ضبط عبد اللطيف آيت بوفرون إمكاناته المادية والاجتماعية وهو يختار الاستثمار في مستقبله من خلال بوابة الصناعة التقليدية، متحولا إلى سفير لفن النقش على جبس وفق الطريقة المغربية التي تلاقي الإقبال في عُمان. لازم "المْعْلّم" المغربي سلطنة عُمان لفترة قاربت على معادلة ربُع قرن من الزمن، وخلالها نجح في فرض اسمه بين أعلام "تاكبَّاصت" بهذا البلد، مفلحا في ولوج أوراش كبرى لتجميلها ب"زخارف إسلامية" عبر نقوش يدوية. اشتغال مبكر ولد عبد اللطيف آيت بوفرون في مدينة مراكش وسط أسرة متواضعة، وذاق اليتم بعدما فقد والديه دون أن يتخطّى الرابعة من عمره؛ ما جعله يبقى في كنف أخواته حتى اشتدّ عوده، ليتجه نحو سوق الشغل في سن مبكرة. ويقول آيت بوفرون: "لم يكن لديّ نصيب كبير من الدراسة؛ لأن الحمل كان ثقيلا على من يعيلني، فكانت وجهتي نحو عالم الصناعة التقليدية من أجل تعلم حرفة تعينني وأسرتي على الحاضر والمستقبل". الخيار انصب على تعلم النقش فوق الواجهات الجبسية، وكانت الانطلاقة من مدرسة أنشأها المعلّم لمان الحسين في "دوار العسكر" بمراكش، ثم جرى صقل ذلك باشتغالات وسط عدد من الأوراش مع "معلّمين" آخرين، غالبيتهم وافتهم المنية حاليا. هروب من الفقر يشدد عبد اللطيف على أن تشبثه بإتقان فنون النقش قد جعلته، بمرور السنوات، يتشبع بتقنيات هذه المهنة والغدو واحدا من حملة أسرار هذا التراث المادي، وبعد ذلك أطلق يديه ومخياله للإبداع في الإنتاجات الجبسية. "بالرغم من عملي في المغرب وتحصلي على مداخيل من عرق جبيني، ومراكمتي إشادات بشأن النقوش التي أقوم بها، فإن العائدات المالية لم تكن تكفي لانتشالي وأسرتي من الفقر"، يورد آيت بوفرون بخصوص تلك الفترة. ويشدد الحرفي ذاته على أنه اختار الهجرة نحو المنطقة الخليجية هربا من الفقر، مبتغيا مستقبلا أفضل، من جهة، ومراهنا على التعريف بالتعبير الثقافي المغربي الذي ينتجه بيديه، من جهة ثانية. فكانت سلطنة عُمان وجهة له. إلى مسقط وقف أحد "الصنايعيَّة" الذين يعرفهم عبد اللطيف، والذي سبقه إلى الهجرة صوب السلطنة، في وصول آيت بوفرون إلى مسقط سنة 1996، وكان الغرض من ذلك مشاركة الحرفي المشهور ببراعته في تزيين أسقف أوراش كبرى بزخارف مغربية. ويسرد "ابن مراكش" ما جرى بقوله: "تلقيت اتصالا من صديق يطلب مني الالتحاق به للعمل في عُمان، وقد وافقت على ذلك أملا في تحسين أوضاعي .. لكنني خلت الأمر مستغرقا لسنة أو اثنتين، بينما انخراطي فيه بقي مسترسلا". نجح آيت بوفرون في إبهار أول مشغل له بالزخارف التي بصم عليها فور قدومه إلى السلطنة، وقد كانت على الواجهة الداخلية من قبّة أحد المساجد؛ وهو ما جعل أداء هذا الصانع التقليدي المغربي مطلوبا في ورش تلو آخر. استئناس واغتراب يقول المنتمي إلى صف "مغاربة العالم" إن اندماجه في البيئة العُمانية لم يكن أمرا صعبا، خاصة أن الشعب العُماني يبقى متسما بالطيبوبة والكرم وحفاوة