من جلستها كأنها عثرت على رأس الخيط الذي ستفتتح به مقالها حول "المساء" في ذكراها السنوية الأولى والذي صدر في 21 نونبر الماضي بجريدة لوموند تحت عنوان "روبن دي بوا المغربي" وقالت متحمسة "من هي هذه الجهة" قلت لها إننا غير مستقلين تماماً عن شخص لديه حسابات بنكية في كل المدن المغربية، شخص لديه شركة واسعة الانتشار يساهم فيها حوالي ثلاثين مليون مغربي. رجل ذكي يعرف أين يضع ثقته، رجل من كثرة ما قامر بمستقبله علمته الخسارة أن يراهن على الجواد الرابح. رجل يقال له الشعب. وعندما يتعب البعض نفسه في البحث عن الجهة التي تقف وراء "المساء" فإن خياله يجنح به نحو كل الأحزاب المغربية والمنظمات الدينية المحظورة والمرخص لها، والمؤسسات المالية والمخابراتية المغربية والعالمية، لكنه ينسى أن يفكر قليلاً في الجهة الحقيقية التي تقف ورائنا. إنه الشعب. فهو الجهة التي تدعمنا يومياً بالتمويل الضروري للبقاء والاستمرار في الصدور دون حاجة إلى التملق إلى أية جهة أو أية شخصية مهما كان نفوذها. ولذلك فانا أعتقد صادقاً أنه إذا كان هناك من رجل يستحق أن يحمل لقب رجل السنة هذا العام فهو القارئ المغربي. فقد ضلوا ينعون رحيله طيلة السنوات الأخيرة ويبكون على قبره ويعلقون على غيابه المحزن فشلهم في تسويق جرائدهم. إلى أن جاءت المساء وأكدت بالملموس بان الذي مات وتعفن ويحتاج إلى قبر يواري جثمانه ليس القارئ وإنما هذه الجرائد نفسها. وعندما سألتني فلورنس ذلك السؤال الذي يسألوني إياه الصحافيون الأجانب الذين لا يقرؤون العربية ويكتفون بما سمعوا بعض الزملاء يرددونها "هل أنتم شعبويون"، قلت لها "نحن شعبيون"، وهنا يكمن الفرق. ثم عادت وقالت متسائلة عن سبب الهجوم علينا من طرف البعض فقلت لها أن الهجوم الأشرس لم يأت من الدولة أو الحكومة أو الشعب، وإنما جاء من بعض زملائنا في المهنة. وقلت لها أيضاً وهذا منشور في المقال، أن الحسد والغيرة مشاعر إنسانية أتفهمها جيداً. فحلم أي صحافي في العالم أن يكون ما يكتبه مقروءاً على نطاق واسع، الحمد لله ما يكتب في "المساء" مقروء على نطاق واسع. ولو كنت واحد من أولئك الزملاء ورأيت كيف يقبل الناس بمختلف طبقاتهم وقناعاتهم على قراءة "المساء" لشعرت بالغير من نجاحها وتمنيت لو كنت أنا أيضاً لدي جريدة ناجحة مثلما هي "المساء" ناجحة. هذا شعور بشري لا يمكن أن نعاتب عليه أصحابه. المشكلة هي عندما يتحول الحسد إلى رغبة حقيقية في التصفية. هي أن يكلفك نجاحك رأس جريدتك. وعوض أن يعترفوا بهذا النجاح غير المسبوق في المغرب، ويكون أنيقين في حربهم كأي خصم نبيل، يفضلون أن يضعوا "المساء" في قائمة الأخطار التي تهدد الأمن العام والسلم الاجتماعي والانتقال الديمقراطي. يعني أن المغرب سيكون بنظرهم أجمل إذا ما توقفت "المساء" عن الصدور. وعوض أن ينتبهوا إلى القيمة المضافة التي حققتها المساء في المشهد الإعلامي المغربي، وان يعترفوا لها بكل المواضيع التي كانت سباقة إلى إثارتها، واتهموها عندما نشرت فضيحة أشرطة القضاة العراة بتلويث سمعة القضاء، وخلال الانتخابات بالعدمية وبالفاشية، وعلق عليها الاتحاد الاشتراكي انتحاره في صناديق الاقتراع، واليوم بسبب ما وقع في القصر الكبير يتهمونها بتهييج المواطنين وتهديد الأمن العام. وعوض هذا الهجوم الشرس في الداخل، حظيت "المساء" في صحافة الدول الديمقراطية بمقالات موضوعية في كل من "لوموند" و"لوكوريي أنترناسيونال" و"إلموندو" و"إلبيريوديكو" وزارت مقرها قنوات تلفزيونية فرنسية واسبانية وهولندية وبلجيكية. كلهم اجمع على أن "المساء" تجاوزت كونها مجرد جريدة وإنما أصبحت تمثل ظاهرة اجتماعية تستحق الدراسة والتأمل. أعتقد أنني قلت كل ما كنت أريد قوله. بأنانية زائدة ربما، لكن بصدق. فالإنسان لا يجب أن يخجل من نجاحه. فنحن كنا دائماً متواضعين وسنظل متواضعين، لكن نعرف أيضاً كيف ندافع عن تواضعنا بافتخار عندما يريد بعض المغرورين تحويل التواضع إلى فشل. شكراً لكل القراء الذين وقفوا خلفنا منذ اليوم الأول الذي طلبنا فيه ثقته، فلم يبخلوا بها علينا إلى اليوم. شكراً لهم لأنهم يضمنون من جيوبهم يومياً استمرار هذه الجريدة وسط الأعاصير والأنواء. وأريد أن أقول لهم جميع بأننا لن نغير دفة السفينة بحسب ما تشتهيه الرياح، وإنما سنستمر في الصمود وسط الإعصار، لأن هذا قدرنا. وعلى من تزعجه هذه القدرة على المقاومة أن يفهم أنه لا سبيل لتقدم هذا البلد سوى المقاومة والمقاومة والمقاومة. مقاومة الرداءة والنفاق والانتهازية. وكل سنة وصباحكم سعيد و"مساؤكم" أسعد ... عمود شوف تشوف جريدة المساء العدد 398 الاثنين 31 دجنبر 2007.