الاستقبال، وله طقوس وعادات شبيهة بنظيراتها المغربية. ويستدرك عبد اللطيف: "الغربة تبقى صعبة بالنظر إلى عوامل ذاتية؛ أبرزها افتقاد الأقارب والأصدقاء والمعارف.. أما الاشتغال كصانع تقليدي في أوراش عديدة، بمناطق مختلفة، فهو إيقاع يزيد من وطء هذا الإحساس". آيت بوفرون يعتبر أن النجاحات التي حققها في حياته المهنية بالبلاد، خاصة المرحلة التي أضحى فيها يتواصل مع شركات الفنون والديكورات الكبرى، وارتفاع الإقبال على نقش الجبس بالطريقة المغربية، من إشراقات تجربته الخليجية التي أبقته متشبثا بعُمان. استمرار النقش راكم مكتسب حرفته في "دوار العسكر" المراكشي ما يكفي من التجربة ليتحول إلى خبير في فنون الديكور المعتمدة على النقوش الإسلامية، عارضا خدماته الاستشارية على ثلة من المؤسسات الرائدة في هذا الميدان بسلطنة عُمان. هذا التطور لم ينجح في إبعاد عبد اللطيف عن نقش الجبس بالزخارف التي يبرع فيها؛ لكنه أضحى مفردا تدخلاته الشخصية للأوراش الكبرى التي يبتغي الواقفون على تشييدها الظفر بميزات تزيين ذات حمولة ثقافية بارزة. "العمل اليدوي الحقيقي يبقى شغلي إلى اليوم، ولا نية لي في التنازل عن السعادة التي تغمرني وأنا أؤدّي هذه المهمة.. أما باقي الأعمال التي ترتكز على قوالب جاهزة، بعيدا عن الصناعة التقليدية التي أبرع فيها، فإني أكلف آخرين بإنجازها"، يكشف أيت بوفرون. تعريف بالمملكة يبدي "المْعْلّْم عبد اللطيف" فخرا كبيرا حين تتم المناداة عليه ب"المغربي"، مشددا على أن قسطا وافرا من اشتغاله المهني يكون بهدف التعريف بالصناعة التقليدية المغربية، وإبراز المملكة بوجه لامع في أقصى مستويات جودة المنتوج النهائي. ويصر "ابن عاصمة النخيل" على أن استقراره في سلطنة عُمان، بالرغم من جلبه مكاسب مالية لم تصل حجم التوقعات البدئية، أفرز تعريفا ممتازا بفن نقش الجبس بالأسلوب المغربي الأصيل، وتصويرا حسنا لاجتهاد المغاربة في العمارة. آيت بوفرون، من جهة أخرى، يبدي استياءه من التأثير السلبي الذي صدر عن التكنولوجيات الحديثة تجاه الصناعة التقليدية، بتقليص التدخلات اليدوية.. معتبرا الحلحلة متصلة ب"عمل المدارس على تهذيب الذوق العام وتقريب الحرف من الأجيال الصاعدة". خيار ثان يستدعي متخطي 22 سنة من العيش في عُمان خبرته كي يعلن، في رسالة إلى المغاربة الحالمين بخوض غمار تجارب هجرة، بأن الرحيل عن الوطن الأم يبقى مرّا كيفما كانت مستويات النجاح التي يدركها المرء. ويشرح عبد اللطيف: "سواء كان الغرض دراسيا أو مهنيا؛ أنصح الجميع باستنفاذ كل الفرص في البلد الأصل قبل التحرك خارجه"، ويضيف: "من ابتغى التجريب فإنه مطالب بإعداد العدّة لهذه الخطوة". "ينبغي أن يحصل المهاجرون على جرعات مضاعفة من الصبر والاجتهاد والمثابرة لتحقيق أهدافهم في المجتمعات التي يفدون عليها، دون أن يغفلوا عن البقاء خير مثال للمغرب والمغاربة في عيون الآخرين"، يختم عبد اللطيف آيت بوفرون.